بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب(في رحاب العقيدة)ج1للمرجع السيد الحكيم حفظه الله(ص175وما بعدها)
-[ 175 ]-
(أحد أبناء العامة يسأل)س... : الإمام المهدي المنتظر عند السنة هو غير الإمام المهدي عند الشيعة. هل يمكن القول بصحة الرأيين معاً أم لا؟ وما وجه الصواب أهو عند السنة أم عند الشيعة؟
(جواب سماحة السيد حفظه الله) :
ج: يحسن التعرض في جواب ذلك لأمور..
1 ـ الإمام المهدي المنتظر عند المسلمين جميعاً واحد، وهو الذي أخبر عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) مِن بعده، وإنما الخلاف بين المسلمين..
أولاً: في نَسَبه.
فقد أجمع الشيعة على أنه مِن ذرية الإمام أبي عبدالله الحسين السبط الشهيد (صلوات الله عليه)، وأنه تاسع الأئمة مِن ذريته، وآخر الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
ووافَقَهم على ذلك جماعةٌ مِن علماء السنة. ويَشْهد له أخبار كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة مِن آله (صلوات الله عليهم) دلَّت على ذلك نَصًّا، أو استفيد منها بضميمة أدلة أخر.
وذهب جمع آخرون مِن علماء السنة إلى أنه مِن ذرية الإمام أبي محمد الحسن السبط الزكي (صلوات الله عليه)، لأخبارٍ رَوَوْها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وثانياً: في أنه هل ولد، وهو موجود فعلاً، أو لا، بل سوف يولد عند أوان قيامه؟
وقد أجمع الإمامية على الأول، واعتقدوا أنه الإمام الغائب الذي ينتظر
-[ 176 ]-
إذْنَ الله تعالى له بالظهور. ووافقهم على ذلك أيضاً جماعة مِن علماء السنة.
وذهب جماعة كثيرة من علماء السنة إلى الثاني.
والإمامية ومَنْ وافَقَهم يحْتجُّون بأخبار وأدلة قامت على ولادته. أما الفريق الثاني فالظاهرُ أنه ليس له أدلة تنفي ولادتَه، بل هو لم ينظر في أدلة الإمامية على ولادته، أو لم يقتنع بتلك الأدلة. ولمَّا لم تثبت عنده ولادته، واستبعد بقاءَه هذه المدة الطويلة، حكم بعدم ولادته، واضطر للبناء على أنه سوف يولد عند أوان قيامه.
2 ـ أما القول بصحة القولين معاً فلا مجال له بعد كون المهدي شخصاً واحداً بشّر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). إذ الشخص الواحد لا يجمع الحالتين المختلفتين المتضادتين. بل لابدّ مِن صحة أحد الرأيين دون الآخر، بعد انحصار الأمر بهما وعدم خروجه عنهما. وعلى ذلك فإذا تمت الحجة على صحة أحد القولين كانت بنفسها حجةً على بطلان القول الآخر.
3 ـ أما الصواب مِن الرأيين فمِن الطبيعي أن نذهب إلى أنه رأي الشيعة الإمامية، لوفاء الأدلة عندنا بذلك. ومِن الظاهر أنه لا يهمّك معرفة رأينا بقدر اهتمامك بمعرفة أدلتنا.
وحيث كان الإمام الغائب (عجل الله فرجه) هو خاتم الأئمة الإثني عشر، فالحديث عن وجوده وإمامته يبتني على تمامية دعوى الشيعة الإمامية في الإمامة والخلافة، وتمامية الأدلة التي استدلوا بها على دعواهم، في مقابل دعوى السنة في الإمامة والخلافة وأدلتهم عليها.
والحديث في ذلك متشعب وطويل جدًّا، لا يسعنا استيفاؤه واستقصاؤه في هذه العجالة. وعلى طالب الحقيقة أن يتولى ذلك بنفسه.
-[ 177 ]-
لابد مِن تحديد نظام الحكم عند الشيعة والسنة
نعم هنا أمر يحسن التنبيه له، وهو أن المقارنة بين مذهب الشيعة في الإمامة ومذهب السنة فيها لا ينبغي أنْ تُعْرَض على أساس المقارنة في استحقاق الإمامة بين شخصين أو أشخاص محدودين، كالإمام علي (عليه السلام) وأبي بكر، أو أهل البيت (صلوات الله عليهم) في جانب، والصحابة أو المهاجرين أو قريش عموماً في جانب،لأنّ الإسلام هو الدين الخاتم للأديان والباقي في الأرض ما بقيت الدنيا، والمفروض أن يكون هو الحاكم في الأرض ما بقي وبقيت، فلابد في تشريع الإسلامِ لنظام الحكم مِن أنْ يكون النظام الذي شرعه صالـحاً لحكم الأرض باستمرار، ولا يختص بأفراد أو جماعة مخصوصين، وينتهي بانتهائهم.
وعلى ذلك لابد مِن عَرْض المقارنة بين مذهب الشيعة في الإمامة ومذهب السنة فيها على أساس المقارنة بين نظامين صالحين لتنفيذ التشريع الإسلامي في الأرض باستمرار، ما دام فيها إنسان يريد الله تعالى منه أن يكون مسلمًا.
وبعد تعيين نظام الحكم في الإسلام، وإقامة الأدلة الشرعية عليه، يكتسب الحاكم على أساسه شرعية الحكم والإمامة، ويفقد الخارجُ عنه الشرعيةَ مهما كان شأنه. وإلى ذلك يرجع قول أمير المؤمنين الإمام علي (صلوات الله عليه): "اعرف الحقَّ تعرف أهلَه" (1).
أما مع عدم تعيين نظام الحكم المشرّع في الإسلام فلا معنى للحديث عن شرعية حكم الحاكم وإمامته، وعدم شرعية غيره، مهما كان شأنهم.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي 1: 340 في تفسير قوله تعالى ((ولا تلبسوا الحق بالباطل)) من سورة البقرة الآية (42). فيض القدير شرح الجامع الصغير 1: 28،272 في شرح الحديث المرقم (288) (اختلاف أمتي رحمة)، 4: 23 في شرح الحديث المرقم (4409) (رب حامل فقه غير فقيه). أبجد العلوم 1: 126 الإعلام الثامن في آداب المتعلم والمعلم في الجمل السابعة.
-[ 178 ]-
وبعد ذلك نقول: نظام الحكم في الإسلام عند الشيعة يبتني على أن تعيين الإمام إنما يكون بِجَعْلٍ مِن الله تعالى، مِن دون حاجة إلى مشاورة أحد أو بيعته أو إقراره، وأنّ الله جل شأنه لابد أنْ يُعَرِّف الناسَ بشخص الإمام الذي جعله بحجة كافية واضحة، من طريق نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الناطق عنه والمبلغ لشريعته، أو من طريق الإمام المنصوب من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ ذلك الإمام ينطق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والنبي ينطق عن الله تعالى.
وعلى ذلك يذهب الشيعة إلى أنّ الأئمة الذين جعلهم الله سبحانه وتعالى بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتمّ تبليغه بهم، هم اثنا عشر، وأنهم مِن أهل بيته، وأنّ أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه)، ثم الحسن السبط الزكي (عليه السلام)، ثم الحسين السبط الشهيد (عليه السلام)، ثم تسعة مِن ولد الحسين متعاقبين ولداً عن والد، تاسعهم قائمهم، وهو الإمام محمد بن الحسن المهدي الغائب المنتظر (عجل الله تعالى فرجه). وهم وحدهم يملكون شرعية الإمامة والخلافة، دون غيرهم مهما بلغ شأنهم. وللشيعة على ذلك أدلتهم التي عوَّلُوا عليها، والتي يحتجون بها، ويحاولون إقناعَ غيرهم بمؤداها.
أما مذهب السنة في الإمامة فلا يخلو عن غموض، ولا يتيسر لنا تحديده، ليكون طرفاً في المقارنة مع مذهب الشيعة فيها، كما يشهد بذلك النظر إلى واقع خلافتهم، وما فرضوه على أنفسهم مِن شرعية كلِّ ما حصل.
غير أنه ربما يحاول بعضهم دعوى ابتناء نظام الخلافة عندهم على اختيار الأمة. ولو تم ذلك فهو لا يصلح لأن يكون نظاماً متكاملاً إلا بعد أن يحدد فيه بصورة دقيقة:
أولاً: مَن له حقّ الترشيح للإمامة والخلافة مِن حيثية النسب،
-[ 179 ]-
والسن، والمقام الديني والاجتماعي، وغير ذلك.
وثانياً: متى تسقط أهلية الشخص المنتخَب للخلافة؟ والأسباب التي تقضي بانعزاله منها، كالجور في الحكم، أو مطلق الفسق، والخَرَفِ أو المرض، والعجز المطلق أو الضعف، وغير ذلك. مع تحديد ذلك بدقة رافعة للاختلاف، تَجَنُّباً عن مثل ما حصل في أمر عثمان، حيث طلب الذين ثاروا عليه أنْ يتخلى عن الخلافة، لعدم أهليته، وامتنع هو مِن ذلك، لدعوى أنه لا يَنْزع عنه لباساً ألبسه الله تعالى إياه. وكما وقع بعد ذلك في العهد الأموي والعباسي والعثماني.
وثالثاً: مَن له حق الاختيار والانتخاب، مِن حيثية النسب، والسنّ، والمقام الديني والاجتماعي، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك؟
ورابعاً: كيف نحرز الأمور المذكورة؟ وهي تَحَقُّق شروط الترشيح في الشخص، وتَحَقُّق شروط الانتخاب فيمَن يتصدى له، وبقاء أهلية الخليفة أو سقوطه عنها، وعلى أي طريق نعتمد في إثبات هذه الأمور؟
وخامساً: صلاحيات الإمام والخليفة. إذ بعد أنْ خالف السنة الشيعة، فذهبوا إلى عدم عصمة الخليفة، وأنه يعمل باجتهاده، لا بعهد مِن الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلابد مِن تحديد صلاحياته، فإنَّ الواقع العملي للخلفاء عند السنة في غاية الاختلاف والاضطراب.ففي الوقت الذي يصر فيه السنة على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعهد بالخلافة لشخص خاص، وأنه ترك المسلمين يختارون لأنفسهم، نرى أبا بكر قد عهد بالخلافة لعمر، ثم عهد عمر بضوابط اختيار الخليفة بعد أن قصر المرشحين لها على نفر خاص، ثم بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عثمان باختيار وجوه المهاجرين والأنصار واندفاع عامة المسلمين مِن دون عهد
-[ 180 ]-
مِن عثمان، ثم بويع الإمام الحسن (عليه السلام) بنَصِّ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) عليه، أو باختيار الناس - على الخلاف - واستغل معاوية خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري في واقعة التحكيم، ليعلن أنه الخليفة الشرعي.
وبعد ذلك كان الغالب ثبوت الخلافة لِلّاحق بنَصِّ السابق، إلا أن تتدخل القوة، فتفرز خليفةً لا نص عليه. وربما نص السابق على أكثر مِن واحد ممّن بعده على التعاقب، كما فعله مروان بن الحكم وعبدالملك بن مروان، وغيرهما في جميع دول الإسلام.
كما ربما خلع الخليفة، أو ولي العهد، وعيّن غيره بالقوة، في تفاصيل يطول شرحها، ذكرها المؤرخون.
بل ربما زاد الأمر على ذلك، فلم يكتف الخليفة بالنص على مَن بعده، وإنما تعدّاه لِجَعْلِ نَصِيبٍ في الحكم لِفئةٍ مِن الناس، فقد حاول أبو بكر أنْ يُضْعِف جانبَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام)، ويجعل العباسَ بن عبد المطلب لجانبه، فعَرضَ عليه أنْ يجعل له ولولده في الخلافة نصيبًا، إلا أنّ العباس رفض ذلك، فقال:
"وأما ما بذلت لنا فإنْ يكن حقَّك أعطيتناه فأمسكه عليك، وإنْ يكن حقَّ المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، وإنْ يكن حقَّنا لم نرض لك ببعضه دون بعض..." (1).
هذا كله في أمر الخلافة، وأما بقية أمور الدين والتشريع فقد تدخل الخلفاء فيها، حيث يأتي في جواب السؤال السابع التحجيرُ على السنة النبوية في عهد أبي بكر وعمر، ومنع الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا في حدود ضيقة، وكذلك الحال في عهد معاوية حيث قال: "يا ناس أقلوا الرواية عن رسول الله، وإنْ كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يُتَحدَّث به
ـــــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة 1: 221، واللفظ له. الإمامة والسياسة 1: 18 كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه). تاريخ اليعقوبي 2: 125 ـ 126 خبر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر.
-[ 181 ]-
في عهد عمر..." (1).
وفرَضَ عُمرُ آراءه في الدين على المسلمين،كتحريم المتعتين - متعةالحج ومتعة النساء - وإمضاء الطلاق الثلاث، وغير ذلك مما هو مسطور مشهور.
وكان لاتجاهات الحكام الأثر المهم في توجيه وجهة الجمهور في الحديث والعقائد والفقه، وقد عرض المنصور العباسي على مالك بن أنس أن يكتب في الفقه كتاباً يحمل الناس عليه (2).
كما أنّ المأمون نادى بتحليل المتعة ثم تراجع عن ذلك (3)، وقد حمل الناس على القول بخلق القرآن ونفى رؤية الله عزوجل في الآخرة، وروج آراء المعتزلة، وبقي الأمر على ذلك، حتى غيره المتوكل، وأمر بنشر أحاديث الرؤية، وظهر القول بعدم خلق القرآن، ونشط الاتجاه المضاد للمعتزلة.
وفي سنة أربعمائة وثمان للهجرة استتاب القادرُ الحنفيةَ والمعتزلة والشيعةَ وغيرهم من ذوي المقالات المخالفة لمذهبه من مذاهبهم، ونهى عن المناظرة في شيء منها (4).
ثم انتهى الأمرُ إلى أنْ حَصَر المستنصرُ التدريسَ في المدرسة المستنصرية
ـــــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمال 10: 291 حديث:29473، واللفظ له. المعجم الكبير 19: 370 فيما رواه عبدالله ابن عامر اليحصبي القاريء عن معاوية.
(2) الديباج المذهب 1: 25 باب في ذكر الموطأ وتأليفه إياه. وفي رواية أخرى أن المنصور قال لمالك أنه عزم على نسخ كتاب الموطأ وحمل الناس عليه، راجع سير أعلام النبلاء 8: 78 في ترجمة مالك: صفة الإمام مالك، وكشف الظنون 2: 1908، وغيرهما من المصادر.
(3) راجع تاريخ بغداد 4: 199 في ترجمة يحيى بن أكثم، وطبقات الحنابلة 1: 413 في ترجمة يحيى ابن أكثم، وتهذيب الكمال 31: 214 في ترجمة يحيى بن أكثم، وتاريخ دمشق 64: 71.
(4) راجع الكامل في التاريخ 8: 121 في ذكر أحداث سنة 408ه، والبداية والنهاية12: 6 في أحداث سنة 408 ه، والمنتظم 7: 287 في أحداث سنة 408ه، والعبر في خبر من غبر 3: 100 في أحداث سنة 408ه، وغيرها من المصادر.
-[ 182 ]-
بالمذاهب الأربعة التي عليها مدار فقه السنَّة حتى اليوم (1).
ثم جعل العثمانيون المذهبَ الحنفي هو المذهب الرسمي في الدولة... إلى غير ذلك مما لا ضابط له، وكانت المواقف المتناقضة دينيّاً - نتيجةَ ذلك - تتعاقب على الجمهور. ومن المعلوم عدم شرعية ذلك وأنّ الدين لا يتبدل بتبدل السلطة.وإنما حصل ذلك بسبب عدم تحديد صلاحيات الخليفة. ولا يكمل نظام الخلافة إلا بتحديده، وتحديد ما سبق، كما هو ظاهر.
وحيث لا يتيسر لنا فعلاً معرفة مذهب السنة في ذلك، فلابد مِن إيكاله إليهم.
فإذا تم لهم تحديد ذلك كله، وأقاموا عليه الأدلة الشرعية حسب قناعاتهم، بحيث يكون هو المعيار عندهم في شرعية ما وقع ويقع مِن دعوى الإمامة والخلافة، أمكن المقارنة بين نظام الحكم عند الشيعة ونظام الحكم عند السنة، والموازنة بينهما بلحاظ أدلتهما، والنظر في الترجيح بين أدلة الشيعة على النظام الذي يذهبون إليه، وأدلة السنة على النظام الذي يذهبون إليه، ثم الأخذ بالأقوى مِن الدليلين، والذي يصلح أنْ يكون حجة بين يدي الله تعالى يوم يعرضون عليه ((يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )) (2).
أما مع عدم التحديد الشرعي مِن تلك الجهات فالنظامُ ناقص لا يصلح أن يكون طرفاً في المقارنة مع مذهب الشيعة والموازنة بينهما، ويمتنع
ـــــــــــــــــــــــ
(1) راجع تاريخ الخلفاء: 461 في ترجمة المستنصر بالله، والبداية والنهاية 13: 139 في أحداث سنة 631ه، ورحلة ابن بطوطة 1: 244 في مدينة بغداد، العبر في خبر من غبر 5: 123 في أحداث سنة 631ه، وغيرها من المصادر.
(2) سورة النحل الآية: 111.
-[ 183 ]-
تشريعه إسلاميّاً:
أولاً: لاستلزامه نقص الدين، وعدم تحديد موضوع الحكم الشرعي من قبل الشارع الأقدس، فإنّ للإمامة أحكاماً شرعية - كوجوب وجود الإمام، ووجوب طاعته، ووجوب قتال الخارجين عليه - فإذا لم يتم بدقة تحديد نظام الإمامة يلزم جعل الشارع لأحكام الإمامة مِن دون تحديد موضوعها، وهو نقص في الدين والتشريع، ينزه عنه الإسلام العظيم.
بل هو مناف لقوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)) (1)، وغيره مما دل على كمال الدين.
وثانياً: لأنّ الفراغ التشريعي في نظام السلطة سببٌ لإثارة المشاكل والفتنة، واختلال النظام، حيث يتم به المجال للادعاءات المتناقضة، والأهواء المتباينة، وما يترتب على ذلك من انتهاك الحرمات، وانتشار الفساد، وتلف النفوس والأموال، وإنْ كان ذلك كله قد حصل - مع الأسف - بأفظع صوره وأشنعها في الواقع الإسلامي.
وهل يمكن أن يشرّع الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) نظام الحكم، ويجعل فيه منصب الخلافة، ثم لا يجعل الضوابط لتعيين الخليفة؟! وها نحن نرى المسؤولين عن تشريع القوانين الوضعية يبذلون عناية خاصة لتشريع قوانين نظام السلطة من أجل تجنب سلبيات الفراغ التشريعي فيها، فكيف يهملها الله سبحانه وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنهما أحرى بالاهتمام بتجنب السلبيات المذكورة؟!
ولاسيما وأنّ للسلطة والخلافة في التشريع الإسلامي مقاماً رفيعاً وقدسية بالغة، حتى أجمع المسلمون على وجوب معرفة الإمام وبيعته،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة الآية: 3.
-[ 184 ]-
وأن من مات بدون ذلك مات ميتة جاهلية - كما يأتي - وعلى وجوب طاعة الإمام، وحرمة الخروج عليه، وأن الخارج عليه باغ لا حرمة له، ويجب على المسلمين قتاله.
بعض الأدلة على صحة مذهب الشيعة في المهدي (عليه السلام)
ونعود فنقول: إنّ إمامةَ المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) - التي عليها يَبْتَنِي لُزومُ وُجودِه - وإنْ كانت هي آخر لبنة في نظام الإمامة عند الشيعة ومسك ختامه، وقد سبق أنّ الاستدلال على نظام الإمامة عندهم متشعب وطويل، إلا أنّ هناك أمرين مهمين نستطيع أن ننطلق منهما لإثبات وجوده (صلوات الله عليه) وإمامته:
وجوب معرفة الإمام والتسليم له
الأول: أنه قد تظافرت الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه قال: "مَنْ مات ولم يَعْرِف إمامَ زمانِه مات مِيتَةً جاهلية" (1).
أو: "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية" (2).
أو: "من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية" (3).
أو: "من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية" (4).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ينابيع المودة 3: 372. طبقات الحنفية: 457.
(2) مسند أحمد 4: 96 في (حديث معاوية بن أبي سفيان). حلية الأولياء 3: 224 في ترجمة زيد ابن أسلم. المعجم الكبير 19: 388 فيما رواه (شريح بن عبيد عن معاوية). مسند الشاميين 2: 437 (ما انتهى إلينا من مسند ضمضم بن زرعة) في (ضمضم عن شريح بن عبيد). مجمع الزوائد 5: 218 كتاب الخلافة: باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمة والنهي عن قتالهم.
(3) السنة لابن أبي عاصم 2: 503 باب في ذكر فضل تعزيز الأمير وتوقيره. مسند أبي يعلى
13: 366 حديث معاوية بن أبي سفيان.
(4) مجمع الزوائد 5: 224 كتاب الخلافة: باب لزوم الجماعة والنهي عن الخروج عن الأمة وقتالهم.
-[ 185 ]-
أو: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" (1).
ونحو ذلك مما يَرْجِع إلى عدم خُلُوِّ كلِّ عصرٍ مِن إمامٍ تجب على الناس طاعته، لشرعية إمامته (2).
وهو المناسب لقوله تعالى: ((يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)) (3)، حيث يدل على أنّ لكل إنسان إماماً يُدْعَى به.
ـــــــــــــــــــــــ
المجروحين 1: 286 في ترجمة خليد بن دعلج.
(1) صحيح مسلم 3: 1478 كتاب الإمارة: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن. السنن الكبرى للبيهقي 8: 156 كتاب قتال أهل البغي: جماع أبواب الرعاة باب الترغيب في لزوم الجماعة والتشديد على من نزع من الطاعة. تفسير ابن كثير 1: 518 في تفسير الآية: (59) من سورة آل عمران. مجمع الزوائد 5: 218 كتاب الخلافة: باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمة والنهي عن قتالهم. الكبائر للذهبي: 169 في الكبيرة (45) الغدر وعدم الوفاء بالعهد. السنة لابن أبي عاصم 2: 514 باب في ذكر فضل تعزيز الأمير وتوقيره. المعجم الكبير 19: 334 فيما رواه (ذكوان أبو صالـح السمان عن معاوية).
ورويت هذه الأحاديث أو ما يقرب منها في المصادر الشيعية ومنها: الكافي 1: 376 كتاب الحجة: باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى حديث:1، 2،3، 1: 378 كتاب الحجة: باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام حديث:2. وراجع ص: 180 كتاب الحجة: باب معرفة الإمام والردّ إليه، وص:374 كتاب الحجة: باب من دان الله عزوجل بغير إمام من الله جل جلاله. بحار الأنوار 23: 76 ـ 95 باب: وجوب معرفة الإمام وأنه لا يعذر الناس بترك الولاية وأن من مات لا يعرف إمامه أو شك فيه مات ميتة جاهلية وكفر ونفاق.
(2) وقد استفاضت أحاديث الشيعة بذلك عن أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وتوجد الأحاديث المذكورة في الكافي 1: 178 كتاب الحجة: باب أن الأرض لا تخلو من حجة،1: 179 كتاب الحجة: باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة. وراجع:1: 168 كتاب الحجة: باب الاضطرار إلى الحجة، و1: 177 كتاب الحجة: باب أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام، وغيرهم. كما توجد الأحاديث المذكورة في بحار الأنوار 23: 1 ـ 56 باب: الاضطرار إلى الحجة، وص:57 ـ 65 باب آخر في اتصال الوصية وذكر الأوصياء من لدن آدم إلى آخر الدهر.
(3) سورة الإسراء الآية: 71.
-[ 186 ]-
وقد يحاول بعض الناس حَمْلَ الإمام في الآية الشريفة على النبي، وأنّ المراد أنّ أمّةَ كلِّ نبيٍّ تُدعَى معه.
لكنه مخالف لظاهر إطلاق الإمام في الآية الكريمة، فإنّ الإمام في عُرْفِ المسلمين مَن يَأتَمّ الإنسانُ به في أمر دينه ودنياه ويطيعه في أموره، والنبيُّ إمامٌ لأهل زمانه مِن أمته، أما بعد وفاته فلابد مِن شخص آخر يكون لهم إماماً مطاعاً فيهم. وهو الأنسب بالجمع بين الآية الشريفة والأحاديث المتقدمة، حيث تكون هذه الأحاديث شارحة للآية ومفسرة لها.
وعلى كل حال فالأحاديث المذكورة وحدها كافية في إثبات عدم خلوّ كل عصر مِن إمام تجب على الناس بيعته وطاعته، لشرعية إمامته. وذلك أنسب بمذهب الإمامية في الإمامة، وأنها بنَصٍّ مِن الله تعالى، ولا تحتاج إلى اختيار الناس للإمام وبيعتهم له، بل يجب عليهم بيعته وطاعته، بعد أن جعله الله تعالى إمامًا.
من كتاب(في رحاب العقيدة)ج1للمرجع السيد الحكيم حفظه الله(ص175وما بعدها)
-[ 175 ]-
(أحد أبناء العامة يسأل)س... : الإمام المهدي المنتظر عند السنة هو غير الإمام المهدي عند الشيعة. هل يمكن القول بصحة الرأيين معاً أم لا؟ وما وجه الصواب أهو عند السنة أم عند الشيعة؟
(جواب سماحة السيد حفظه الله) :
ج: يحسن التعرض في جواب ذلك لأمور..
1 ـ الإمام المهدي المنتظر عند المسلمين جميعاً واحد، وهو الذي أخبر عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) مِن بعده، وإنما الخلاف بين المسلمين..
أولاً: في نَسَبه.
فقد أجمع الشيعة على أنه مِن ذرية الإمام أبي عبدالله الحسين السبط الشهيد (صلوات الله عليه)، وأنه تاسع الأئمة مِن ذريته، وآخر الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
ووافَقَهم على ذلك جماعةٌ مِن علماء السنة. ويَشْهد له أخبار كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة مِن آله (صلوات الله عليهم) دلَّت على ذلك نَصًّا، أو استفيد منها بضميمة أدلة أخر.
وذهب جمع آخرون مِن علماء السنة إلى أنه مِن ذرية الإمام أبي محمد الحسن السبط الزكي (صلوات الله عليه)، لأخبارٍ رَوَوْها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وثانياً: في أنه هل ولد، وهو موجود فعلاً، أو لا، بل سوف يولد عند أوان قيامه؟
وقد أجمع الإمامية على الأول، واعتقدوا أنه الإمام الغائب الذي ينتظر
-[ 176 ]-
إذْنَ الله تعالى له بالظهور. ووافقهم على ذلك أيضاً جماعة مِن علماء السنة.
وذهب جماعة كثيرة من علماء السنة إلى الثاني.
والإمامية ومَنْ وافَقَهم يحْتجُّون بأخبار وأدلة قامت على ولادته. أما الفريق الثاني فالظاهرُ أنه ليس له أدلة تنفي ولادتَه، بل هو لم ينظر في أدلة الإمامية على ولادته، أو لم يقتنع بتلك الأدلة. ولمَّا لم تثبت عنده ولادته، واستبعد بقاءَه هذه المدة الطويلة، حكم بعدم ولادته، واضطر للبناء على أنه سوف يولد عند أوان قيامه.
2 ـ أما القول بصحة القولين معاً فلا مجال له بعد كون المهدي شخصاً واحداً بشّر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). إذ الشخص الواحد لا يجمع الحالتين المختلفتين المتضادتين. بل لابدّ مِن صحة أحد الرأيين دون الآخر، بعد انحصار الأمر بهما وعدم خروجه عنهما. وعلى ذلك فإذا تمت الحجة على صحة أحد القولين كانت بنفسها حجةً على بطلان القول الآخر.
3 ـ أما الصواب مِن الرأيين فمِن الطبيعي أن نذهب إلى أنه رأي الشيعة الإمامية، لوفاء الأدلة عندنا بذلك. ومِن الظاهر أنه لا يهمّك معرفة رأينا بقدر اهتمامك بمعرفة أدلتنا.
وحيث كان الإمام الغائب (عجل الله فرجه) هو خاتم الأئمة الإثني عشر، فالحديث عن وجوده وإمامته يبتني على تمامية دعوى الشيعة الإمامية في الإمامة والخلافة، وتمامية الأدلة التي استدلوا بها على دعواهم، في مقابل دعوى السنة في الإمامة والخلافة وأدلتهم عليها.
والحديث في ذلك متشعب وطويل جدًّا، لا يسعنا استيفاؤه واستقصاؤه في هذه العجالة. وعلى طالب الحقيقة أن يتولى ذلك بنفسه.
-[ 177 ]-
لابد مِن تحديد نظام الحكم عند الشيعة والسنة
نعم هنا أمر يحسن التنبيه له، وهو أن المقارنة بين مذهب الشيعة في الإمامة ومذهب السنة فيها لا ينبغي أنْ تُعْرَض على أساس المقارنة في استحقاق الإمامة بين شخصين أو أشخاص محدودين، كالإمام علي (عليه السلام) وأبي بكر، أو أهل البيت (صلوات الله عليهم) في جانب، والصحابة أو المهاجرين أو قريش عموماً في جانب،لأنّ الإسلام هو الدين الخاتم للأديان والباقي في الأرض ما بقيت الدنيا، والمفروض أن يكون هو الحاكم في الأرض ما بقي وبقيت، فلابد في تشريع الإسلامِ لنظام الحكم مِن أنْ يكون النظام الذي شرعه صالـحاً لحكم الأرض باستمرار، ولا يختص بأفراد أو جماعة مخصوصين، وينتهي بانتهائهم.
وعلى ذلك لابد مِن عَرْض المقارنة بين مذهب الشيعة في الإمامة ومذهب السنة فيها على أساس المقارنة بين نظامين صالحين لتنفيذ التشريع الإسلامي في الأرض باستمرار، ما دام فيها إنسان يريد الله تعالى منه أن يكون مسلمًا.
وبعد تعيين نظام الحكم في الإسلام، وإقامة الأدلة الشرعية عليه، يكتسب الحاكم على أساسه شرعية الحكم والإمامة، ويفقد الخارجُ عنه الشرعيةَ مهما كان شأنه. وإلى ذلك يرجع قول أمير المؤمنين الإمام علي (صلوات الله عليه): "اعرف الحقَّ تعرف أهلَه" (1).
أما مع عدم تعيين نظام الحكم المشرّع في الإسلام فلا معنى للحديث عن شرعية حكم الحاكم وإمامته، وعدم شرعية غيره، مهما كان شأنهم.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي 1: 340 في تفسير قوله تعالى ((ولا تلبسوا الحق بالباطل)) من سورة البقرة الآية (42). فيض القدير شرح الجامع الصغير 1: 28،272 في شرح الحديث المرقم (288) (اختلاف أمتي رحمة)، 4: 23 في شرح الحديث المرقم (4409) (رب حامل فقه غير فقيه). أبجد العلوم 1: 126 الإعلام الثامن في آداب المتعلم والمعلم في الجمل السابعة.
-[ 178 ]-
وبعد ذلك نقول: نظام الحكم في الإسلام عند الشيعة يبتني على أن تعيين الإمام إنما يكون بِجَعْلٍ مِن الله تعالى، مِن دون حاجة إلى مشاورة أحد أو بيعته أو إقراره، وأنّ الله جل شأنه لابد أنْ يُعَرِّف الناسَ بشخص الإمام الذي جعله بحجة كافية واضحة، من طريق نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الناطق عنه والمبلغ لشريعته، أو من طريق الإمام المنصوب من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ ذلك الإمام ينطق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والنبي ينطق عن الله تعالى.
وعلى ذلك يذهب الشيعة إلى أنّ الأئمة الذين جعلهم الله سبحانه وتعالى بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتمّ تبليغه بهم، هم اثنا عشر، وأنهم مِن أهل بيته، وأنّ أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه)، ثم الحسن السبط الزكي (عليه السلام)، ثم الحسين السبط الشهيد (عليه السلام)، ثم تسعة مِن ولد الحسين متعاقبين ولداً عن والد، تاسعهم قائمهم، وهو الإمام محمد بن الحسن المهدي الغائب المنتظر (عجل الله تعالى فرجه). وهم وحدهم يملكون شرعية الإمامة والخلافة، دون غيرهم مهما بلغ شأنهم. وللشيعة على ذلك أدلتهم التي عوَّلُوا عليها، والتي يحتجون بها، ويحاولون إقناعَ غيرهم بمؤداها.
أما مذهب السنة في الإمامة فلا يخلو عن غموض، ولا يتيسر لنا تحديده، ليكون طرفاً في المقارنة مع مذهب الشيعة فيها، كما يشهد بذلك النظر إلى واقع خلافتهم، وما فرضوه على أنفسهم مِن شرعية كلِّ ما حصل.
غير أنه ربما يحاول بعضهم دعوى ابتناء نظام الخلافة عندهم على اختيار الأمة. ولو تم ذلك فهو لا يصلح لأن يكون نظاماً متكاملاً إلا بعد أن يحدد فيه بصورة دقيقة:
أولاً: مَن له حقّ الترشيح للإمامة والخلافة مِن حيثية النسب،
-[ 179 ]-
والسن، والمقام الديني والاجتماعي، وغير ذلك.
وثانياً: متى تسقط أهلية الشخص المنتخَب للخلافة؟ والأسباب التي تقضي بانعزاله منها، كالجور في الحكم، أو مطلق الفسق، والخَرَفِ أو المرض، والعجز المطلق أو الضعف، وغير ذلك. مع تحديد ذلك بدقة رافعة للاختلاف، تَجَنُّباً عن مثل ما حصل في أمر عثمان، حيث طلب الذين ثاروا عليه أنْ يتخلى عن الخلافة، لعدم أهليته، وامتنع هو مِن ذلك، لدعوى أنه لا يَنْزع عنه لباساً ألبسه الله تعالى إياه. وكما وقع بعد ذلك في العهد الأموي والعباسي والعثماني.
وثالثاً: مَن له حق الاختيار والانتخاب، مِن حيثية النسب، والسنّ، والمقام الديني والاجتماعي، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك؟
ورابعاً: كيف نحرز الأمور المذكورة؟ وهي تَحَقُّق شروط الترشيح في الشخص، وتَحَقُّق شروط الانتخاب فيمَن يتصدى له، وبقاء أهلية الخليفة أو سقوطه عنها، وعلى أي طريق نعتمد في إثبات هذه الأمور؟
وخامساً: صلاحيات الإمام والخليفة. إذ بعد أنْ خالف السنة الشيعة، فذهبوا إلى عدم عصمة الخليفة، وأنه يعمل باجتهاده، لا بعهد مِن الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلابد مِن تحديد صلاحياته، فإنَّ الواقع العملي للخلفاء عند السنة في غاية الاختلاف والاضطراب.ففي الوقت الذي يصر فيه السنة على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعهد بالخلافة لشخص خاص، وأنه ترك المسلمين يختارون لأنفسهم، نرى أبا بكر قد عهد بالخلافة لعمر، ثم عهد عمر بضوابط اختيار الخليفة بعد أن قصر المرشحين لها على نفر خاص، ثم بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عثمان باختيار وجوه المهاجرين والأنصار واندفاع عامة المسلمين مِن دون عهد
-[ 180 ]-
مِن عثمان، ثم بويع الإمام الحسن (عليه السلام) بنَصِّ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) عليه، أو باختيار الناس - على الخلاف - واستغل معاوية خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري في واقعة التحكيم، ليعلن أنه الخليفة الشرعي.
وبعد ذلك كان الغالب ثبوت الخلافة لِلّاحق بنَصِّ السابق، إلا أن تتدخل القوة، فتفرز خليفةً لا نص عليه. وربما نص السابق على أكثر مِن واحد ممّن بعده على التعاقب، كما فعله مروان بن الحكم وعبدالملك بن مروان، وغيرهما في جميع دول الإسلام.
كما ربما خلع الخليفة، أو ولي العهد، وعيّن غيره بالقوة، في تفاصيل يطول شرحها، ذكرها المؤرخون.
بل ربما زاد الأمر على ذلك، فلم يكتف الخليفة بالنص على مَن بعده، وإنما تعدّاه لِجَعْلِ نَصِيبٍ في الحكم لِفئةٍ مِن الناس، فقد حاول أبو بكر أنْ يُضْعِف جانبَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام)، ويجعل العباسَ بن عبد المطلب لجانبه، فعَرضَ عليه أنْ يجعل له ولولده في الخلافة نصيبًا، إلا أنّ العباس رفض ذلك، فقال:
"وأما ما بذلت لنا فإنْ يكن حقَّك أعطيتناه فأمسكه عليك، وإنْ يكن حقَّ المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، وإنْ يكن حقَّنا لم نرض لك ببعضه دون بعض..." (1).
هذا كله في أمر الخلافة، وأما بقية أمور الدين والتشريع فقد تدخل الخلفاء فيها، حيث يأتي في جواب السؤال السابع التحجيرُ على السنة النبوية في عهد أبي بكر وعمر، ومنع الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا في حدود ضيقة، وكذلك الحال في عهد معاوية حيث قال: "يا ناس أقلوا الرواية عن رسول الله، وإنْ كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يُتَحدَّث به
ـــــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة 1: 221، واللفظ له. الإمامة والسياسة 1: 18 كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه). تاريخ اليعقوبي 2: 125 ـ 126 خبر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر.
-[ 181 ]-
في عهد عمر..." (1).
وفرَضَ عُمرُ آراءه في الدين على المسلمين،كتحريم المتعتين - متعةالحج ومتعة النساء - وإمضاء الطلاق الثلاث، وغير ذلك مما هو مسطور مشهور.
وكان لاتجاهات الحكام الأثر المهم في توجيه وجهة الجمهور في الحديث والعقائد والفقه، وقد عرض المنصور العباسي على مالك بن أنس أن يكتب في الفقه كتاباً يحمل الناس عليه (2).
كما أنّ المأمون نادى بتحليل المتعة ثم تراجع عن ذلك (3)، وقد حمل الناس على القول بخلق القرآن ونفى رؤية الله عزوجل في الآخرة، وروج آراء المعتزلة، وبقي الأمر على ذلك، حتى غيره المتوكل، وأمر بنشر أحاديث الرؤية، وظهر القول بعدم خلق القرآن، ونشط الاتجاه المضاد للمعتزلة.
وفي سنة أربعمائة وثمان للهجرة استتاب القادرُ الحنفيةَ والمعتزلة والشيعةَ وغيرهم من ذوي المقالات المخالفة لمذهبه من مذاهبهم، ونهى عن المناظرة في شيء منها (4).
ثم انتهى الأمرُ إلى أنْ حَصَر المستنصرُ التدريسَ في المدرسة المستنصرية
ـــــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمال 10: 291 حديث:29473، واللفظ له. المعجم الكبير 19: 370 فيما رواه عبدالله ابن عامر اليحصبي القاريء عن معاوية.
(2) الديباج المذهب 1: 25 باب في ذكر الموطأ وتأليفه إياه. وفي رواية أخرى أن المنصور قال لمالك أنه عزم على نسخ كتاب الموطأ وحمل الناس عليه، راجع سير أعلام النبلاء 8: 78 في ترجمة مالك: صفة الإمام مالك، وكشف الظنون 2: 1908، وغيرهما من المصادر.
(3) راجع تاريخ بغداد 4: 199 في ترجمة يحيى بن أكثم، وطبقات الحنابلة 1: 413 في ترجمة يحيى ابن أكثم، وتهذيب الكمال 31: 214 في ترجمة يحيى بن أكثم، وتاريخ دمشق 64: 71.
(4) راجع الكامل في التاريخ 8: 121 في ذكر أحداث سنة 408ه، والبداية والنهاية12: 6 في أحداث سنة 408 ه، والمنتظم 7: 287 في أحداث سنة 408ه، والعبر في خبر من غبر 3: 100 في أحداث سنة 408ه، وغيرها من المصادر.
-[ 182 ]-
بالمذاهب الأربعة التي عليها مدار فقه السنَّة حتى اليوم (1).
ثم جعل العثمانيون المذهبَ الحنفي هو المذهب الرسمي في الدولة... إلى غير ذلك مما لا ضابط له، وكانت المواقف المتناقضة دينيّاً - نتيجةَ ذلك - تتعاقب على الجمهور. ومن المعلوم عدم شرعية ذلك وأنّ الدين لا يتبدل بتبدل السلطة.وإنما حصل ذلك بسبب عدم تحديد صلاحيات الخليفة. ولا يكمل نظام الخلافة إلا بتحديده، وتحديد ما سبق، كما هو ظاهر.
وحيث لا يتيسر لنا فعلاً معرفة مذهب السنة في ذلك، فلابد مِن إيكاله إليهم.
فإذا تم لهم تحديد ذلك كله، وأقاموا عليه الأدلة الشرعية حسب قناعاتهم، بحيث يكون هو المعيار عندهم في شرعية ما وقع ويقع مِن دعوى الإمامة والخلافة، أمكن المقارنة بين نظام الحكم عند الشيعة ونظام الحكم عند السنة، والموازنة بينهما بلحاظ أدلتهما، والنظر في الترجيح بين أدلة الشيعة على النظام الذي يذهبون إليه، وأدلة السنة على النظام الذي يذهبون إليه، ثم الأخذ بالأقوى مِن الدليلين، والذي يصلح أنْ يكون حجة بين يدي الله تعالى يوم يعرضون عليه ((يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )) (2).
أما مع عدم التحديد الشرعي مِن تلك الجهات فالنظامُ ناقص لا يصلح أن يكون طرفاً في المقارنة مع مذهب الشيعة والموازنة بينهما، ويمتنع
ـــــــــــــــــــــــ
(1) راجع تاريخ الخلفاء: 461 في ترجمة المستنصر بالله، والبداية والنهاية 13: 139 في أحداث سنة 631ه، ورحلة ابن بطوطة 1: 244 في مدينة بغداد، العبر في خبر من غبر 5: 123 في أحداث سنة 631ه، وغيرها من المصادر.
(2) سورة النحل الآية: 111.
-[ 183 ]-
تشريعه إسلاميّاً:
أولاً: لاستلزامه نقص الدين، وعدم تحديد موضوع الحكم الشرعي من قبل الشارع الأقدس، فإنّ للإمامة أحكاماً شرعية - كوجوب وجود الإمام، ووجوب طاعته، ووجوب قتال الخارجين عليه - فإذا لم يتم بدقة تحديد نظام الإمامة يلزم جعل الشارع لأحكام الإمامة مِن دون تحديد موضوعها، وهو نقص في الدين والتشريع، ينزه عنه الإسلام العظيم.
بل هو مناف لقوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)) (1)، وغيره مما دل على كمال الدين.
وثانياً: لأنّ الفراغ التشريعي في نظام السلطة سببٌ لإثارة المشاكل والفتنة، واختلال النظام، حيث يتم به المجال للادعاءات المتناقضة، والأهواء المتباينة، وما يترتب على ذلك من انتهاك الحرمات، وانتشار الفساد، وتلف النفوس والأموال، وإنْ كان ذلك كله قد حصل - مع الأسف - بأفظع صوره وأشنعها في الواقع الإسلامي.
وهل يمكن أن يشرّع الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) نظام الحكم، ويجعل فيه منصب الخلافة، ثم لا يجعل الضوابط لتعيين الخليفة؟! وها نحن نرى المسؤولين عن تشريع القوانين الوضعية يبذلون عناية خاصة لتشريع قوانين نظام السلطة من أجل تجنب سلبيات الفراغ التشريعي فيها، فكيف يهملها الله سبحانه وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنهما أحرى بالاهتمام بتجنب السلبيات المذكورة؟!
ولاسيما وأنّ للسلطة والخلافة في التشريع الإسلامي مقاماً رفيعاً وقدسية بالغة، حتى أجمع المسلمون على وجوب معرفة الإمام وبيعته،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة الآية: 3.
-[ 184 ]-
وأن من مات بدون ذلك مات ميتة جاهلية - كما يأتي - وعلى وجوب طاعة الإمام، وحرمة الخروج عليه، وأن الخارج عليه باغ لا حرمة له، ويجب على المسلمين قتاله.
بعض الأدلة على صحة مذهب الشيعة في المهدي (عليه السلام)
ونعود فنقول: إنّ إمامةَ المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) - التي عليها يَبْتَنِي لُزومُ وُجودِه - وإنْ كانت هي آخر لبنة في نظام الإمامة عند الشيعة ومسك ختامه، وقد سبق أنّ الاستدلال على نظام الإمامة عندهم متشعب وطويل، إلا أنّ هناك أمرين مهمين نستطيع أن ننطلق منهما لإثبات وجوده (صلوات الله عليه) وإمامته:
وجوب معرفة الإمام والتسليم له
الأول: أنه قد تظافرت الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه قال: "مَنْ مات ولم يَعْرِف إمامَ زمانِه مات مِيتَةً جاهلية" (1).
أو: "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية" (2).
أو: "من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية" (3).
أو: "من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية" (4).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ينابيع المودة 3: 372. طبقات الحنفية: 457.
(2) مسند أحمد 4: 96 في (حديث معاوية بن أبي سفيان). حلية الأولياء 3: 224 في ترجمة زيد ابن أسلم. المعجم الكبير 19: 388 فيما رواه (شريح بن عبيد عن معاوية). مسند الشاميين 2: 437 (ما انتهى إلينا من مسند ضمضم بن زرعة) في (ضمضم عن شريح بن عبيد). مجمع الزوائد 5: 218 كتاب الخلافة: باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمة والنهي عن قتالهم.
(3) السنة لابن أبي عاصم 2: 503 باب في ذكر فضل تعزيز الأمير وتوقيره. مسند أبي يعلى
13: 366 حديث معاوية بن أبي سفيان.
(4) مجمع الزوائد 5: 224 كتاب الخلافة: باب لزوم الجماعة والنهي عن الخروج عن الأمة وقتالهم.
-[ 185 ]-
أو: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" (1).
ونحو ذلك مما يَرْجِع إلى عدم خُلُوِّ كلِّ عصرٍ مِن إمامٍ تجب على الناس طاعته، لشرعية إمامته (2).
وهو المناسب لقوله تعالى: ((يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)) (3)، حيث يدل على أنّ لكل إنسان إماماً يُدْعَى به.
ـــــــــــــــــــــــ
المجروحين 1: 286 في ترجمة خليد بن دعلج.
(1) صحيح مسلم 3: 1478 كتاب الإمارة: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن. السنن الكبرى للبيهقي 8: 156 كتاب قتال أهل البغي: جماع أبواب الرعاة باب الترغيب في لزوم الجماعة والتشديد على من نزع من الطاعة. تفسير ابن كثير 1: 518 في تفسير الآية: (59) من سورة آل عمران. مجمع الزوائد 5: 218 كتاب الخلافة: باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمة والنهي عن قتالهم. الكبائر للذهبي: 169 في الكبيرة (45) الغدر وعدم الوفاء بالعهد. السنة لابن أبي عاصم 2: 514 باب في ذكر فضل تعزيز الأمير وتوقيره. المعجم الكبير 19: 334 فيما رواه (ذكوان أبو صالـح السمان عن معاوية).
ورويت هذه الأحاديث أو ما يقرب منها في المصادر الشيعية ومنها: الكافي 1: 376 كتاب الحجة: باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى حديث:1، 2،3، 1: 378 كتاب الحجة: باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام حديث:2. وراجع ص: 180 كتاب الحجة: باب معرفة الإمام والردّ إليه، وص:374 كتاب الحجة: باب من دان الله عزوجل بغير إمام من الله جل جلاله. بحار الأنوار 23: 76 ـ 95 باب: وجوب معرفة الإمام وأنه لا يعذر الناس بترك الولاية وأن من مات لا يعرف إمامه أو شك فيه مات ميتة جاهلية وكفر ونفاق.
(2) وقد استفاضت أحاديث الشيعة بذلك عن أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وتوجد الأحاديث المذكورة في الكافي 1: 178 كتاب الحجة: باب أن الأرض لا تخلو من حجة،1: 179 كتاب الحجة: باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة. وراجع:1: 168 كتاب الحجة: باب الاضطرار إلى الحجة، و1: 177 كتاب الحجة: باب أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام، وغيرهم. كما توجد الأحاديث المذكورة في بحار الأنوار 23: 1 ـ 56 باب: الاضطرار إلى الحجة، وص:57 ـ 65 باب آخر في اتصال الوصية وذكر الأوصياء من لدن آدم إلى آخر الدهر.
(3) سورة الإسراء الآية: 71.
-[ 186 ]-
وقد يحاول بعض الناس حَمْلَ الإمام في الآية الشريفة على النبي، وأنّ المراد أنّ أمّةَ كلِّ نبيٍّ تُدعَى معه.
لكنه مخالف لظاهر إطلاق الإمام في الآية الكريمة، فإنّ الإمام في عُرْفِ المسلمين مَن يَأتَمّ الإنسانُ به في أمر دينه ودنياه ويطيعه في أموره، والنبيُّ إمامٌ لأهل زمانه مِن أمته، أما بعد وفاته فلابد مِن شخص آخر يكون لهم إماماً مطاعاً فيهم. وهو الأنسب بالجمع بين الآية الشريفة والأحاديث المتقدمة، حيث تكون هذه الأحاديث شارحة للآية ومفسرة لها.
وعلى كل حال فالأحاديث المذكورة وحدها كافية في إثبات عدم خلوّ كل عصر مِن إمام تجب على الناس بيعته وطاعته، لشرعية إمامته. وذلك أنسب بمذهب الإمامية في الإمامة، وأنها بنَصٍّ مِن الله تعالى، ولا تحتاج إلى اختيار الناس للإمام وبيعتهم له، بل يجب عليهم بيعته وطاعته، بعد أن جعله الله تعالى إمامًا.