هل تسمعوني؟ هل آذانكم الواعية تلتقط انفاسي؟
هل تحسون بوقع خطواتي الوئيدة، وأنا اطلقها فوق اديم الارض، او بين لفحات الهواء؟
لاشك بأنكم تسمعون.. فصدى صوتي تردده الأودية البعيدة، وتحمله الرياح كلما سقطت ورقة بشري ما من اغصان الحياة في بركة الموت.. فأنا جزء من الحياة الرابطة تحت اطباق الثرى.. الارض تجذب جسمي؛ لأنه صنع من مادتها… سنوات عمركم تتساقط يوما بعد يوم كأوراق الشجر، حينما يداعبها حسيس الرياح في فصل الخريف… كنت مثلكم تماماً، أمشي فوق اديم الارض، وامشي بين الفنن.. وأنا الآن في قلب الارض تنبت فوق قبري او بالقرب منه الاشجار، وتتقوت على بقايا تفسخات جسمي.. وهذا النسيم الذي يداعب انفاسكم يوما ما كان يداعب انفاسي.. والآن.. خرجت لأتلصص بنظراتي علني أجد بصيص امل ليخرجني من زنزانتيّ الأبديتين (وان كنت لا اميز الليل من النهار فالظلام الدامس هو رهين عمري) زنزانة نفسي وزنزانة قبري مثواي الاخير..
وأنا الآن اريد ان اقضم جميع ذنوبي وآثامي لأتقيأها بين طيات التراب…
كنت انا والرذيلة اقنومان لذات واحدة.. لذا مئات السلاسل تقيدني وآلاف الاسئلة تنهال على هامتي: مَنْ ربك.. مَنْ نبيك.. وينعقد لساني عن النطق وتتكلم اطرافي وتشهد جوارحي فأضرب بقضبان من حديد لأغور في اعماق الارض من شدة وقعه.. وأنا الان في إجازة قصيرة لزيارة اموالي وعيالي لأرى الى اين صيرتهم الحياة…
ولربما اجد بصيصا من نور الامل يبرق امامي في دعوة ولد يدعو لي او صدقة جارية او غير ذلك من حسنة فعلتها.. اقتربت من منزلي وأمل يدفعني نحوه.. كان الباب موصداً إلا اني اخترق الجدار والباب دون عائق!!
خيمت عليّ غمامة من الحيرة والخذلان.. فها هي زوجتي قد عانقت انفاسها الكرى وهي تحلم بما سيؤول إليه الارث.. ذهبت لألقي نظرة على ولدي ربما سيذكرني بدعوة صالحة، رأيته قد توسد الاحلام وسادة له وتربعن ربات الجمال في مخيلته.. كان يغط في نوم عميق وأميرة الاحلام كانت تلقي بظلالها على اجفانه لتستدرجه في نوم عميق..
طيلة هذه الفترة، كان هناك شخصان يتبعاني اتباع الفصيل لأمه.. أحدهما كان يردعني كلما نظرت اليه، والآخر كان وسيماً، لكنه كان مازال يحبو ويعثر..
لا شيء ينفعني سوى أعمالي.. لذا اصبحت مسرعا نحو سجادة صلاتي، فهويت عليها ألثم اثار اقدامي، وموضع جبهتي، وامتص رحيق تلاواتي مثل النحلة حينما تمتص رحيق الازهار الفواحة..
في عالم كل شيء فيه يتحدث نطقت سجادتي وقالت: انت كنت تعلم بأن النفس سائرة نحو الموت قهرا، ومع ذلك كنت تصلي صلاة المرائي: اذهب لا شيء لك عندي..
صرخت بأعلى صوتي: (أين صلاتي؟ أين صومي؟ اين جوعي؟ اين اموالي؟ اما من معين لي يعينني من مصيبتي؟)
أحدثت أموالي جلبة عالية، وقالت فيما قالت: (كان عليك أن تطهرني بالصدقة والزكاة لأطهرك من الرذائل والخطايا).
رجعت منكسراً متألماً أكثر مما يؤلمني وقع قضبان الحديد.. صرخت بأعلى صوتي: (أيا أيها النائمون الميتون، ولكن الحياة تدب فيكم.. أليس لكم عبرة فينا.. ألا ترون أن الموت قد أودع الأجسام والخلود الندية الغضة التراب؟
ألا ترون أن الأرض فاغرة فاها، لتلتهم ملايين الاجساد من آدم وحتى الآن.. انهضوا وزكوا نفوسكم قبل ان تعقم وتشيخ، ولا يغرنكم الشيطان وأعوانه كما غرنا، ولكن الناس في العالم المرئي لم يسمعوا ندائي، فقد ألبست الخطايا أعينهم الغشاوة).
توجهت نحو زنزانتيّ الابديتين، وروح الامل يحتضر في عمق روحي، لا مناص دخلت زنزانتيّ مسلما لواقع الحال، وفي الرمق الاخير للأمل، وقبل ان يلفظ انفاسه الاخيرة ولم يرعني إلا.. و.. انبثق نور كإيماضة البرق انار القبر بنوره خط به على لحدي وكفني (عتيق ولاية آهل البيت عليهم السلام).
وأصبح الامل يبتسم ابتسامة الاشجار بغيث السماء…