الإنسان بين الانشداد المادي والسمو الروحي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
خلق اللَّه الإنسان مزيجاً من عنصرين، أحدهما مادي والآخر روحي، قبضة من طين وومضة من روح، يقول تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[سورة ص: الآيتان 71 ـ 72].
هذا المزج في خلق الإنسان بين عنصري المادة والروح، هو سبب حالة الصراع الداخلي عند الإنسان، بين طرفي هذه المعادلة، الطين والروح، فعنصر المادة أو الطين يشده نحو الأرض، وينحدر به إلى الاهتمامات المادية، بينما عنصر الروح يدفعه إلى الأعلى، ويحلّق به في سماء القيم والمثل. وفي هذا الصراع يكمن امتحان الإنسان، ويكون التحدي الأكبر، وعلى نتيجة هذا الصراع يتقرر مصير الإنسان ويتحدد مستواه، إما في أحسن تقويم، حينما يعيش حالة التوازن، ويمارس اهتماماته المادية في ظل القيم وتحت سقف المبادئ، وإما في أسفل سافلين، إذا ما اتخذ إلهه هواه، وسيطرت عليه شهواته ورغباته.
و يمكننا أن نحدد أهم خطوط التماسّ ونقاط التعارض بين التوجهين في حياة الإنسان في الأبعاد الثلاثة التالية:
أولاً: بين الشهوة والتعقل
فمن عنصر الطين وجدت في الإنسان الغرائز والشهوات، وهي تضغط عليه لإشباعها، وتلبية متطلبات الجسم ورغباته من طعام وشراب وجنس وراحة، وما يرتبط بها من مال ومنصب ومقام. لكن الاستجابة المطلقة لهذا الاتجاه، تحوّل الإنسان إلى مستوى الحيوانات البهائم التي لا هم لها إلا هذه الرغبات، ولا اهتمام لها سواها، فهي تأكل في كل مكان من مزبلة أو مرعى، وتشرب من أي ماء نظيفاً كان أو قذراً، وتمارس الجنس في أي وضع، لأنها مسيرة بغرائزها فقط.
لكن حالة التعقل عند الإنسان، والنابعة من عنصر الروح، هي التي تضع له في ممارسة شهواته ورغباته حدوداً وضوابط، فيأكل ويشرب وينكح ويتملك ويتزعم، ولكن كل ذلك ضمن توجيه العقل وهدايته.
فالاستجابة الأكثر للشهوة، يعني الانحدار أكثر في أعماق الحالة الطينية المادية، بينما التعقل والضبط الأفضل للرغبات والشهوات، يعني السمو الأكبر في آفاق التطلعات الروحية المعنوية.
ثانياً: بين الأنانية والسمو
فالجانب الطيني يركز في الإنسان حالة الأنانية، وتعني الاهتمام بالذات فقط، وتغليب المصالح الشخصية على كل شيء، إذ المادة كمادة، ليس لها قدرة على التوجه لخارج ذاتها، فهي تعيش بذاتها لذاتها.
بينما جانب الروح يوجه الإنسان إلى الأفق الأرحب، خارج ذاته، فيتطلع إلى رضا ربه وخالقه، ويهتم بأوضاع الآخرين من حوله، ويفكر في المصلحة العامة، إن الأنانية النابعة من الطين هي التي تدفع الإنسان للاعتداء على حقوق الآخرين من أجل أن يكسب هو، وهي التي تمنعه من العطاء والبذل، ليوفر أكبر قدر من الإمكانات لنفسه هو.
لكن ضمير الإنسان ووجدانه، المنبثق من نفخة الروح الإلهية، هو الذي يردعه عن الظلم والعدوان، ويشجعه على نفع الآخرين ومساعدتهم، بل وإيثارهم على ذاته ونفسه.
فاهتمام الإنسان أكثر بذاته هو انحدار مادي، وتوجهه نحو الآخرين والمصلحة العامة هو سمو روحي.
ثالثاً: بين المحدودية والقيم
فالطين مادة تشغل حيزاً محدوداً من الزمان والمكان، وهي تحدد الإنسان بحدودها الضيقة، وتشغله بمتطلباتها ومستلزماتها الآنية العاجلة، بينما الروح مرتبطة بالمطلق واللامحدود واللامتناهي، إنها نفخة من اللَّه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ والإضافة هنا للتشريف وإلاّ فليس للَّه جسم أو روح بالمعنى المتداول عندنا.
والروح تفتح الإنسان على عالم القيم والمثل، وهو عالم واسع عريض رحب، إذا تطلّع إليه الإنسان، تسامى على الماديات المحدودة، وجنّد نفسه لخدمة القيم الإلهية الخالدة، فيكون داعياً للخير، ورائداً للعدل، وعاملاً من أجل الحق.
من هنا فإن من يكرّس حياته للماديات يكون منحازاً لجانب الطين في خلقته، بينما من ينذر نفسه للمبادئ والقيم يكون محلِّقاً في عالم الروح، خالداً في نعيم الرضوان الإلهي.
شهر رجب موسم روحي
شهر رجب المرجب هو أول شهور الموسم الروحي للأمة الإسلامية، يعقبه شهر شعبان ثم شهر رمضان المبارك.
هذا الموسم الروحي ينبغي أن يعزز في أنفسنا التطلعات الروحية، وأن يقوّي إرادتنا للانتصار للبعد الروحي في شخصياتنا، وأن يساعدنا على ضبط انشدادات الطين، ورغبات المادة في حياتنا.
و قد وردت في فضل شهر رجب روايات كثيرة، منها:
ما روي عن رسول اللَّه أنه قال: «ألا إن رجباً شهر اللَّه الأصم وهو شهر عظيم»
و ما روي عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: «رجب شهر عظيم يضاعف اللَّه فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات» .
و عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم «رجب شهر الاستغفار لأمتي فأكثروا فيه الاستغفار، فإنه غفور رحيم، ويسمى الرجب الأصبّ لأن الرحمة على أمتي تُصب صبّاً فيه، فاستكثروا من قول: أستغفر اللَّه وأسأله التوبة» .
و هناك روايات وأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ترسم أمامنا بعض البرامج الروحية لاستثمار هذا الشهر الكريم، والاستفادة من خيراته المعنوية، ومن أهم تلك البرامج والمستحبات:
أولاً: الصوم
والصوم إعداد وتدريب للإنسان على الضبط، والتحكم في الرغبات والشهوات، حيث يمتنع الإنسان بإرادته واختياره عند الصوم عن المفطرات، التي هي من أبرز الرغبات كالأكل والشرب والجنس.
وإذا كان الصوم واجباً في شهر رمضان فقط، فلأنه الحد الأدنى مما يحتاجه الإنسان من إعداد وتدريب سنوي، لكن أصحاب الطموح والتطلع للرقي الروحي، والتقدم المعنوي، لا يكتفون بصيام شهر رمضان الواجب، لذا وضع الإسلام برامج صوم إضافية على نحو الاستحباب، لإتاحة الفرصة لهؤلاء الطامحين المتطلعين.
والصوم في شهر رجب هو من أبرز تلك البرامج، فمن استطاع أن يصوم طوال شهر رجب فقد نال النصيب الأوفى، وإلا فليصم نصفه أو ثلثه أو ربعه، ولا ينبغي أن يفوت الإنسان الصوم في شهر رجب، ولو يوماً واحداً.
روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: «رجب نهر في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فمن صام يوماً من رجب سقاه اللَّه من ذلك النهر».
وعن علي بن سالم عن أبيه «قال: دخلت على الصادق جعفر ابن محمد (عليهما السلام) في رجب وقد بقيت منه أيام، فلما نظر إليّ قال لي: يا سالم هل صمت في هذا الشهر شيئاً؟
قلت: لا واللَّه يا بن رسول اللَّه. فقال لي: لقد فاتك من الثواب ما لا يعلم مبلغه إلا اللَّه عز وجل، إن هذا شهر قد فضله اللَّه، وعظم حرمته، وأوجب للصائم فيه كرامته».
ثانياً: العمرة
زيارة الإنسان لبيت اللَّه الحرام، وأداؤه لمناسك الطواف والصلاة والسعي، وما تستلزمه من تكاليف، ويتبعها من أحكام وواجبات، هذه الزيارة تؤكد في نفس الإنسان الخضوع للَّه، وتنفيذ أوامره في جميع شؤونه، كما توحي له بأن يكون الرب محور حياته وحركته، وأن يجتهد في السعي لتحقيق مرضاته، وكل منسك من المناسك، ومعلم من معالم الحرم الشريف، تشكل رموزاً وإضاءات للإنسان في حياته الروحية وبعده المعنوي.
وإذا كان الواجب على الإنسان قصد البيت الحرام، وأداء مناسك الحج والعمرة مرة واحدة في العمر، فإن التردد على زيارة البيت الحرام، وأداء النسك، يعني المزيد من الاستلهام الروحي، والإضاءة الإلهية لقلب الإنسان ومسيرته.
ومن مستحبات شهر رجب المبارك، أداء مناسك العمرة، وإذا كان البعض من علماء المسلمين لا يرون ميزة خاصة للعمرة في شهر رجب، فإن أتباع أهل البيت يأخذون بأقوال أئمتهم الهداة، التي تؤكد استحباب العمرة في هذا الشهر، وأفضليتها فيه على بقية الشهور، وأقوال الأئمة حجة شرعية علينا.
فقد سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام:أي العمرة افضل عمرة في رجب أو عمرة في شهر رمضان؟ فقال: لا، بل عمرة في رجب أفضل .
و عنه أيضاً : «المعتمر يعتمر في أي شهور السنة شاء، وأفضل العمرة عمرة رجب» .، فهنيئاً للمبادرين للعمرة في هذا الشهر الفضيل.
ثالثاً:الصلاة والدعاء والذكر
الصلاة معراج المؤمن، حيث ينطلق بروحه وقلبه وفكره في آفاق السمو الإلهي، متجاوزاً حدود الاهتمامات المادية، سارحاً محلقاً في أجواء ذكر اللَّه، ومتنعماً بلذة المثول في حضرة الرب سبحانه.
و في شهر رجب المبارك ينبغي المواظبة على أداء النوافل اليومية وخاصة صلاة الليل، كذلك فإن هناك صلوات بكيفيات خاصة، يستحب أداؤها في أيام وليالي هذا الشهر الفضيل، وهناك أدعية خاصة، تذكّر الإنسان بعظمة ربه وبأسمائه الحسنى، وتوجه الإنسان إلى الحقائق الكونية، وإلى مكارم الأخلاق، وجميل السلوك والصفات، ورد استحباب قراءتها والمواظبة عليها في هذا الشهر الفضيل.
رابعاً: الصدقة
إن مساعدة الفقراء والمحتاجين تدل على صدق تديّن الإنسان، ولعله لذلك سمّيت صدقة من الصدق، بينما التجاهل لأوضاع المحرومين، علامة على كذب ادعاء التدين، فلا يثبت للإنسان دين وإيمان مع إعراضه عن حاجات الضعفاء والفقراء، يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾[سورة الماعون: الآيات 1 ـ 3].
وإذا كانت الصدقة مطلوبة في كل وقت، ولها نتائجها العظيمة على حياة الإنسان قبل آخرته، حيث إنها كما ورد في الأحاديث، تدفع البلاء وتزيد الرزق، وتطيل العمر، إلا أنها في هذا الشهر الكريم أكثر ثواباً وأعظم بركة.
ففي حديث مروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحدث فيه عن فضل شهر رجب والصيام فيه ثم قال: «يتصدق كل يوم برغيف على المساكين، والذي نفسي بيده إنه إذا تصدّق بهذه الصدقة كل يوم ينال ما وصفت وأكثر، إنه لو اجتمع جميع الخلائق على أن يقدّروا قدر ثوابه ما بلغوا عشر ما يصيب في الجنان من الفضائل والدرجات».