جميلة هي نتاج الفتوى، حيث جمعتنا من اطراف البلد وطوائفه لنكون لحمة واحدة حينما يحمى الوطيس، والأجمل من ذلك ان جمعتني به ساحات الوغى،
فما زالت صورته قابعة في ذاكرتي بوجهه المكتنز المستدير، وبإبتسامته العذبة التي لا تفارق محياه، رغم كل تلك الصعاب والظروف الحالكة، ورغم السواتر وشبح الموت الذي يتجول حولنا، لم تغادر البسمة محياه، فعلاً المؤمن بشره في وجهه...
ما رأيته قط فارقت يده أبريق الشاي، يعد لنا القهوة في كل الأوقات لنبقى يقظين حذرين، يعد الحليب ويحمل قطع الكعك، كما يحمل فلذات أكباده ليوصله للمجاهدين على السواتر، نهاراً كان يستقل السيارة الحوضية ليجلب لنا ماءً، يحب هذا العمل يسقيه لنا حباً بالغريب العطشان، ثم يعود ويعد لنا الطعام بتلك اليدين اللتين لا تملان العمل،
ولا تعرفان الكلل، يشرق علينا بإبتسامته الوضاءة، تلك التي كالفجر تبدد سحب الظلام، يحمل بين جنباته قلباً كقلب الأم الرؤوم، يحتوي الجميع، يطبع قبلاته على وجنات المجاهدين بين فينة وآخرى..
نقي كنقاء الينابيع الدافئة،
في إحدى الأيام قبيل إستشهاده بأيام، أختلى بي وكانت دموعه تغزو عينيه،
قال لي: سأترك الجهاد.
قلت باستغراب: لم!
قال: رأيت في المنام إننا حررنا جرف الصخر، وبعد التحرير رأيت فتاة تسربلت بلباس شفيف، فذهبت نحوها!
وإني أخشى ان تغرني الدنيا بعد التحرير فأتنكب الطريق..
ما أورعه كان ضنين بدينه واخلاقه، ما كان يدري إن تلك الفتاة هي حورية من الجنان نزلت لتزف له بشرى الشهادة..
في ذلك اليوم كنت اغط في نوم عميق بسبب إصابة سابقة حالت دون مشاركتي لإخوتي، كان قد حضر ليأخذ للمجاهدين أغطية فبرد جبال مكحول قاسي، لوهلة شعرت أن جنة قد هوت تقبل جبيني،
كان هو وكانت قبلة الوداع..
الاغطية ثقيلة وصعود الجبل ليس بهين، يحتضنها وكأنه يحتضن روحه، يجب عليه إيصالها لهم،
نجحت المهمة، كان الفرح يجتاح قلبه وهو يدثرهم جيداً واحد بعد الآخر.
علا ذلك النداء الملكوتي _ الله أكبر _الله أكبر..
لبى النداء الأول وصلى الظهرين، لكن مازال النداء الثاني بإنتظاره لم يلبه بعد..
انحدر نازلاً من الجبل، كانت هناك أوسمة تشق عباب الهواء لتخترق ذلك القلب، هوت جميعها في جسده لتتركه متناثراً على سفوح الجبل، وتهشم رأسه، وتمزق جسده، مع ذلك كان مبتسماً..
من تلك العوالم البعيدة وعبر حجب الماديات ذات يوم همس بأذني قائلاً: اشتاقكم جميعاً، اشتاق لدفء الأحاديث وعذوبتها، ولتلك الليالي الباردة وذلك الحر الهجير، اشتاق للساتر ولترابه، ورائحة البارود وتغاريد البنادق، فالرجل الحق لا تفتر همته ولا تضعف غيرته عن نصرة دينه وعرضه ووطنه، وإن حالت بينهما المسافات، فهناك فوق السواتر قرة الأعين وهناءة النفس.
سماهر الخزرجي