درعٌ بتراء مصنوعة من زرد الحديد وعدة فارس كاملة
بحث وتحقيق: الحاج علي الصفار
أشرنا في حلقات سابقة نُشرت في جريدة صدى الروضتين الغرّاء في صفحة نفائس العتبة المقدسة، الى وجود أنواع آلات الحرب المستخدمة قديماً من السيوف والحراب والخناجر والمُدى والتروس والبلطات تعود لفترات مختلفة، ولأمم متعددة من الشرق والغرب.
وتكلمنا سابقاً عن أسباب وجود هذا الكم من هذه الأسلحة التي تعود للسلاطين والأمراء والفرسان في خزانات العتبة المقدسة؛ ومن أهم هذه الأسباب الموجبة لذلك، هو الإعجاب بشخصية أبي الفضل العباس (ع)، والإكبار لدوره في ساحات الوغى، وشجاعته ومروءته وفروسيته التي قلّ نظيرُها في تواريخ الأبطال، وكيف لا وهو ابن فارس المسلمين أسد الله الغالب علي بن أبي طالب (ع)، نعم هكذا حكم أبو الفضل العباس (ع)، بمواقفه المشهودة، وصولاته المعهودة، على أمراء العالم وشجعانهم، وكان مثلاً لهم في الفروسية، وقائداً يحتذون به ويتبعون أثره، ويدرسون تكتيكات مدرسته البطولية، حتى تربّع على عرش قلوبهم، واستحوذ على تصورات أفكارهم، فأتوه طائعين، وقدّموا رموزَ عزتهم وقوتهم، وعلامات فخرهم واعتزازهم بين يديه طائعين، وهم يرون الى حد هذا الجبل الأشم تنتهي هضاب هممهم، وعند هذا البحر تصبّ أنهارُ عزمهم.. نعم هذا هو السبب الرئيس في وجود أسلحة الفرسان القادمين من كل حدب وصوب، وفي كل زمان في رحاب لواء الحسين (ع) وكبش كتيبته، والعلامة من عسكره.
ومما وجدناه في مخازن العتبة المقدسة درع بتراء مصنوعة من زرد الحديد، تشكو الحال، وتعاني الإهمال؛ بسبب اللانظام البائد والبعث الرعديد الفاسد، فقد أطبق عليها الصدأ، وخنقها التراب المتراكم عليها، بعد أن كان بريقها يخطف أبصار الفرسان، وهي على أجساد الأبطال في الميدان.
ولاعجب من هذا الإهمال، فان اشباه الرجال في الحكم البائد لايقتربون من السيوف، ولا يلبسون لامات الحرب إلا للخيلاء.
صيانة الدرع في مختبرات العتبة العباسية:
قام الاخوة العاملون في مختبرات متحف الكفيل بصيانة هذه الدرع، وصيانة قوس عربي ايضا، ورمح وترس حديدي مقبب، وعرض الجميع في قاعة متحف الكفيل، وكأن بطلا يقف امام الحاضرين يحكي قصص الفروسية لهم، في مكان هو الامثل والافضل لهكذا روايات.. وكيف لا وهو في ساحة واقعة كربلاء، وعند العباس بن علي بن أبي طالب (ع).
الوصف العام لهذه الدرع:
درع: درع الحديد مؤنثة في الأكثر، وتصغر على (دريع) بغير هاء على غير قياس وجمعها (أدرع) و(دروع) و(أدراع)، و(درع) المرأة قميصها هو مذكر. (راجع المصباح المنير بمادة درع).
وقد ذكر الرازي في مختار الصحاح: درع الحديد مؤثثة، وقال أبو عبيدة: يذكر ويؤنث، و(ادرع) الرجل لبس الدرع، و(تدرع) لبس الدرع، و(المدرعة) أيضا، وربما قيل (تمدرع) اذا لبس المدرعة، وهي لغة ضعيفة، ورجل (دارع) عليه درع.
والدرع: ثوب يُنسج من حلق الحديد تدخل الحلقات في بعضها البعض، وكأنها شبكة وهي غالبا قطعة واحدة تغطي البدن من العنق الى الركبتين أو مادونهما، والدرع على انواع لا مجال هنا للخوض في تفاصيلها.
أما (الزرد): كالسرد وزنا ومعنى فهو تداخل حلق الدرع بعضها في بعض.
و(الزرد) بفتحتين هي الدرع المزرودة، و(الزراد) بتشديد الراء صانعها.
الفرقُ بين الدروع عند العرب:
الدروع تُصنع عادة من حلق الحديد او النحاس المنسوج مع بعضه، ومنها القصيرة وتُسمى البتراء ومنها ما يغطي الأنامل والأطراف وهي الفضفاضة. (راجع الفن الحربي ص151).
أما اذا كانت من الحلق فقط فهي (الزَّرَد)، أما اذا صُنعت من صفائح الحديد، فهي لامة الحرب، واذا كانت من الجلد او القماش فهي (دلاص).
نوع الدرع المعروضة في متحف الكفيل:
على ما تقدم، فان هذه الدرع مصنوعة من زرد الحديد، وهي درع بتراء؛ لأنها تغطي الفارس الى ركبتيه، أما الفضفاضة فتغطي الفارس الى قدميه كما مر، وهذه الدرع البتراء مزودة بواقيتين للساعدين مصنوعتين من الحديد الصلب.
ونحبّ أن نبيّن أن الفارس العربي في الجاهلية كان يمتاز بالسرعة وخفة الحركة؛ لأنه لم يكن يستخدم الدروع بكثرة، ثم بدأ التدرع بالواقيات الحديدة غالباً، ثم تغير الحال فلبس الدروع المعدنية ذات الصدور والسواعد والسيقان، ثم تطورت صناعة الدروع في العصر الاموي تأثرا بالجيوش الرومانية، واستمرت صناعة الدروع بالتطور في العصر العباسي، ووصلت الى اوج تطورها وفن صناعتها أبان الحروب الصليبية؛ ففي عهد صلاح الدين الايوبي اخترع الكيميائي المشهور بالطرطوسي مزيجا معدنيا خاصا لصناعة الدروع لا تؤثر فيه ضربات السيوف وطعنات الرماح. (راجع الحياة العسكرية ص65).
البيضة: ويعرض في المتحف مع هذه الدرع بيضة مصنوعة من الحديد.
وبيضة كل شيء حوزته، وساحة القوم وبيضة البلد واحدة الذي يُجتمع اليه ويُقبل قوله. (القاموس المحيط للفيروز آبادي).
وبيضة الحديد ما يلبسه الفارس، وهي غطاء يُوضع على رأس المقاتل لحمايته من السيوف والحجارة والعصي، وما إلى ذلك (تاريخ الطبري)، وسُمّيت بيضة؛ لأنها مستديرة باستدارة الرأس، ولأنها على شكل بيضة النعام.
والبيضة المعروضة في المتحف المصنوعة من الحديد معها كافة ملحقاتها، وكما في أدناه:
1- القونس: والقونس أو القونوس هو أعلى بيضة الحديد، كما يذكر الفيروز آبادي في القاموس المحيط.
أما ابن سيده في كتابه (المخصص) فيذكر ان القونس مقدم البيضة.
وعلى رأي ابن سيده، وما تذكره كتب الفن الحربي والأسلحة، فان القونس هو الجزء الذي في مقدمة البيضة، وينزل ليحمي أنف الفارس.
والقونس في هذه البيضة مصنوع من الحديد، ومثبت بأحكام في مقدمة البيضة.
2- الحاملان: وهما نتوءان انبوبيان مثبتان في الجهة الامامية من البيضة، تُوضع فيهما العلامات، وغالبا ما تكون ريشتان من ريش النعام أو ما شابه، تعطي الفارس هيبة، وتميّزه عن غيره.
3- القمة المدببة: وهي على رأي الفيروز آبادي القونس، ولهذه القمة وظيفتان؛
الأولى: يساعد هذا الشكل المدبب البارز في صد الضربات على الرأس، حيث تنبو السيوف عند ضرب البيضة.
الثانية: تساعد الفارس على لبس البيضة ونزعها عن رأسه.
4- المغفر: والمغفر كمنبر زرد من الدرع، يُلبس تحت القلنسوة أو حلق يتقنع بها المتسلح. (القاموس المحيط: مادة غفر).
وهو يُنسج من الحديد كالدرع، ويلبس تحت البيضة على الرأس يتدلى من الخلف، يغطي القفا، ويتدلى جزء منه على الوجه لحمايته، لذا قالوا: (وعيناه تبصان من تحت المغفر).
أما ما موجود مع هذه البيضة، فهو ليس مغفرا بالمعنى الأدق، بل ما يقوم مقام المغفر، ويحمي الفارس من الضرب والطعن والسهام المصوبة نحوه.
ونقول: يقوم مقام المغفر؛ لأنه غير تام من الاعلى ليلبس على الرأس، بل هو زرد متصل بالجزء السفلي من البيضة، ينسدل على الجانبين ليغطي الاذنين وجانبي الرقبة وجزء منه ينسدل على الخلف ليغطي القفا.
الترس: والترس صفيحة من المعدن أو الخشب تمسك باليد بواسطة مقبض مثبت في جوف الترس، وذكر الفيومي في المصباح المنير: واذا كان الترس مصنوعا من جلود ليس فيه خشب ولا عقب، سمي جحفة ودرقة. وجمع التُّرس (تُروس) و(تراس) مثل فلوس وسهام، وربما قيل (أتراس)، قال ابن السكيت: ولا يُقال (أترسة).
و(تترَّس) بالشيء جعله كالترس وتستر به، و(تارس) ذو ترس، و(تراس) صاحب ترس، و(التَّترُّس) التستر بالترس. (راجع معاجم اللغة).
والترس من التجهيزات العسكرية المهمة خصوصا عند الاشتباكات القريبة. (راجع الجيش والسلاح ص271).
وقد صنع العرب عدة أنوع من الاتراس منها: المستطيلة والمستديرة والمسطحة والمقببة. (راجع مجلة المورد: مجلد 14/ عدد4/ سنة 1985).
الترس المعروض مع الدرع في متحف الكفيل:
أما الترس مناط البحث فهو من النوع المقبّب مصنوع من الحديد، وأطرافه منحنية نسبيا الى الخارج وعلى سطحه أربعة قطع حديدية مقببة، تعطيه شكلاً جميلاً، ولها وظيفة أخرى، وهي تحديد حركة السيوف والحراب عند الضراب، فلا تسمح بانزلاقها نحو المُتَتَرِّس، مع وجود رسوم منقوشة على ظهر الترس غاية في الدقة، ووجود حزام كتابي يطوقها، وصولاً الى حافة الترس الخارجية، وهذه الترس آية من آيات الفن والصنعة.
الرمح: سلاح قديم استعمله العرب للطعن، وجمعه (أرماح) و(رماح)، ورجل (رامح) اي معه رمح، أو هو طاعن به، و(رماح) صانع الرماح، والرمح المعروض مع الدرع مصنوع من المواد الأشجار القوية، وهو عادة ما يصنع من القصب القوي، كما يذكر في (المفصل في تاريخ العرب ج5 ص424). ولهذا الرمح رأس منبل حاد مصنوع من الحديد الصلب.
القوس: ولأن ما عرض في المتحف درع وملحقاته، وكأنها فارس يقف في ميدان الحرب، زوّده الاخوة بقوس عربية مع سهمين، وهذه القوس هي أيضاً من محتويات خزانات العتبة العباسية المقدسة، وقد أصابها الضرر وكسر احد قابيها، فأعيد اصلاحه ليعرض في متحف الكفيل.
والقوس مؤنثة وقد تُذكّر، تصغيرُها قويسة وقويس، وجمعها قِسِيٌّ وقُسِيٌّ وأقواسٌ وقياسٌ.
والقوس عادة تُصنع من عود خشبي ليِّن متين يُقوّس كالهلال، ويُثبّت عليها وتر من الجلد تُرمى به السهام.
وهنالك عدة انواع من الأقواس غالبا ما تستعمل باليد، واقول غالبا؛ لأن العرب طوّروا بعض الاقواس الانبوبية التي تُطلق باستخدام اليد عادة، الى ان يستخدمها الفارسُ ويطلقها باستخدام رجليه. أما هذه القوس المعروضة، فهي قوس عربية يدوية مصنوعة من عود خشبي، ومعها وترها وسهمان مصنوعان من عود رفيع، أحدهما منصّل أي فيه نصل من حديد.
ولكل قوس قابان علوي وسفلي، وسيّتان عليا وسفلى، ومقبض، ووتر يُسحب بواسطة السهم، (أي يكون الوتر في حال النزع)، ثم يُترك بعد التصويب؛ لينطلق السهمُ نحو الهدف.
السيف: ولغرض اكمال عدة هذا الفارس جعله الاخوة يتأبط سيفه، وهو سيف صنع نصله من الحديد الصلب (الجوهر)، ومقبضه العاجي، وقبيعة المقبض الفضية في غاية الجمال، والشاربان الحديديان مكفتان بالذهب، مع وجود نقوش وكتابات عليهما.
أما غمد هذا السيف، فهو مصنوع من الجلد الاخضر الجميل المحلّى بالفضة، ذات النقوش الدقيقة، والكتابات المحفورة بعناية، التي تعكس فن الصنعة، وقد عُلِّق السيفُ بمتن الفارس المفروض بالحمائل (نجائد السيف) المصنوعة من الجلد، (ولا مجال هنا للحديث عن السيف عموما، وهذا السيف مفصلا). وهكذا، وحين نقف في متحف الكفيل أمام هذه العدة الحربية، نتخيلُ اننا نقف امام فارس شجاع، يرتدي درعه الزرود، ويحمل ترسه الحديدي المقبّب، واضعا خوذته على رأسه، وهو يسدلُ المغفر على جانبي رأسه، مغطياً قفاه، ومعه رمحه الخشبي ذو النصل الحديدي، وعلى كتفه قوسه العربية، وسهامه في كنانته، حاملا سيفه القاطع، وكأنه جندي ينتظر أمرَ قائده في ساحة الوغى.
وللأسف، لم نجدْ ما يساعدنا على معرفة تاريخ صناعة هذه الدرع، ولا معرفة من أهداها الى رحاب أبي الفضل العباس (ع)، وهي بلا شك تعود لقرون مضت، تحكي قصصَ الابطال في ساحات النزال، وتقف بين يدي ابي الفضل (ع) في ظل لوائه، وتحت امرته، وكأنها تقول لقائد معسكر الإمام الحسين (ع): لبيك يا داعي الله..