البحث في جماليات الرؤية بأي منجز يمنحنا تجليات التميز وما تكسبه من دلالات فكرية قادرة على بلورة المعنى وكتاب المصابيح لسماحة السيد ( أحمد الصافي ) والمخصص لشرح أدعية مختارة من الصحيفة السجادية ،منحنا القدرة على الولوج الفكري لروائع الصحيفة المباركة، مسلطا الضوء على أهم التفاعلات الجمالية كونها رائعة من روائع الادب الانساني المؤمن ، وتجربة وجدانية مهمة جاء في مقدمة الكتاب تعريفا بالصحيفة باعتبارها تراث هائل من المعارف صيغت على شكل أدعية تربوية غنية بقضايا متعددة ،
أسعى في هذه القراءة الانطباعية الى أن أقف عند بعض المضامين الفكرية الجمالية والبنى المعرفية التي قدمها لنا الكتاب عن الصحيفة المباركة وما تحمل من قيم ودلالات فكرية ووجدانية تحفل بثراء المضمون مما جعلها من روائع الادب والثقافة العربية والاسلامية بما تمتلك من مساحات شعورية قادرة على بعث الجمال الروحي عند الانسان وقد ركز الباحث على بعض النقاط الجوهرية التي تمكننا على فهم الرسالة السجادية بداية ومفهوم التصوير الفني للصحيفة ، تشخيصات مهمة للجواذب الروحية المؤثرة وجدانيا والصياغات المولدة للمعاني ، وتوظيفها لترسيخ المفهوم الايماني ، سيرة قراءة حملتها لنا مقدمة الكتاب ( قرأت بعض الكتب التي تناولت موضوع الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ومدى تأثيره وابعاده الفردية والاجتماعية) ، تدلنا العبارة على بعض المفاهيم المهمة كون العمل الابداعي يقوم على الطاقة الكاشفة عن جوهر الانتماء أثر الوصف والتشخيص بصياغة رؤية المبدع ، وموضوع الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام يمثل الهوية الانسانية بما تمتلك من مؤثرات العصمة ، وتترسخ بتعدد الدلالات وعمق الوجدان ، وركز الكتاب على مديات التأثير في البعدين الفردي والاجتماعي ، وعملية الشد الشعوري التي اثارها كانت بتأثير حيوية الدعاء المبارك،
( وركعت لك حتى ينخلع صلبي ، وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي ، وأكلت تراب الأرض طول عمري ، وشربت ماء الرماد الى آخر دهري وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني ثم لم أرفع طرفي الى افاق السماء استحياء منك ما استوجب بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي )
يقول سماحة السيد الصافي ( نقلني الدعاء الى عالم آخر فما هذه العبودية ؟ وما هذا التصوير الرائع ؟ وما هذه الكلمات التي تهز كيان الانسان ؟ بل ما هذا الرابط الذي يأخذ بمجامع القلوب بين الأرض والسماء ،) هذه الاسئلة تعني حث المتلقي الى التبصر في المستوى الدلالي ــ التصوير الفني ، وما يثيره من ايحاء وتخييل وصياغة وانزياح وكسر طوق الدلالات لتخرق ما تواضع عليه الناس في اللغة ، لنتأمل ثانية في المقطع نجد ان الافعال الماضية كسرت جمودها وتحركت بافعال مضارعة للاستمرار الفعل
ركعت × ينخلع صلبي
سجدت × تتفقأ حدقتاي
أكلت × طوال عمري
شربت × آخر دهري
أو لنتأمل ( وشربت ماء الرماد آخر دهري ) قوة الانزياح وما لها من قيمة حضورية في المعنى تبين عمق الدلالة ، الاسئلة تجعلنا نتأمل في قيمة الخطاب باعتباره خطاب ارشادي وتربوي ووعظي ، واستثمر الأمام التصوير الفني لأنه أوغل في التفصيل والتأمل والتمهل ، وهذا يدل على معطيات الشعور بالمسؤولية من قبل الامام عليه السلام بالآخر ، لأجل هدايته وزيادة قدرته على الفهم من خلال الترابط والوحدة الموضوعية في الادعية وكان الامام عليه السلام على قصدية تامة من تنوع الدلالات ليطلق للمتلقي عنان خياله ، ومن المقاصد الجميلة التي اثارها كتاب المصابيح ــ الاسلوب التربوي الروحي العميق لتلك الادعية التي تجلت فيها فلسفته العميقة وتوجيهاته وساعدت على تكوين الشخصية الربانية وتطوير العلاقة بين العبد وربه وبين الانسان ونفسه وبين الانسان والمجتمع ، ومن أهم ما ورد في مقدمة كتاب المصابيح المطالبة باعتماد الصحيفة السجادية ضمن المناهج الدراسية والمراحل كافة ( المتوسطة ــ الاعدادية ـــ المعاهد) والكليات لما تحويه من الأدعية التربوية ومن حلقات المساجد والمراكز ومؤسسات الثقافة الاسرية واستثمار المناسبات لقراءة الادعية ودراستها ، ويرى السيد الباحث ان بعض الادعية يمكن ان تكون مناهج لتطوير الذات وتحسين اللياقات الانسانية العامة فهي لا تقرأ فحسب بل تقرأ كمنهج علمي وفكري يتصدى للقيام بنهضة شاملة على جميع المستويات الفردية والاجتماعية واستشهد بدعاء مكارم الاخلاق الذي له القابلية على تحقيق النهضة الشاملة ، ويرى امكانية ان نصطلح عليه تماشيا مع بعض المصطلحات المتعارفة ( علم نفس الصحيفة السجادية ) والتنمية البشرية وفق الصحيفة تقريبا للأذهان المأنوسة بهذه المصطلحات وبهذا اللون من الخطاب ، الارتكاز على مصطلح علم النفس واطلاقه على أدعية الصحيفة ، يجعلنا أمام حقيقة ان البحث في النفس أعمق وأكثر غورا مما وصلت له العلوم ــ اكتشافاتها وتطورها وللتكوين الفكري أثر في بناء الانسان ــ المجمتع ، الامام السجاد عليه السلام كان على علم واسع في تشخيص المجتمعات ومعرفتها وسر القوة القادرة على تحقيق النهوض المعنوي للبناء في مجتمع قاده الخلل النفسي الى قتل سيد الشهداء الحسين عليه السلام ، أبن باني مجدهم صلوات عليه وآله وسلم ، ومن التشخيصات المهمة التي عرضها سماحة السيد الصافي ...أولا المنهجية الرائعة التي صاغها الامام السجاد عليه السلام في دعاء مكارم الاخلاق وغيره ،تمكننا من وضع قواعد ثابتة وأطر لنظرية اخلاقية مهمة ، واستعراض هذه المدرسة ، مدرسة الصحيفة ووضعها أمام كل المعنين بالدراسة التربوية والاخلاقية والثقافية والفكرية بكل عمقها ودقتها وتحليلها فهي مدرسة متكاملة تبدأ من تشخيص المشكلة وتحليلها ثم أيجاد العلاج لها ، فضلا عن ترسيخ كل المتبنيات العقدية والفكرية والعقلية التي تؤمن بها فهي مهمة عظيمة جدا ، اشار الكتاب الى القيمة المعنوية والمعرفية التي يشكلها ائمة أهل البيت عليهم السلام للمجتمع البشري وتراثهم الشمولي لا ينحصر في القضايا الدينية التي تهم المجتمعات الاسلامية خاصة بل لهم عطاء عملي يثري معالم البشرية في مختلف المجالات ويقدم أفضل دعم للقيم الانسانية النبيلة ، واستشهد بمثال نظرية الحاكم ، حكومة دينية تعتمد على الرؤية الالهية الشمولية لأبعاد الكون والانسان والحياة ، وتمكين الخبرة البشرية في بعض المجالات الأدارية والعسكرية ، واستثمارها للصالح العام ، ووثيقة الامام علي عليه السلام الى مالك الأشتر رضوان الله عليه والي مصر ، يعد من أهم الافكار والمفاهيم السياسية والاقتصادية وشؤون الحكم والادارة ومن أهم الركائز العسكرية والسياسية والادارية التي بعث بها رئيس دولة الى أحد ولاته وتضمن هذا العهد رسم الخطوط العريضة للسياسة العامة التي يجب ان ينتهجها الحكام في كل عصر على اساس المنطلقات الانسانية الاسلامية التي تهدف الى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تنظيما دقيقا وبناء العلاقات الداخلية في المجتمع الاسلامي على اساس العدل والحرية والمساواة ، سماحة السيد الصافي يحثنا لإجراء مقارنة بين نظرية الحاكم للإمام علي عليه السلام ونظرية مكيافيلي في كتابه الامير والذي هو عبارة عن دراسة في الفقه السياسي أعدها سنة 1513م ، والذي يرى ان المحرك للتأريخ هو (المصلحة والسلطة ) يختزل حركة الشعوب والامم بزاوية ضيقة ، ومن مبادىء القيم المكيافيلية ( أنظر مصلحتك اين أذا أردت ان تنجح ) وطالب بتسخير الدين لتمكين السيطرة وليس الفضيلة ويرى ( لايجدي للمرء ان يكون شريفا دائما ) اي بمعنى لابد للحاكم ان ينتهج القوة والانتهازية والمكر والخديعة
لينجح بقيادته ، بينما منهج الامام علي عليه السلام لا يقبل المساومة بالحق ، ذكر الشيخ الطوسي قدس سره عن أمير المؤمنين ، ان بعض المستشارين اشاروا اليه بصرف اموال لأستمالة بعض كبار القوم ليلتفوا حوله أجابهم عليه السلام ،( اتطلبون أن أطلب النصر بالجور ) بظلم الناس ، ، ما كان عليه السلام يؤمن بالاصطفافات السياسية والتوظيف السياسي بالمال العام ، كان يخطب بالناس ( ان أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فاني من الخائنين ) وأحكم العبر ما تأخذ من السير الذاتية وليس من التنظير ، فكانت حكومته عليه السلام حكومة خدمة وطنية ، يبحث سماحة السيد عن الصور الجلية التي تكون الصورة الأقرب للمقارنة مع النظريات والمدارس المعاصرة أو السابقة في علم النفس وغيره من العلوم ، ومع ما عندنا من مخزون فكري رصين ، ومن هذا المخزون دعاء مكارم الاخلاق ، نجد القدرة العجيبة في التعاطي مع الامور بطريقة سلسة جذابة تجمع بين الحاجة الى الله دائما وبين القوة المستمدة وبين الضغوط النفسية التي تصل من خلال فهم الواقع ، بين الانكسار أمام العدو وبين الغلبة ،مكونات العلاقة التي صاغها الامام عليه السلام في هذا الدعاء مع بقية الأدعية الاخرى ،