بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
ورد عن نبي الله عيسى عليه السلام أنه قال:
(طُوبى لِلمُطَهَّرَةِ قُلوبُهُم، اُولئكَ يَزُورونَ اللَّهَ يَومَ القِيامَةِ)[1].
من لا يعرف الحب لن يستطيع أن يكتب حقاً عن المسيح عليه السلام، فهو من أعظم رموز وناشري المحبة في الكون كلّه، ليس في زمانه فحسب، ولكن في كلّ الأزمان، وصاحب الكلمة الرائعة الأثيرة "الله محبّة"، ومن لا يعرف المحبّة لا يصل إلى الله سبحانه ولا يعرفه حق معرفته.
ترك لنا عيسى عليه السلام إرثاً عملاقاً في الفكر الإنسانيّ والمنظومة الأخلاقيّة. سلامٌ على عيسى في الأولين وفي الآخرين. ومن أقواله (طوبى للمتراحمين أولئك هم المرحومون يوم القيامة، طوبى للمصلحين بين الناس أولئك هم المقرّبون يوم القيامة، طوبى للمطهّرة قلوبهم أولئك يزورون الله يوم القيامة، طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرثون منابر الملك يوم القيامة، طوبى للمساكين لهم ملكوت السماء، طوبى للمحزونين هم الذين يسرّون، طوبى للذين يجوعون ويظمئون خشوعاً هم الذين يسبقون، طوبى للمسبوبين من أجل الطهارة فإن لهم ملكوت السماء، طوباكم إذا حوسبتم وشتمتم وقيل فيكم كل كلمة قبيحة كاذبة حينئذ افرحوا وابتهجوا فإن أجركم قد كثر في السماء. يا عبيد الدنيا تحلقون رؤوسكم، تقصّرون قميصكم، تنكّسون رؤوسكم، ولا تنزعون الغل من قلوبكم). هكذا كان عيسى عليه السلام
إن هذا الحديث من الأحاديث المهمة، التي لو تكلمنا عنها على مدار العمر، وفي كل سنوات الحياة، لما كان الأمر غريباً.. فالقلب هو مصدر الاتصال بعالم الغيب، حيث يتم من خلاله تلقي المعارف الإلهية، وهو الذي يدرك الحقائق الملكوتية..
فقد ورد بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِين عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، إذْ قَامَ إلَيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ذِعْلَبٌ، ذَرِبُ اللِسَانِ بَلِيغٌ فِي الْخِطَابِ شُجَاعُ الْقَلْبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِين! هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟! فَقَالَ: (وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ! مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَهُ! قَالَ: يَا أَميرَ الْمُؤْمِنِين! كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟! قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ! لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ، ولَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ.
وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ! إنَّ رَبِّى لَطِيفُ اللَّطَافَةِ فَلَا يُوصَفُ بِاللُّطْفِ، عَظِيمُ الْعَظَمَةِ لَا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ، كَبِيرُ الْكِبْرِيَاءِ لَا يُوصَفُ بِالْكِبَرِ، جَلِيلُ الْجَلَالَةِ لَا يُوصَفُ بِالْغِلَظِ قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ فَلَا يُقَالُ: شَىْءٌ قَبْلَهُ؛ وبَعْدَ كُلِّ شَىْءٍ فَلَا يُقَالُ: شَىْءٌ بَعْدَهُ.
شَائِى الأشْيَاءِ لَا بِهِمَّةٍ، دَرَّاكٌ لَا بِخَدِيعَةٍ.
هُوَ فِى الأشْيَاءِ كُلِّهَا غَيْرُ مُتَمَازِجٍ بِهَا ولَا بَائِنٍ عَنْهَا.
ظَاهِرٌ لَا بِتَأْوِيلِ الْمُبَاشَرَةِ، مُتَجَلٍّ لَا بِاسْتِهْلَالِ)[2]..
فإذن، القلب هو ذلك الجهاز الذي يرى الله تعالى يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[3]..
ومن المؤكد بأنه ليس المراد بالوجه، ذلك الوجه المحدود شبر في شبر! إذ كيف يتناسب رؤية المحدود للامحدود! وبهذا الوجود أيضاً نرى ربنا في هذه الحياة الدنيا، بمعنى التجليات والفيوضات الإلهية.
وبالتالي كان لزاماً على كل مؤمن ومؤمنة الاهتمام بهذا القلب؛ لئلا يتخدر ويتقاعس ويغفل، وبالتدريج يموت ويُختم عليه.. إن مما يثير العجب هو اهتمام الناس المفرط بهذا البدن الفاني، فيما لو تعرض لمرض مجهول مثلاً، تراه قد ينفق الملايين، أو قد يكلف على نفسه مشقة السفر إلى بلاد بعيدة في مقابل علاج ذلك العضو! في حين نرى تجاهلهم للانتكاسات القلبية، وأمراضها الخبيثة! والحال بأن القلب هو قوام السعادة الأبدية.
إن الأمر يحتاج أن يحمل الإنسان همَّ هذا الطريق، لا أن يسير سيراً متقطعاً، فيشد الهمة في المواسم العبادية، ثم ما يلبث أن يعود إلى الفتور والتكاسل! ولا أن يواظب في سلك الطريق بلا خطة ممنهجة، ودون أن يعلم أصول الحركة إلى الله تعالى! قلنا أكثر من مرة: بأن الحركة إلى الله هي: سف، ومشروع، وبناء، وعملية متكاملة، ومترابطة؛ تحتاج إلى برمجة.. وعلينا أن نعلم بأن هنالك طريقا وهدفا، وهنالك عقبات وأعداء؛ تصد الإنسان عن ذلك الهدف.. وعليه، فمن أراد أن يحيا حياة باطنية؛ يلزمه أن يتمرس في معرفة أسرار القلب وعوارضه.. وهل خلق الله عز وجل في هذا الوجود خلقاً أعقد منه؟! وفقنا الله تعالى لمعرفة أسرار القلب بمنه وكرمه.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾[4]
وبالنسبة إلى الباطن والظاهر، الناس على أربعة أصناف:
فمنهم من أصلح باطنه وظاهره، نيّته وعمله، قلبه وجسده، فهو المؤمن.
ومنهم من أفسدهما، وهو الكافر.
ومنهم من أبطن الكفر وأظهر الإسلام، فهو المنافق.
ومنهم من كانت عقيدته صالحة وصحيحة، إلّا أنّه أفسد العمل، ويأتي بالمعاصي ويرتكب الذنوب، فهذا الفاسق.
والإسلام كما يحارب الكفر والنفاق كذلك يحارب الفسق والفجور، ولا يرضى للإنسان إلّا بطهارة الباطن والظاهر سويّة.
وبعبارةٍ اُخرى، الناس على أصناف أربعة:
1ـ من يفكّر ويعمل لطهارة ظاهره، ويعتني بنعومة جلده ونظافة ثيابه ولطافة جسده كالنساء، فهمّه حسن الظاهر وحسب، ونسي قلبه، بل لا يبالي بفساده ورجاسته بالذنوب والصفات الذميمة.
2ـ وهناك من يفكّر ويعمل بحسب زعمه وتخيّله لطهارة باطنه ونزاهته، وأنّه لا بدّ من إصلاح الباطن لا غير، حتّى وإن كان ظاهره قذرا وثيابه وسخة، كبعض المتصوّفة، ومنهم الملامتيّة الذين يفعلون المنكرات حتّى يلومهم الناس، فهؤلاء ممّن ضلّوا الطريق وأضلّوا الناس (ضالّ ومضلّ).
3ـ وهناك من خسر الدنيا والآخرة، لا يفكّر بإصلاح باطنه ولا بظاهره، يرتكب القبائح والذنوب، كما تعلوه القذارة والأوساخ، وتعطّ منه الروائح النتنة والكريهة.
4ـ وهناك العاقل حقّا والمؤمن صدقا، يفكّر بطهارة الباطن والظاهر معا، فكما أطاع الله بقلبه، وشهد بوحدانيّته، فإنّه أطاعه بلسانه فأقرّ بشهادته، كما أطاعه بجسده وأركانه، فيزيل عن القلب صفاته الذميمة كالشرك والنفاق وحبّ الدنيا والرياء وغير ذلك، كما يزيل عن بدنه الأوساخ والأرجاس بوضوئه لصلاته وطوافه ولكونه على الطهارة، ومن صلحت سريرته صلحت علانيته، وهناك ترابط وعلاقة وطيدة بين الظاهر والباطن، وإنّ الظاهر عنوان الباطن، كما أنّ الباطن منطلق الظاهر.
وإنّ القلوب الطاهرة مواضع نظر الله ورحمته الواسعة، وبمثل هذا القلب الطاهر يدرك الإنسان رفيع الدرجات، ويرتقي سلّم المكرمات، وتضاعف له الحسنات، ويكون في ظلّ عرش الله.
فقد ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ قَالَ: (قَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَا رَبِّ مَنْ أَهْلُكَ اَلَّذِينَ تُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّكَ قَالَ فَأَوْحَى اَللَّهُ إِلَيْهِ اَلطَّاهِرَةُ قُلُوبُهُمْ)[5].
وفي الدعاء: (اللّهمَّ صَلِّ عَلى محمّدٍ وآلِ محمّدٍ ، واجعَلْنا مِن الذينَ أرسَلتَ علَيهِم سُتورَ (شُؤونَ) عِصمَةِ الأولياءِ ، وخَصَصتَ قُلوبَهُم بطَهارَةِ الصَّفاءِ ، وزَيَّنتَها بالفَهمِ والحَياءِ في مَنزِلِ الأصفياءِ ، وسَيَّرتَ هُمومَهُم في مَلَكوتِ سَماواتِكَ ، حُجُباً حُجُباً حتّى يَنتَهيَ إلَيكَ وارِدُها )[6].
[1] تحف العقول، صفحة: 394.
[2] التوحيد - الشيخ الصدوق، ص 308.
[3]سورة القيامة، الآيتان: 22-23.
[4] سورة التوبة، الآية: 108.
[5] مستدرك الوسائل، ج3، ص361.
[6] بحار الأنوار، ج91، ص121.
اللهم صل على محمد وآل محمد
ورد عن نبي الله عيسى عليه السلام أنه قال:
(طُوبى لِلمُطَهَّرَةِ قُلوبُهُم، اُولئكَ يَزُورونَ اللَّهَ يَومَ القِيامَةِ)[1].
من لا يعرف الحب لن يستطيع أن يكتب حقاً عن المسيح عليه السلام، فهو من أعظم رموز وناشري المحبة في الكون كلّه، ليس في زمانه فحسب، ولكن في كلّ الأزمان، وصاحب الكلمة الرائعة الأثيرة "الله محبّة"، ومن لا يعرف المحبّة لا يصل إلى الله سبحانه ولا يعرفه حق معرفته.
ترك لنا عيسى عليه السلام إرثاً عملاقاً في الفكر الإنسانيّ والمنظومة الأخلاقيّة. سلامٌ على عيسى في الأولين وفي الآخرين. ومن أقواله (طوبى للمتراحمين أولئك هم المرحومون يوم القيامة، طوبى للمصلحين بين الناس أولئك هم المقرّبون يوم القيامة، طوبى للمطهّرة قلوبهم أولئك يزورون الله يوم القيامة، طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرثون منابر الملك يوم القيامة، طوبى للمساكين لهم ملكوت السماء، طوبى للمحزونين هم الذين يسرّون، طوبى للذين يجوعون ويظمئون خشوعاً هم الذين يسبقون، طوبى للمسبوبين من أجل الطهارة فإن لهم ملكوت السماء، طوباكم إذا حوسبتم وشتمتم وقيل فيكم كل كلمة قبيحة كاذبة حينئذ افرحوا وابتهجوا فإن أجركم قد كثر في السماء. يا عبيد الدنيا تحلقون رؤوسكم، تقصّرون قميصكم، تنكّسون رؤوسكم، ولا تنزعون الغل من قلوبكم). هكذا كان عيسى عليه السلام
إن هذا الحديث من الأحاديث المهمة، التي لو تكلمنا عنها على مدار العمر، وفي كل سنوات الحياة، لما كان الأمر غريباً.. فالقلب هو مصدر الاتصال بعالم الغيب، حيث يتم من خلاله تلقي المعارف الإلهية، وهو الذي يدرك الحقائق الملكوتية..
فقد ورد بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِين عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، إذْ قَامَ إلَيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ذِعْلَبٌ، ذَرِبُ اللِسَانِ بَلِيغٌ فِي الْخِطَابِ شُجَاعُ الْقَلْبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِين! هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟! فَقَالَ: (وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ! مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَهُ! قَالَ: يَا أَميرَ الْمُؤْمِنِين! كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟! قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ! لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ، ولَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ.
وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ! إنَّ رَبِّى لَطِيفُ اللَّطَافَةِ فَلَا يُوصَفُ بِاللُّطْفِ، عَظِيمُ الْعَظَمَةِ لَا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ، كَبِيرُ الْكِبْرِيَاءِ لَا يُوصَفُ بِالْكِبَرِ، جَلِيلُ الْجَلَالَةِ لَا يُوصَفُ بِالْغِلَظِ قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ فَلَا يُقَالُ: شَىْءٌ قَبْلَهُ؛ وبَعْدَ كُلِّ شَىْءٍ فَلَا يُقَالُ: شَىْءٌ بَعْدَهُ.
شَائِى الأشْيَاءِ لَا بِهِمَّةٍ، دَرَّاكٌ لَا بِخَدِيعَةٍ.
هُوَ فِى الأشْيَاءِ كُلِّهَا غَيْرُ مُتَمَازِجٍ بِهَا ولَا بَائِنٍ عَنْهَا.
ظَاهِرٌ لَا بِتَأْوِيلِ الْمُبَاشَرَةِ، مُتَجَلٍّ لَا بِاسْتِهْلَالِ)[2]..
فإذن، القلب هو ذلك الجهاز الذي يرى الله تعالى يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[3]..
ومن المؤكد بأنه ليس المراد بالوجه، ذلك الوجه المحدود شبر في شبر! إذ كيف يتناسب رؤية المحدود للامحدود! وبهذا الوجود أيضاً نرى ربنا في هذه الحياة الدنيا، بمعنى التجليات والفيوضات الإلهية.
وبالتالي كان لزاماً على كل مؤمن ومؤمنة الاهتمام بهذا القلب؛ لئلا يتخدر ويتقاعس ويغفل، وبالتدريج يموت ويُختم عليه.. إن مما يثير العجب هو اهتمام الناس المفرط بهذا البدن الفاني، فيما لو تعرض لمرض مجهول مثلاً، تراه قد ينفق الملايين، أو قد يكلف على نفسه مشقة السفر إلى بلاد بعيدة في مقابل علاج ذلك العضو! في حين نرى تجاهلهم للانتكاسات القلبية، وأمراضها الخبيثة! والحال بأن القلب هو قوام السعادة الأبدية.
إن الأمر يحتاج أن يحمل الإنسان همَّ هذا الطريق، لا أن يسير سيراً متقطعاً، فيشد الهمة في المواسم العبادية، ثم ما يلبث أن يعود إلى الفتور والتكاسل! ولا أن يواظب في سلك الطريق بلا خطة ممنهجة، ودون أن يعلم أصول الحركة إلى الله تعالى! قلنا أكثر من مرة: بأن الحركة إلى الله هي: سف، ومشروع، وبناء، وعملية متكاملة، ومترابطة؛ تحتاج إلى برمجة.. وعلينا أن نعلم بأن هنالك طريقا وهدفا، وهنالك عقبات وأعداء؛ تصد الإنسان عن ذلك الهدف.. وعليه، فمن أراد أن يحيا حياة باطنية؛ يلزمه أن يتمرس في معرفة أسرار القلب وعوارضه.. وهل خلق الله عز وجل في هذا الوجود خلقاً أعقد منه؟! وفقنا الله تعالى لمعرفة أسرار القلب بمنه وكرمه.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾[4]
وبالنسبة إلى الباطن والظاهر، الناس على أربعة أصناف:
فمنهم من أصلح باطنه وظاهره، نيّته وعمله، قلبه وجسده، فهو المؤمن.
ومنهم من أفسدهما، وهو الكافر.
ومنهم من أبطن الكفر وأظهر الإسلام، فهو المنافق.
ومنهم من كانت عقيدته صالحة وصحيحة، إلّا أنّه أفسد العمل، ويأتي بالمعاصي ويرتكب الذنوب، فهذا الفاسق.
والإسلام كما يحارب الكفر والنفاق كذلك يحارب الفسق والفجور، ولا يرضى للإنسان إلّا بطهارة الباطن والظاهر سويّة.
وبعبارةٍ اُخرى، الناس على أصناف أربعة:
1ـ من يفكّر ويعمل لطهارة ظاهره، ويعتني بنعومة جلده ونظافة ثيابه ولطافة جسده كالنساء، فهمّه حسن الظاهر وحسب، ونسي قلبه، بل لا يبالي بفساده ورجاسته بالذنوب والصفات الذميمة.
2ـ وهناك من يفكّر ويعمل بحسب زعمه وتخيّله لطهارة باطنه ونزاهته، وأنّه لا بدّ من إصلاح الباطن لا غير، حتّى وإن كان ظاهره قذرا وثيابه وسخة، كبعض المتصوّفة، ومنهم الملامتيّة الذين يفعلون المنكرات حتّى يلومهم الناس، فهؤلاء ممّن ضلّوا الطريق وأضلّوا الناس (ضالّ ومضلّ).
3ـ وهناك من خسر الدنيا والآخرة، لا يفكّر بإصلاح باطنه ولا بظاهره، يرتكب القبائح والذنوب، كما تعلوه القذارة والأوساخ، وتعطّ منه الروائح النتنة والكريهة.
4ـ وهناك العاقل حقّا والمؤمن صدقا، يفكّر بطهارة الباطن والظاهر معا، فكما أطاع الله بقلبه، وشهد بوحدانيّته، فإنّه أطاعه بلسانه فأقرّ بشهادته، كما أطاعه بجسده وأركانه، فيزيل عن القلب صفاته الذميمة كالشرك والنفاق وحبّ الدنيا والرياء وغير ذلك، كما يزيل عن بدنه الأوساخ والأرجاس بوضوئه لصلاته وطوافه ولكونه على الطهارة، ومن صلحت سريرته صلحت علانيته، وهناك ترابط وعلاقة وطيدة بين الظاهر والباطن، وإنّ الظاهر عنوان الباطن، كما أنّ الباطن منطلق الظاهر.
وإنّ القلوب الطاهرة مواضع نظر الله ورحمته الواسعة، وبمثل هذا القلب الطاهر يدرك الإنسان رفيع الدرجات، ويرتقي سلّم المكرمات، وتضاعف له الحسنات، ويكون في ظلّ عرش الله.
فقد ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ قَالَ: (قَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَا رَبِّ مَنْ أَهْلُكَ اَلَّذِينَ تُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّكَ قَالَ فَأَوْحَى اَللَّهُ إِلَيْهِ اَلطَّاهِرَةُ قُلُوبُهُمْ)[5].
وفي الدعاء: (اللّهمَّ صَلِّ عَلى محمّدٍ وآلِ محمّدٍ ، واجعَلْنا مِن الذينَ أرسَلتَ علَيهِم سُتورَ (شُؤونَ) عِصمَةِ الأولياءِ ، وخَصَصتَ قُلوبَهُم بطَهارَةِ الصَّفاءِ ، وزَيَّنتَها بالفَهمِ والحَياءِ في مَنزِلِ الأصفياءِ ، وسَيَّرتَ هُمومَهُم في مَلَكوتِ سَماواتِكَ ، حُجُباً حُجُباً حتّى يَنتَهيَ إلَيكَ وارِدُها )[6].
[1] تحف العقول، صفحة: 394.
[2] التوحيد - الشيخ الصدوق، ص 308.
[3]سورة القيامة، الآيتان: 22-23.
[4] سورة التوبة، الآية: 108.
[5] مستدرك الوسائل، ج3، ص361.
[6] بحار الأنوار، ج91، ص121.