تويت
لأنهم كانوا يرسمون كربلاء بيتاً بيتاً، شارعاً شارعاً، حتى انتقلوا إلى الحديث عن المؤسسات الحكومية، والتي أصبحت تشكل النبض الصارخ في الروح... ذكريات لا تموت... قال أحدهم: في عام 1925م جُلبت ماكنة كهرباء لإنارة المدينة. عقب صديق جدي الحميم: وكان مقرها في (خان المخضر القديم) مقابل (الفسحة)، لكن جلب (ماطور) خاص، لإنارة الروضة الحسينية، وذلك في سنة 1912م. عقب شهيد آخر: وقبل هذا التاريخ كانت المدينة تضاء بـ(الفوانيس) وحراسها من أهالي المحلة، وهم أشخاص يطلق عليهم (الجراغجية)، وينتسبون إلى البلدية، يُكلفون بحراسة (الفوانيس)...
(آهة) تحتشد في صدر أحد الشهداء، وربما هي أوار الذكريات التي تسعى لتظهر أمامي كل جوانب كربلاء، فقال: في شرق العباسية الشرقية كان هناك نهر يسمى نهر الحلة، وعلى مقربة منه خان كبير يسمى (دار العجزة)، وهناك دار رعاية للأحداث، وكانت تشرف عليها مديرية الرعاية الاجتماعية. أما في سراي الحكومة، كانت هناك (دائرة العمل والشؤون الاجتماعية). قلت:- يبدو لي أن هذه الدائرة أسست في تاريخ حديث لا يتجاوز السبعينيات؟ أجابني: لا يا أخي تلك التي تقصدها هي (مديرية التقاعد والضمان الاجتماعي)، وقد أسست عام 1967م، وكانت أيضا تعود إلى وزارة العمل والشؤون للعمال، ومهمتها تخصيص الرواتب التقاعدية، وصرف الرواتب للمتقاعدين، والرعاية الصحية للعمال، من علاج، وصرف إجازات مرضية، وجباية اشتراكات.
أما مديرية العمل، فقد أسست عام 1958م مهمتها تفتيش المعامل والشركات (القطاع الاشتراكي والخاص). التفت إلي أحدهم ممازحاً: هل تعرف (الويركو)؟ فأبديت علامة النفي والاستغراب... قال: هي أسم مديرية المال، وكانت تستوفي ضريبة العقار. قال شهيد آخر: وفي محلة العباسية الغربية وفي دار الحاج عبد الصراف، كانت هناك دائرة التسوية. قلت بشيء من الدهشة: التسوية؟ أجابني: كانت مهمتها تسوية الإشكالات الناجمة عن استغلال الآهلين سواء بالسكن أو بالاستثمار، وحين فوضت لهم بـ(الطابو) سميت دائرة (الطابو) وبعدها دائرة التسجيل العقاري.
قلت: الذي أعرفه أن تاريخ دوائر (الطابو) يرجع إلى فترة الاحتلال العثماني؟ فأكمل الشهيد: نعم وبالتحديد أيام الوالي (مدحت باشا) تم تسجيل الأراضي الأميرية، وبعدها شرع بتسجيل الأملاك. قلت: بأي عام كانت؟ قال: عام 1872م أي في أيام الوالي (محمد رؤوف باشا) تشكلت في بغداد دوائر (الطابو). قلت: في العهد العثماني واسمها (الطابو)؟
قال الشهيد: لا طبعا كانت تسمى (دوائر الدفتر الخاقاني). فسألته: وهل كانت اللغة التركية هي المتداولة؟ فأجابني: لحد ثورة العشرين استبدلت باللغة العربية، وكانت هناك أيضاً مديرية الخزينة، تقوم بصرف المال للدوائر العائدة لها، ربما مثل هذا المسح التاريخي يكون ثقيلاً، لكنه جميل في فم شهيد يسألني: هل تعرف الدائرة المخمنية؟ قلت: وما كانت؟ قال: أسست الدائرة المخمنية عام 1964م ثم تطورت وأخذت تجني الضرائب، وأدمجت مع مديرية ضريبة العقار التي كانت تأخذ رسوماً 10% من إيرادات العقارات الأهلية والرسمية، وبعد دمجها مع المخمنية صارت المديرية العامة للضرائب.
مؤثرات الحديث تبدو واضحة، فهي تطوف بين عوالم كربلاء القديمة حتى صرت أراها أمامي ببساطتها، فكنت أظن أن شارع (الدخانية) الذي يقع في العباسية الشرقية سمي بهذا الاسم، لأن دائرة (الدخانية) تمتلك عدة سيارات تطلق الدخان للقضاء على البعوض، لكني اكتشفت من خلال ذكريات شهيد آخر، أن سبب التسمية يرجع لوجود دائرة انحصار (التبغ) فيه؛ وهي من الدوائر العائدة إلى وزارة المالية، ومهمة هذه الدائرة الإشراف على مزارع (التنباك) في الهندية وضواحيها، واستلام التنباك من المزارعين وتوزيعه على المحلات داخل المدينة، وتصدير الفائض إلى المدن الأخريات، وجلب (التبغ) المنتج من المناطق الشمالية، وتوزيعه على المحلات، وقد تداخلت أعمال هذه الدائرة ابتداء مع دائرة الگمارك التي كان مقرها في نفس الخان...
وتتشعب الأحاديث والذكريات، ليقفز أسم (قنبر) أمام مخيلتي، والذي لازم خدمة عدد من الأئمة الأطهار عليهم السلام، وإذا بي أكتشف أن المقصود هنا غيره!! قال جدي: إن القنبر يا ولدي هو أسم أول ضابط تجنيد، هل تعرف أن الخدمة الإلزامية لا تطبق إلا على أبناء المدينة؟ فقلت مستغرباً: وما السبب؟ فأجابني: يا بني أن الزراع والبدو غير مشمولين بالخدمة، لعدم ارتباطهم بالمدينة، ولعدم وجود جنسيات لهم في سجلات النفوس.
اشراقة الكون وصفاء ملامحهم ومشاعرهم الكبيرة، تعبر عن الانتماء لهذا الحنين عام 1929م ثم انتقلت إلى عدة أماكن وكانت دائرة الأوقاف تتبع إلى سراي الحكومة، مهمتها الإشراف على الأموال الموقوفة من خيرية وذرية ومحاسبة متولي الأوقاف، وهناك جملة من الأراضي الموثقة العائدة للسادة الكربلائيين، ثم الأوقاف النبوية الموقوفة من قبل الولاة العثمانيين، ثم الأوقاف الحسينية (العتبات المقدسة) فسألني أحد الشهداء: هل تعرف معنى (التيل خانة)؟
قلت: لا... يبدو أنها كلمة تركية؟ فأبتسم وقال: تعني دائرة البريد والبرق والهاتف، تم تأسيسها حدود سنة 1300هـ، وكانت الأسلاك تمد من اسطنبول إلى كربلاء عن طريق بغداد... قلت: وطوابع البريد هل هي عثمانية أيضا؟ قال: نعم هي التي تلصق على الرسائل، وعندما دخل الانگليز العراق، استعملوا الطوابع التركية.
استغربت حقاً من اجراء الانكليز، كيف يحكمون ولا يغيرون الطوابع؟ فأجابني أحد الشهداء: هم وضعوا عليها عنوان الحكومة البريطانية ابان الاحتلال. قلت: يا صديقي أصبحت لدينا ثلاث مديريات؛ دائرة البريد والتوفير، اختصاصها تسليم واستلام الرسائل والتوفير والحوالات، وتوزيع الرواتب على المتقاعدين العجزة. ودائرة أخرى هي مهندسية اتصالات كربلاء (الأمواج المحملة والمايكرويف). ودائرة البرق والهاتف، وتشمل الأجهزة الهاتفية والبدالات والبرقيات.
قال الشهيد - ويبدو لي أنه كان موظفاً في هذه الدائرة -: إن البدالة التي كانت في كربلاء توسعت إلى 10,000 رقم، حتى استوفيت جميعها، وتم توسيع البدالة لناحية الحسينية من بدالة 100 رقم إلى بدالة حديثة أوتوماتيكية سعة 1000 رقم مع ربط ناحية العطيشي بناحية الطف... وقفت مستغرباً لأسأل جدي: ماذا يعني بناحية الطف؟ قال: (الجرية) يا بني!! أكمل الشهيد: وبدالة عين التمر يدوية ذات 200رقم... رأيت أن الوقت قد تأخر... عليَّ الاستئذان.
أعجبني
تعليق