تاريخُ الكتّاب والكتاتيب والمدارس في مدينة كربلاء المقدسة
الرؤيا في مسالك الذكرى تعطي الحياة طعما آخر، تفاصيل مدينة أحسّها قريبة من النفس، هل أستطيع أن أسميها طفولة كربلاء؟ قال الجد: هي المدللة يا بني، نحملها دمعة وابتسامة وبراءة طفولة لاتشيخ، وحكمة زهو لايموت... نحن الشهداءُ لسنا أمواتا يابني، نحن نتنفس بكم، ونعيش فيكم، ربما عشنا حياة بدائية لكنها الجذر الذي كوّن حياتكم، مدارسكم وليدة الكتاتيب التي كانت تعمر لتعليم قراءة القرآن الكريم، وتجويده، وزيارة الحسين عليه السلام...
ابتسم احد الشهداء وهو يسألني: أتعرف معنى (المشق)؟ قلت: هو تمارين تسبق بعض الطقوس عندنا. فأجاب وهو يعانق ابتسامته: المشق في الكتاتيب يعني الاملاء والخط. عقب احد الشهداء قائلا: ربما ستظنون ان الدراسة في الكتاتيب كانت عبثية او مزاجية؛ لكن في الحقيقة كانت أكاديمية بحتة... (أخذته الذكريات الى عوالمها) فأردف قائلا: كنا ننتشر على شكل حلقات، يقف امامنا الشيخ او مساعد (الخلفة) وهو اكبر منا سناً، بينما الشيخ يشرف على امتحاننا اليومي، ونتاول طريقة احرف الهجاء (أبجد هوز...) وفي المشق يكتب الشيخ أحرفا ونكتب خلفه لتقوية الخط، حتى كنا نكتب السطر اربعين مرة.
قلت: ياجد هل كانت (السبورات) مثل (سبوراتنا) خشبية سوداء، وتكتب عليها بـ(الطباشير)؟ واذا بهم يضكحون، قال الشيخ الوقور صديق جدي الودود: كانت السبورة عبارة عن صحيفة نحاسية (تنكة) يكتب عليها بالحبر الأسود، وتوجد هناك (برمة)! صحت: وماهي البرمة يا جدي؟ أكمل الشيخ الوقور: تعني (البرمة) اناء خزف تغسل فيه الكتابة.
عقب أحد الشهداء بابتسامة لطيفة ليقول: حين يخطأ الطالب يمسح (السبورة) بلسانه، لذلك تجد معظم الطلاب ألسنتهم سوداء من تأثير الحبر! وهكذا كنا ندرس الحساب أيضا بمسائل بسيطة. قال الشيخ: ومن ضمن عادات زماننا، كان الطالب إذا رفع السبابة يعني يريد الخروج لشرب الماء فقط، واذا رفع الخنصر يطلب استرحاما؛ اي الذهاب لقضاء الحاجة، واذا رفع الابهام يعني يطلب الاذن لغسل الوجه. قلت: ياجد يقول السيد سلمان آل طعمه في كتابه (كربلاء في الذاكرة): إن الصحن الحسيني كان يمثل سوقا يتكسب به الناس في العهد التركي. قال الجد: كانت بعض المحلات من ضمن السور الخارجي للصحن المبارك، أي أن البيع كان من الخارج وليس من الداخل، لكن بعض المقابر كانت تستخدم لبيع وشراء وتجليد الكتب القديمة...
انقاد أحدُ الشهداء الى ذكريات صباه، وهو يبتسم، فالذكريات لها طعم الأفراح دوما، كان لكل شيخ (طمغة) يختم بها أرجل التلاميذ، خاصة أيام الخميس صيفا، ليعاينها يوم السبت... سألت مستغربا: لماذا؟ قال: ليتأكد من عدم ذهابه للنهر والسباحة في الحسينية! سألت: طيب ياجدي، والذي يستحم في بيته؟ قال الجد: سيأخذ معه تذكرة من ولي أمره. قلت: ياجد هناك ألف طريقة ليتخلص بها الانسان من المأزق، ويحافظ على الختم (الطمغة) دون أن تتبلل؟ فأجاب أحد الشهداء: كنا (نتفنن) في هذه المسألة، مثلا كنا نضع مادة الشمع عليها، أو نضع غطاء (قنينة) ونربطها بمنديل، لكن اذا تبللت فالـ(فلقة) بالانتظار؛ وهي عصا في وسطها حبل من طرفيها، توضع رجل التلميذ في الحبل، بعد أن يُطرح التلميذ على قفاه، ويمسك بها تلميذان من كل طرف، ثم يتركه يصرخ من اثر الضرب...
قلت لجدي: هل هناك مراحل دراسية متعددة ام القضية كلها تنحصر في مرحلة واحدة؟ قال الجد: لا كانت السنة الثانية تخصص لختم القرآن، وفي نهاية السنة اي عند (الختمة)، تقام له حفلة تخرّج تسمى (الزفة)، وختمة القرآن تشبه زفة المختون (الطهور). قلت: ياجد كيف كنتم تفرّقون بين (الزفتين)؟ قال: بالأناشيد؛ فأناشيد (الختمة) حزينة، و(زفة) المختون عبارة عن أهازيج شعبية، يصحبها قرع الطبول، ونقر الدفوف في طرقات المدينة، ويُؤخذ المختون الى الحمام في (زفة) كبيرة من باب الدار الى الحمام، ثم العودة به الى الدار، بينما (زفة الختمة) تختلف.
سألت جدي عن أجور الدراسة: هل كانت هناك مثلا عملة معينة يتم التعامل بها عن كل تلميذ، مقابل تعليمه، أو مقابل (الختمة)؟ أجاب: كانت تقدم على شكل هدايا للشيخ، لكنها بسيطة (4قمريات لكل يوم أو 5قمريات) قاطعته لأحسب المبلغ، قال احد الشهداء: تساوي عشرين او ثلاثين فلساً... يعني حسب ما اعرف ان المعادلة تحمل طابع السبعينيات من القرن المنصرم، فاليوم ربما تعادل عشرين ألف دينار او اكثر، اضافة الى الاسبوعية. قلت: وما هي الاسبوعية؟ قال: اذا كان الوقت صيفا، فالهدية ماء، أما اذا كان الوقت شتاء فتكون الهدية فحما.
عقب الشيخ الوقور: اما الطبقة الراقية فكان السعر يختلف معها، فكانت تمنح الشيخ (بيشلغ) أي درهما شهريا. ضحكت حينها وقلت: يعني (البيشلغ) هو الدرهم؟ قال: نعم وهذا يقدم اضافة الى الفاكهة والطعام، وهناك من يحب ابنه حبا مفرطا، ولقاء ذلك يمنح الشيخ الفاكهة، ان كان يمتلك بستانا. قلت: من الطبيعي ما نعرفه لم يكن هناك (رحلات) بل كان الطلاب يفترشون الأرض؟ اكمل احد الشهداء: كنا نحمل الافرشة من بيوتنا، وامامنا (رحلات) يوضع عليها القرآن اثناء القراءة، وهي مرصعة ومزخرفة بنقوش جميلة تجلب من الخارج.
يبدو ان هناك طرفة يريد ان يرويها احد الشهداء، فقد سبقت ابتسامته كلامه: كنا حين نجلس في الصحن المبارك للقراءة، نترقب بعض الزوار الاجانب، حيث كان البعض منهم يتبرع بـ(روبيتين) مقابل انصرافنا لبيوتنا. قلت: ياجد والمدارس؟ قال: يابني المدارس فتحت عام 1907م وكان الكثير من الأهالي يتركون المدرسة، ويسجلون أبناءَهم في الكتاتيب. قلت: جيد ياجد والتلميذات؟ قال الجد: هناك ايضا نساء يعلمن الطالبات، وخلال ستة اشهر تعلم (الملة) القرآن الكريم فتكمله لهن... قلت: والأجر؟ قال: مقابل ليرة واحدة. قلت: ياجد لقد قرأت في تأريخ كربلاء عن اشهر الكتاب؟ قال: يا بني في الروضة الحسينية، كان هناك عدد كبير منهم، والذين اتذكرهم الشيخ حميد الكعبي، والشيخ حسن كوسة، والسيد صادق نشأت، والشيخ محمد السراج... قلت: لحظة ياجد أليس هو الشاعر (ابو خضرة)؟ قال الجد: نعم يابني هو، ثم أكمل... ومنهم الشيخ علي اكبر النائيني، والشيخ علي العاملي، والشيخ حسين القصير، والسيد محمد رضا الاسترابادي، والشيخ مهدي الرئيس، والسيد هاشم الغريفي، والشيخ عبد الله المعلم، والشيخ عباس الصفار...
قلت: وفي العتبة العباسية المقدسة؟ قال: كان هناك ابرز الكتاب الشيخ علي ابو كفانه، والشيخ محمد مهدي الحائري، والشيخ عبد الركيم الكربلائي (ابو محفوظ) والشيخ علي الصيقل. قلت: ياجد وهل يقتصر وجود الكتاتيب في الصحنين؟ أجابني فورا احد الشهداء: كان الشيخ عبد الحسين المسلماني في سوق الصفارين، وعند باب صحن العباس الشيخ رحيم العطار، وفي مسجد العطار الذي يقع في شير فضة السيد مهدي الحكيم، وفي مسجد الكرامة الذي يقع في باب السلالمة الشيخ علي الهر... نظر إلي الجد مشيرا لوقت الانصراف...