حبّ المعتقدين من أهل الطاعة
أمّا حبّه ممّن تولاه فحدّث ولا حرج، فهو كان وما زال دافعاً للتضحية بالأغلى فها هو حجر بن عدي الكندي يؤتى به وأصحابه من قبل جند معاوية إلى مرج عذراء فيحبسون فيه بسبب حبّهم وولائهم لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وإذا بهم يصلون عامة الليل، فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم، فقال لهم حجر: اتركوني أتوضأ وأصلي، فإني ما توضأت إلا صليت. فتركوه فصلى، ثم انصرف منها وقال: والله ما صليت صلاة قط أخفّ منها، ولولا أن تظنوا فيَّ جزعاً من الموت لاستكثرت منها، ثم قال لهم جند معاوية: إنا قد أمرنا ان نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم، فأبوا، فحُفرت لهم القبور، وأحُضرت الأكفان، وقتل عدد من أصحاب حجر، وحينما وصل الأمر إليه قال لهم: لا تحلوا قيودي؛ فإني اجتمع أنا ومعاوية على هذه المحجة، ثم قال للمأمور بالقتل: إن كنت أمرت بقتل ولدي فقدّمه، وضرب عنقه، فقيل له: تعجَّلت الثكل!! فقال (رض): خفت أن يرى ولدي هول السيف على عنقي، فيرجع عن ولاية عليّ (عليه السلام).
حبّ المعتقدين من أهل معصية
ها هو الشاعر اسماعيل الحميري، في رحلة اختصاره وقد بدا على وجهه أثر الذنوب ثم زال لتظهر عليه بارقة نور انتشرت في وجهه فأشرق نوراً وبهاء، فإذا به قبيل وفاته يعبِّر عن حبِّه لعلي (عليه السلام) الذي أنقذه من تلك العقبة فيقول:
كذب الزاعمون أن علياً لن ينجي محبه من هناة
قد وربي دخلتُ جنَّة عدن وعفا لي الاله عن سيئاتي
فأبشروا اليوم أولياء علي وتولّوا علياً حتى الممات
ثم من بعده تولّوا بنيه واحداً بعد واحد بالصفات
وها هو ذلك السارق المحبّ يمثل بين يدي الإمام علي (عليه السلام) يعترف بالسرقة، فأراد الإمام أن يبعده عن الاعتراف الكامل المؤدّي إلى قطع اليد، لكن السارق أصرّ، فقطع أمير المؤمنين (عليه السلام) يده، فحملها وسار بين الناس، رآه أحدهم وسأله من قطع يدك؟ فأجاب: قطعها سيدي ومولاي... أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فتعجّب السائل وقال: قطع يدك وتمدحه.
فأجاب: كيف لا أفعل وقد خامر حبّه لحمي ودمي.
حبّ من لم ينتسب إلى مدرسته
وها هو العالم الكبير النسائي صاحب سنن النسائي الذي هو من الصحاح الستة عند أهل السنّة، يزعجه عدم معرفة أهل الشام بالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويلامس الصورة المشوّهة التي قدّمها الأمويون لهم، فوقف يحدّثهم عن فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، هُدِّد، لكنّه استمر غير آبه بالتهديد حبّاً بأمير المؤمنين علي (عليه السلام) حتى قُتل في مسار حبّ الإمام علي (عليه السلام).
حبّ من لم ينسب إلى دينه
وها هو الشاعر اللبناني المسيحي بولس سلامة ينشد في أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً:
لا تقل شيعة هواة عليّ إنَّ في كل منصفٍ شيعيّا
هو فخر التاريخ لا فخر شعب يدعيه ويصطفيه وليّا
جلجل الحق في المسيحي حتى عاد من فرط حبّه علويّا
لماذا أحبّه هؤلاء؟
قد يقول قائل: إنَّ المسلمين أحبّوا عليّاً (عليه السلام) بسبب ما سمعوه وقرأوه من دعوة الله تعالى ورسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى حبّه بدءاً بقوله تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، فعن ابن عباس: "لما نزلت هذه الآية (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القربى) قالوا: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت موّدتهم؟
قال (صلى الله عليه وآله): "علي وفاطمة وولداها". استمراراً بروايات كثيرة جداً رواها عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أهل السنة فضلاً عن الشيعة من قبيل:
ما رواه الخوارزمي بسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله): "من أحبّ علياً قَبِل الله منه صلاته وصيامه وقيامه، واستجاب دعاءه، ألا ومن أحبّ علياً أعطاه الله بكل عرق في بدنه مدينة في الجنّة".
ما رواه – أيضاً - الخوارزمي بسنده عن حبيبنا المصطفى (صلى الله عليه وآله): "إن ملك الموت يترّحم على محبّي علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما يترّحم على الأنبياء (عليه السلام)"
ما رواه الخوارزمي بسنده عنه (صلى الله عليه وآله): "إنّ السعيد كلّ السعد من أحبّ علياً في حياته وبعد موته".
ما رواه الخوارزمي بسنده عنه (صلى الله عليه وآله): "لو اجتمع الناس على حبّ علي ابن أبي طالب (عليه السلام) لما خلق الله النار".
ما رواه الذهبي عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): "حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ الله".
ما رواه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): "يا علي لا يحبّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا كافر ومنافق" إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة حول حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن حبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) دعوة إليه، وبياناً لثوابه عند الله تعالى، والتي لا يمكن للمرء أن ينكر كونها عاملاً فاعلاً في حبّ المسلمين لأمير المؤمنين (عليه السلام) لكن إذا دقّقنا في معنى الحبّ نعرف أكثر عن سرّ حبِّ علي (عليه السلام)، وبالتالي نعرف سرّ حبِّ غير المسلمين الذين لم يكن حبّهم له بسبب القرآن الكريم وخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله).
معنى الحبّ
فالحبُّ هو ميلٌ من القلب نحو كمال يراه المُحبّ في المحبوب، فالإنسان بطبيعته غرس اللهُ فيه حبَّ الكمال، وهو بطبيعته يحبّ الجمال؛ لأنه كمال، ويحبّ الصدق والوفاء والشجاعة والعدل والكرم لأنها كمالات، من هنا فإنّ قلب الإنسان ينجذب بدون اختيار إلى الجميل والشجاع والعادل والكريم. أجل إنّه ينجذب بدون اختيار، بل بسبب تلك الفطرة الجاذبة له نحو الكمال، فالإنسان لا يستطيع أن يحب من يريد بمجرد إرادته، بل إنه في قضية الحبّ مجذوب نحو كمال المحبوب.
سرُّ حب علي (عليه السلام)
بناءً على ما تقدّم، فإنّ ما ذكره النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن حبّ الإمام علي (عليه السلام) هو ليس تكليفاً شرعياً بحبّه، بل هو إرشاد إلى كمال علي (عليه السلام).
وهذا ما نلاحظه في روايات تنصّب دلالتها على كمال أمير المؤمنين (عليه السلام)، كقوله (صلى الله عليه وآله): "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، والى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب".
إنه حديث يرشد إلى بعض كمالات أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى علمه وحلمه وهيبته وعبادته وزهده. وقد أشار بعض الصحابة إلى كمالات الإمام علي (عليه السلام) الداعية إلى حبّه، فها هو ابن عباس المحبّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: "لو كانت بحار الدنيا مداداً وأشجارها أقلاماً، وأهلها كتّاباً فكتبوا مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفضائله من يوم خلق الله الدنيا إلى أن يفنيها فما بلغوا معشار ما اتاه الله تبارك وتعالى ."
وكذا نلاحظ أن بولس سلامة المسيحي المحبّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) يتحدّث عن كمالاته التي جذبته إليه، فأحبه فيقول في تتمة شعره السابق:
أنا من يعشق البطولة والإلهام والعدل والخلق الرضيا
فإذا لم يكن علي نبياً فلقد كان خلقه نبويّا
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إني أحبّ علياً
سماحة الشيخ د. أكرم بركات
تعليق