لا شك في أن ليلة القدر هي ليلة نزول القرآن و هي في شهر رمضان بدليل أن القرآن نزل في شهر رمضان المبارك و تحديداً في ليلة القدر لقول الله عزوجل: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ... ﴾ 1 . و لقوله جَلَّ جَلاله في سورة القدر: ﴿ ... إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ 2 . مضافاً إلى قوله سبحانه و تعالى: في سورة الدخان: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ 3 .
و بالجمع بين هذه الايات يتضح أن القرآن الكريم قد نزل بالتأكيد في شهر رمضان و في ليلة القدر، فليلة القدر هي ليلة نزول القرآن و هي في شهر رمضان، لكن أية ليلة من ليالي شهر رمضان هي ليلة القدر تحديداً؟
ليلة القدر في العشر الاواخر:
رُوِيَ عَنِ الْفُضَيْلِ وَ زُرَارَةَ وَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ حُمْرَانَ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا جَعْفَرٍ4 عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ... ﴾ 5 إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ؟
قَالَ: "نَعَمْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَ هِيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَلَمْ يُنْزَلِ الْقُرْآنُ إِلَّا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ 6 قَالَ يُقَدَّرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ خَيْرٍ وَ شَرٍّ" 7 .
وَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ حَسَّانَ أَبِي عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ8 عليه السلام عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ- قَالَ اطْلُبْهَا فِي تِسْعَ عَشْرَةَ- وَ إِحْدَى وَ عِشْرِينَ وَ ثَلَاثٍ وَ عِشْرِينَ 9 .
و عن حَسَّانَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ 8 عليه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟
فَقَالَ: "الْتَمِسْهَا فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَ عِشْرِينَ أَوْ لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَ عِشْرِينَ" 10 .
ما هي الحكمة من عدم التحديد الدقيق لليلة القدر؟
قد تحصل قناعة لدى المتتبع للاحاديث التي تتحدث عن ليلة القدر بأن النبي ( صلى الله عليه و آله ) و الأئمة ( عليهم السلام ) امتنعوا عن التحديد الدقيق لليلة القدر لأسباب، منها ما هو مذكور في أحاديثهم و منها ما لم تذكر لأسباب خافية علينا، و لعل من أهم تلك الاسباب هو إرادة حث الناس على اغتنام الفرصة الذهبية المتوفرة في شهر الرحمة و الغفران واحياء ليالي هذا الشهر بالعبادة و الذكر و الصلاة و الدعاء و التوجه الى الله الغفور الرحيم، فعن عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ 8 عليه السلام فَقَالَ لَهُ أَبُو بَصِيرٍ جُعِلْتُ فِدَاكَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا مَا يُرْجَى 11 ؟
فَقَالَ: "فِي إِحْدَى وَ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَ عِشْرِينَ".
قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَقْوَ عَلَى كِلْتَيْهِمَا؟
فَقَالَ: "مَا أَيْسَرَ لَيْلَتَيْنِ فِيمَا تَطْلُبُ"؟
قُلْتُ: فَرُبَّمَا رَأَيْنَا الْهِلَالَ عِنْدَنَا وَ جَاءَنَا مَنْ يُخْبِرُنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى؟
فَقَالَ: "مَا أَيْسَرَ أَرْبَعَ لَيَالٍ تَطْلُبُهَا فِيهَا"؟
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ- لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَ عِشْرِينَ لَيْلَةُ الْجُهَنِيِ12 ؟
فَقَالَ: "إِنَّ ذَلِكَ لَيُقَالُ".
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ خَالِدٍ رَوَى فِي تِسْعَ عَشْرَةَ يُكْتَبُ وَفْدُ الْحَاجِ؟
فَقَالَ لِي: "يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَفْدُ الْحَاجِّ يُكْتَبُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ الْمَنَايَا 13 وَ الْبَلَايَا وَ الْأَرْزَاقُ وَ مَا يَكُونُ إِلَى مِثْلِهَا فِي قَابِلٍ، فَاطْلُبْهَا فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَ عِشْرِينَ وَ ثَلَاثٍ وَ عِشْرِينَ، وَ صَلِّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِائَةَ رَكْعَةٍ وَ أَحْيِهِمَا إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَى النُّورِ 14 وَ اغْتَسِلْ فِيهِمَا".
قَالَ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَ أَنَا قَائِمٌ؟
قَالَ: "فَصَلِّ وَ أَنْتَ جَالِسٌ".
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ؟
قَالَ: "فَعَلَى فِرَاشِكَ، لَا عَلَيْكَ أَنْ تَكْتَحِلَ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّوْمِ، إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفَتَّحُ فِي رَمَضَانَ، وَ تُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ، وَ تُقْبَلُ أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِينَ، نِعْمَ الشَّهْرُ رَمَضَانُ، كَانَ يُسَمَّى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ص الْمَرْزُوقَ" 15 .
خلاصة القول:
غير أنه بعد التتبع يقوى في النفس أن ليلة القدر هي ليلة ثلاث و عشرين و أن الليالي السابقة هي بمثابة المقدمة و لها دور تحضيري للنفوس لتتهيأ و تستعد للرقي في سلَّم الكمال الروحي مرحلة تلو أخرى فتصل الى ذروة كمالها في ليلة القدر، فقد رُوِيَ عن الامام جعفر بن محمد الصادق ع أنه قال: "التَّقْدِيرُ فِي لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَ الْإِبْرَامُ فِي لَيْلَةِ إِحْدى وَ عِشْرِينَ، وَ الْإمْضَاءُ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَ عِشْرِينَ" 16 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
- .القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 185، الصفحة: 28.
- 2.القران الكريم: سورة القدر (97)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 598.
- 3.القران الكريم: سورة الدخان (44)، الآية: 3 و 4، الصفحة: 496.
- 4. أي الامام محمد بن علي الباقر ، خامس أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) .
- 5.القران الكريم: سورة الدخان (44)، الآية: 3، الصفحة: 496.
- 6.القران الكريم: سورة الدخان (44)، الآية: 4، الصفحة: 496.
- 7. الكافي : 4 / 157 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
- 8.a.b.c. أي الامام جعفر بن محمد الصادق ، سادس أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .
- 9. وسائل الشيعة ( تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ) : 10 / 360 ، للشيخ محمد بن الحسن بن علي ، المعروف بالحُر العاملي ، المولود سنة : 1033 هجرية بجبل عامل لبنان ، و المتوفى سنة : 1104 هجرية بمشهد الإمام الرضا ( عليه السَّلام ) و المدفون بها ، طبعة : مؤسسة آل البيت ، سنة : 1409 هجرية ، قم / إيران .
- 10. الكافي : 4 / 156 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
- 11. يعني من الرحمة و المغفرة و تضاعف الحسنات و قبول الطاعات يعنى بها ليلة القدر.
- 12. ليلةُ الجُهَني ليلةٌ مباركة جاء ذكرها في عدد من الروايات و الأحاديث ، و هي ليلة الثالث و العشرين من شهر رمضان المبارك و التي يُتوقع أن تكون ليلة القدر .
- 13. المنايا جمع المنية و هي الموت. (فى) .
- 14. النور كناية عن انفجار الصبح بالفلق. (فى) .
- 15. الكافي : 4 /156 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
- 16. الكافي : 7 / 619 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الحديث ، الطبعة الاولى ، سنة : 1429 هجرية ، قم / إيران .