فن التعامل مع الآخر (9)
لماذا يلجأ البعض إلى الرياء؟!
حسن الهاشمي
ربما يترائى للإنسان أنه بخيلائه وطاقاته يصل إلى ما يرنو إليه دونما حاجة إلى امداد غيبي في التسديد والارشاد، ولعله بات من الواضح أنه وفي خضم الحياة يتصدى للأمور وكأنه المسيِّر لها على نحو الاستقلال، هذا ما يوهم أنه يتناغم مع مفردات الحياة اليومية بروح وثابة ابداعا وتطورا، وربما يخوض في دائرة العلاقات الانسانية والاجتماعية انطلاقا من نزعة المحبة ريثما يقطف ثمار جهده الجهيد من ثناء أو جائزة أو ترقية، وهكذا فإنه يسير في دوحة طالما أراد لها الديمومة في تجاذبات الحياة المتباينة الطباع والاوضاع والطقوس.
ليس الظهور وطلب الحضوة من صاحبها هو مسيل لعاب من يسعى إليها، ربما تنضم إليها مغفرة السماء امعانا في التوازن المادي والمعنوي، للحصول على أكبر قدر من الامتيازات ظنا منه أنه قد أروى غليل أرضه الجدباء وضميره الواعد، ولكنه لا يقل انتكاسة من صاحبه الأول من الحصول ربما على رذاذ النشوة دون الانتشاء بنسيمها العليل في محطات الأيام العليلة، تلك هي نشوة السعادة التي هي في متناول اليد وعلى المدى البعيد فيما إذا رجح القوة المطلقة على القوة الممكنة، أما إذا ما انكفأ يدور في مخاض الممكنة واتكأ على المطلقة في ظروف عصيبة، فإنه لا يحصل على نشوة السعادة إلا من فتات هنا ورشات هناك، وسرعانما ينهار بنيانه الذي يقف إزاءه، فيتيقن وقتئذ أنه لا يمكن ترميمه، لأنه كان قائما على شفا جرف هار أودى بطموحاته المستقبلية وربما الآنية في مصير جمعي يضعف على لملمته الطالب والمطلوب.
وإزاء هذه المواقف المتباينة في معالجة الأمور التي تعترض حياة الإنسان، فإنه إما أن يتعامل معها طبقا للموازين البشرية من مكافئات أو عقوبات للمرائي المادي، أو أن يتعامل معها طبقا للموازين الشرعية للمؤمن المعتقد بالأمور الغيبية، وتبقى علاقات المجتمع فيما بينهم تتأرجح بين الرياء والاخلاص، فالمرائي المادي قد يبدع في مجالات عمله ولكن ضمن إطار القوانين الوضعية الناظمة لحياة البشر، والمخلص إضافة إلى التزامه بالقوانين الناظمة فإن قوة غيبية تعينه على الثبات والمواصلة والابداع لا سيما في مساحات الفراغ التي قد تظهر أثناء العمل من غياب الرقيب والمحاسبة في الأنظمة المادية، ويبقى الطراز الثالث الذي يحاول التوفيق فيما بين المرائي والمخلص للحصول على ثمرات الحالتين معا، بيد أنه قد يوفق في امتيازات الأول دون الثاني ولا سيما في الأمور العبادية.
فالرياء وهو طلب المنزلة في القلوب بأن يمارس خصال معينة يظهرها للناس من قول أو فعل ولا يكون مراده ثواب الله أصلا كالذي يصلي بين الناس حتى يشاهدوه ولو انفرد لم يصل، أو يشرك بين طلب الثواب من الله ومشاهدة الناس له، فرؤية الناس له مشجعة لما يقوم به من عبادات، ومن علامات المرائي أنه يكسل في الخلوة وينشط عند الناس، وهدف المرائي من فعله حصوله على حاجة دنيوية وليس الهدف الكامل له حصوله على الثواب الإلهي، وعليه فالرياء ينقسم إلى:
1ـ رياء محض وهو الرياء المؤكد والثابت على الانسان بأن يريد بعمله نفع الدنيا ولا يريد به الله عز وجل.
2ـ رياء مخلوط وهو الذي يريد بفعله منافع الدنيا والتقرب الى الله، ومثال ذلك إنه يدخل الى الصلاة بإخلاص لله ولكن بعد ذلك يدخله الرياء بأن يحاول أن يزيد في صلاته لأن هناك ناظرا ينظر إليه.
وحذر الرسول الأعظم من كلا الرياءين بقوله: يا بن مسعود إياك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين وأنت فيما بينك وبين ربك مصر على المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ). (غافر، 19 / البحار ج74 ص111).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل، انظروا الى صدق الحديث وأداء الأمانة". (الوسائل ج19 ص69 ح24173). وكما هو واضح فإن الرياء والعجب يمكن أن يدخل في عبادات مثل الصلاة والصوم ومراسم الحج واسداء المعروف للناس وحتى التهجد والعبادة في الليل، ولكن لا يمكن تصور الرياء في صدق الحديث وأداء الأمانة، فإنهما تدلان بشكل قطعي على التزام المؤمن بتعاليم الدين من أجل النجاة في الدارين.
الفاصل بين الرياء والاخلاص يكمن في النية وما يترتب عليها من قول أو عمل، فإن كانت نيته خالصة لوجه الله تعالى بإمكان الانسان أن تكون أعماله الدنيوية كلها بهذا الاتجاه ويحصل تبعا لذلك على ثواب الدنيا والآخرة، أما إذا كانت نيته خالصة للأشياء أو أنها خليطة بالأمور التي يريدها ووجهه تعالى، فإنه قد يحصل على ثواب الدنيا دون أن يكون له من ثواب الآخرة أي نصيب، وكلنا يقرأ في كتاب الله العزيز: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى). (النجم: 39، 40) حيث إن الله تعالى برحمته ورأفته وتحننه على العباد يعطي في الدنيا من سأله من المؤمنين ومن لم يسأله من الكافرين، كل حسب سعيه وجهده الذي يبذله للحصول على المال والجاه والمنصب والامتيازات الدنيوية المتعددة الأغراض والأحوال، بيد أن عطاء الله تعالى في الآخرة مختص فقط للمؤمنين الذين يقصدون وجهه الكريم في كل عمل وقول يقومون به في الحياة الدنيا، وإن الذي يعمل لدنياه سوف يرى نتيجة عمله، وبما أن الدنيا مزرعة الآخرة فإن الذي يعمل لدنياه وآخرته ـ إذ لا منافاة بينهما إذا ما التزم بأحكام وضوابط الشرع ـ فإنه سوف يرى نتيجة عمله الدنيوي في الدنيا والأخروي في الآخرة، فالمرائي نيته للأشياء فإنه قد يحصل عليها حسب ما يبذله من جهد وسعي ومواصلة وتعب، والمخلص نيته لله تعالى في عباداته ومعاملاته وخدمته للعباد والبلاد، فإن الله تعالى يعطيه في الدنيا بقدر جهده وفي الآخرة بقدر نيته وإخلاصه في العمل.
شتان ما بين الذي يعمل من أجل ارضاء المسؤول والذي يعمل من أجل ارضاء الله تعالى، فالأول يعمل من أجل الحصول على رضا الممكن المحدود فيكون عطاؤه محدودا، والثاني يعمل من أجل الحصول على رضا واجب الوجود المطلق فيكون عطاؤه غير محدود تبعا لما يعمل من أجله، وأين العطاء المحدود من العطاء الغير متناهي؟! علاوة على ذلك فإن الذي يعمل من أجل إرضاء الله تعالى يكون متقنا في عمله أكثر من الذي يعمل من أجل ارضاء المسؤول، فالمادي قد تكون عنده نزعات انسانية بفطرته السليمة إذ يقدم على مساعدة الفقراء وقضاء حوائج المحتاجين، ولكن المؤمن تراه يقدم على هذه الأمور وهي سجية منغرسة في ذاته، لا يطلب من ذلك شكر المسؤول وتقدير الرقيب ومكافئة الرئيس، وإذا ما حصل على هذه الأمور فهي تحصيل حاصل لما عمل من أمور الخير، إذ أن هدفه الأول والأسمى هو تنفيذ الأوامر الإلهية بهذا الصدد والحصول على الرضا والثواب المنهمر الذي وعد الله تعالى به عباده المحسنين.
ربما الانسان يعمل الخير والبر والاحسان والعبادات فيراه إنسان فيسره ذلك، فهذا الأمر لا غبار عليه مادام الانسان نيته خالصة لله تعالى، بينه وبين الله إن ما قام به من أعمال خيرة هي قربة الى الله تعالى ولكنها مصحوبة بتداعيات ايجابية من سرور وغبطة وفخر واعتزاز سواء من الآخرين تجاهه أو منه تجاه نفسه والآخرين، والأمر المرفوض عقلا وشرعا هو القيام بأعمال البر من أجل مدح الناس واعجابهم بعيدا عن رضى الله تعالى أو مشوبا برضا الناس والله تعالى، "جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله، فيُذكر ذلك مني وأحمد عليه، فيسرني ذلك وأعجب به؟ فسكت رسول الله (ص) ولم يقل شيئا، فنزلت الآية الكريمة: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)". (الكهف، 110 / المستدرك ج1 ص130 ح202). ويمكن حصر علامات المرائي تبعا لذلك بالنقاط التالية:
1ـ يكسل إذا كان وحده.
2ـ ينشط إذا كان في الناس.
3ـ يزيد في العمل إذا أثني عليه.
4ـ ينقص من العمل إذا لم يثن عليه.
5ـ يعمل بما أمر الله به ثم يريد به غيره.
6ـ قد يحصل المرائي على منافع دنيوية مادية أو معنوية ولكنه محروم من عطاء الله تعالى في الآخرة.
7ـ يظهر العمل وينهار ازاء الرزايا والمصائب والمحن.
8ـ أعمال البر تارة تؤدى سرا وأخرى جهرا كلاّ لها مواردها، فالجهرية منها لتشجيع الآخرين عليها لا لانتظار المدح والمكافئة كما يحصل عند المرائي.
كان المرحوم آية الله العظمى الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره) يتشرف بزيارة الإمام علي عليه السلام في كل يوم، وكان يقف إزاء الضريح الشريف ويقرأ زيارة الجامعة الكبيرة، التي تعتبر من أفضل الزيارات وأطولها، ذات مضامين عالية ومفاهيم رفيعة.
وفي يوم من الأيام، اقترب إليه أحد مناوئيه وكان جريئا على الشيخ غير آبه بمنزلته الرفيعة في الحوزة العلمية ومكانته في أوساط الناس، فقال له: إلى متى هذا الرياء يا شيخ؟! ابتسم له الشيخ وقال: أنت أيضا قم بهذا الرياء! (قصص وخواطر).
ولعل جواب الشيخ يؤكد إن إظهار المحبة لأهل البيت عليهم السلام بزيارتهم والدعاء في أضرحتهم المباركة قد أوجبه الله تعالى في آية المودة، وهذا التودد والتواصل والتبرك بمشاهدهم ليس من الرياء ولكنه من صميم الدين، ومن هنا فإن العبادات بعضها يستوجب السر وبعضها العلن، ولكن ليس العلن معناه الرياء وإنما حث الآخرين على أعمال البر كالصدقات في المشاريع الخيرية، وعلى كل حال فإن الأعمال بالنيات والإنسان على نفسه بصيرة، فالمؤمن هو الذي ينوي القربة إلى الله تعالى في كل أعماله الدينية والدنيوية ليصل إلى مبتغاه، بخلاف المرائي الذي ديدنه رضا الناس من أجل الحصول على المكاسب الدنيوية أو الخلط بين رضا الله ورضا الناس ـ كما أسلفنا ـ ولكنه في الحالتين ليس له في الآخرة من نصيب، وإنه طالما يستأنس بالماديات أكثر من استئناسه بالمعنويات والغيبيات، ولكي ننتزع هذا الوباء الخطير من حياتنا لابد من استذكار النقاط التالية:
1ـ أن يعرف الضرر من الرياء وما سوف يفوته من الثواب العظيم في الآخرة حين يقال له خذ ثوابك ممن عملت من أجله، لأنه لم يكن يقصد رضوان الله عز وجل فهو مجتهد في الدنيا ولكن عمله يذهب هباء ولو كان مثل ذرات الجبال وقطيرات البحار.
2ـ أن يتيقن إن رضا الناس غاية لا تدرك، وكلما فعل من أجلهم لا يرضون عنه، وليعلم إن الأمور كلها بيد الله فمن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس.
3ـ ليعلم إن الحوائج الدنيوية لا تتحصل بالرياء، ولكنها تتحصل كلها بقضاء الله وقدره، وليقف على هذه الحقيقة: من اهتم بأمور آخرته كفاه الله أمر دنياه.
4ـ لو كان راغبا في مدح الناس له فليرغب في مدح الله والأنبياء والملائكة وهو الأفضل، أما مدح الناس بعد ذلك تحصيل حاصل وزائد خير.
ولعل رياء العبادة يعد من أتعس الرياء، ينقل إن رجلا كان لا يقدر على الاخلاص في العمل وترك الرياء، ففكر في أحد الأيام أن يذهب إلى طرف البلدة للصلاة والعبادة في مسجد مهجور لا يدخله أحد، فشرع في العبادة، وبينما هو في الصلاة، إذ دخل عليه داخل، فأحس به ودخله السرور بأن يراه هذا الرجل وهو على حالة العبادة في الليلة الظلماء، فأخذ في الجد والاجتهاد في عبادته إلى أن جاء النهار، فنظر إلى ذلك الداخل فإذا هو كلب أسود قد دخل المسجد للاحتماء من المطر، فتندم ذلك الرجل على ما دخله من الرياء عند دخول الكلب، وقال: يا نفس إني فررت من أن أشرك بعبادة ربي أحدا من الناس، فوقعت في أن أشركت معه في العبادة كلبا أسودا! فيا أسفاه ويا ويلاه على هذا! (لآلئ الأخبار ج4).
حتى في خضم الأعمال اليومية في المجتمعات المادية فإن المخلص يفضل على المرائي، إذ طالما يقوم بأعماله طبقا للقوانين النافذة وبكل جد واتقان ولو كانت بدوافع مادية بحتة، بخلاف المرائي فإنه سرعانما ينكشف أمره بما يطفح من ثنايا عمله وفلتات لسانه من صفات ذميمة مستوحاة من أهم خصاله وهي أن يبطن خلاف ما يظهر، فالإخلاص إذن مطلوب في المجتمعات الدينية والمادية كما إن الرياء منبوذ فيهما، ولكن الفرق واضح أن الدافع إلى الاخلاص والناكص عن الرياء في المجتمعات الدينية أعظم منه في المجتمعات المادية، إذ أن الاخلاص في الأول فيه من آثار البركة والتسديد والمحبة والثقة بين الناس والحصول على الرضا الإلهي ما لا يوجد في الثاني، نعم قد يتفق معه في المكافأة والشكر والتقدير من المسؤول، جاء في الحديث النبوي أنه قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟! قال: تلك عاجل بشرى المؤمن، والبشرى الأخرى قوله تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم).(الحديد:12، البحار ج69ص294) وكذلك تداعيات الرياء تكون وخيمة أهمها الكره والحقد وفقدان الثقة في الديني والمادي والسخط الإلهي في الديني، فالمرغب للديني والمحذر له أشد منه في المادي، وهو ما يضخ فيه مشوقات الاخلاص ومنفرات الرياء، وهو يدل كذلك على اهتمام الدين بإصلاح المجتمع وتوفير البيئة المناسبة للعيش السعيد بعيدا عن المنغصات التي تواجه المجتمع الواعد.
ولهذا فإن الرياء ليس قبيحا لدى المسلمين وأصحاب الديانات السماوية فحسب، بل إنه قبيح حتى في المجتمعات المادية البحتة، وما تزال تداعياته تضرب بعواصفها العاتية كل ما هو مفيد في المجتمع، وإنها بالضرورة على تضاد من حركة التنمية المستدامة التي تعد إحدى الركائز المهمة في حركة النهضة الصناعية والتكنلوجية في المجتمعات المتحضرة، إذن التحذير الشرعي من مخاطر المرائي على المجتمعات الانسانية لم يكن اعتباطا وإنما يرتكز على ثوابت المجتمع المثالي الذي تربط بين أفراده روابط السعادة، والرياء باتفاق جميع العقلاء ليس من ضمنها.
وعودا على بدء نقول إن الإخلاص والرياء بالنيات لا بالبيان، والنيات قد يحجبها البيان، إلا أن حقيقتها تبقى ناصعة يفوح منها عبق أو نتانة، قد تتشابه النيات والبيان عند عامة الناس فيشق عليهم العيش الرغيد بما تعج به الحياة فتختلط عليهم مخلصهم من مرائيهم، بيد أن الأمر ليس كذلك عند الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، يعلم خائنة الأعين وما توسوس فيه الصدور.
لماذا يلجأ البعض إلى الرياء؟!
حسن الهاشمي
ربما يترائى للإنسان أنه بخيلائه وطاقاته يصل إلى ما يرنو إليه دونما حاجة إلى امداد غيبي في التسديد والارشاد، ولعله بات من الواضح أنه وفي خضم الحياة يتصدى للأمور وكأنه المسيِّر لها على نحو الاستقلال، هذا ما يوهم أنه يتناغم مع مفردات الحياة اليومية بروح وثابة ابداعا وتطورا، وربما يخوض في دائرة العلاقات الانسانية والاجتماعية انطلاقا من نزعة المحبة ريثما يقطف ثمار جهده الجهيد من ثناء أو جائزة أو ترقية، وهكذا فإنه يسير في دوحة طالما أراد لها الديمومة في تجاذبات الحياة المتباينة الطباع والاوضاع والطقوس.
ليس الظهور وطلب الحضوة من صاحبها هو مسيل لعاب من يسعى إليها، ربما تنضم إليها مغفرة السماء امعانا في التوازن المادي والمعنوي، للحصول على أكبر قدر من الامتيازات ظنا منه أنه قد أروى غليل أرضه الجدباء وضميره الواعد، ولكنه لا يقل انتكاسة من صاحبه الأول من الحصول ربما على رذاذ النشوة دون الانتشاء بنسيمها العليل في محطات الأيام العليلة، تلك هي نشوة السعادة التي هي في متناول اليد وعلى المدى البعيد فيما إذا رجح القوة المطلقة على القوة الممكنة، أما إذا ما انكفأ يدور في مخاض الممكنة واتكأ على المطلقة في ظروف عصيبة، فإنه لا يحصل على نشوة السعادة إلا من فتات هنا ورشات هناك، وسرعانما ينهار بنيانه الذي يقف إزاءه، فيتيقن وقتئذ أنه لا يمكن ترميمه، لأنه كان قائما على شفا جرف هار أودى بطموحاته المستقبلية وربما الآنية في مصير جمعي يضعف على لملمته الطالب والمطلوب.
وإزاء هذه المواقف المتباينة في معالجة الأمور التي تعترض حياة الإنسان، فإنه إما أن يتعامل معها طبقا للموازين البشرية من مكافئات أو عقوبات للمرائي المادي، أو أن يتعامل معها طبقا للموازين الشرعية للمؤمن المعتقد بالأمور الغيبية، وتبقى علاقات المجتمع فيما بينهم تتأرجح بين الرياء والاخلاص، فالمرائي المادي قد يبدع في مجالات عمله ولكن ضمن إطار القوانين الوضعية الناظمة لحياة البشر، والمخلص إضافة إلى التزامه بالقوانين الناظمة فإن قوة غيبية تعينه على الثبات والمواصلة والابداع لا سيما في مساحات الفراغ التي قد تظهر أثناء العمل من غياب الرقيب والمحاسبة في الأنظمة المادية، ويبقى الطراز الثالث الذي يحاول التوفيق فيما بين المرائي والمخلص للحصول على ثمرات الحالتين معا، بيد أنه قد يوفق في امتيازات الأول دون الثاني ولا سيما في الأمور العبادية.
فالرياء وهو طلب المنزلة في القلوب بأن يمارس خصال معينة يظهرها للناس من قول أو فعل ولا يكون مراده ثواب الله أصلا كالذي يصلي بين الناس حتى يشاهدوه ولو انفرد لم يصل، أو يشرك بين طلب الثواب من الله ومشاهدة الناس له، فرؤية الناس له مشجعة لما يقوم به من عبادات، ومن علامات المرائي أنه يكسل في الخلوة وينشط عند الناس، وهدف المرائي من فعله حصوله على حاجة دنيوية وليس الهدف الكامل له حصوله على الثواب الإلهي، وعليه فالرياء ينقسم إلى:
1ـ رياء محض وهو الرياء المؤكد والثابت على الانسان بأن يريد بعمله نفع الدنيا ولا يريد به الله عز وجل.
2ـ رياء مخلوط وهو الذي يريد بفعله منافع الدنيا والتقرب الى الله، ومثال ذلك إنه يدخل الى الصلاة بإخلاص لله ولكن بعد ذلك يدخله الرياء بأن يحاول أن يزيد في صلاته لأن هناك ناظرا ينظر إليه.
وحذر الرسول الأعظم من كلا الرياءين بقوله: يا بن مسعود إياك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين وأنت فيما بينك وبين ربك مصر على المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ). (غافر، 19 / البحار ج74 ص111).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل، انظروا الى صدق الحديث وأداء الأمانة". (الوسائل ج19 ص69 ح24173). وكما هو واضح فإن الرياء والعجب يمكن أن يدخل في عبادات مثل الصلاة والصوم ومراسم الحج واسداء المعروف للناس وحتى التهجد والعبادة في الليل، ولكن لا يمكن تصور الرياء في صدق الحديث وأداء الأمانة، فإنهما تدلان بشكل قطعي على التزام المؤمن بتعاليم الدين من أجل النجاة في الدارين.
الفاصل بين الرياء والاخلاص يكمن في النية وما يترتب عليها من قول أو عمل، فإن كانت نيته خالصة لوجه الله تعالى بإمكان الانسان أن تكون أعماله الدنيوية كلها بهذا الاتجاه ويحصل تبعا لذلك على ثواب الدنيا والآخرة، أما إذا كانت نيته خالصة للأشياء أو أنها خليطة بالأمور التي يريدها ووجهه تعالى، فإنه قد يحصل على ثواب الدنيا دون أن يكون له من ثواب الآخرة أي نصيب، وكلنا يقرأ في كتاب الله العزيز: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى). (النجم: 39، 40) حيث إن الله تعالى برحمته ورأفته وتحننه على العباد يعطي في الدنيا من سأله من المؤمنين ومن لم يسأله من الكافرين، كل حسب سعيه وجهده الذي يبذله للحصول على المال والجاه والمنصب والامتيازات الدنيوية المتعددة الأغراض والأحوال، بيد أن عطاء الله تعالى في الآخرة مختص فقط للمؤمنين الذين يقصدون وجهه الكريم في كل عمل وقول يقومون به في الحياة الدنيا، وإن الذي يعمل لدنياه سوف يرى نتيجة عمله، وبما أن الدنيا مزرعة الآخرة فإن الذي يعمل لدنياه وآخرته ـ إذ لا منافاة بينهما إذا ما التزم بأحكام وضوابط الشرع ـ فإنه سوف يرى نتيجة عمله الدنيوي في الدنيا والأخروي في الآخرة، فالمرائي نيته للأشياء فإنه قد يحصل عليها حسب ما يبذله من جهد وسعي ومواصلة وتعب، والمخلص نيته لله تعالى في عباداته ومعاملاته وخدمته للعباد والبلاد، فإن الله تعالى يعطيه في الدنيا بقدر جهده وفي الآخرة بقدر نيته وإخلاصه في العمل.
شتان ما بين الذي يعمل من أجل ارضاء المسؤول والذي يعمل من أجل ارضاء الله تعالى، فالأول يعمل من أجل الحصول على رضا الممكن المحدود فيكون عطاؤه محدودا، والثاني يعمل من أجل الحصول على رضا واجب الوجود المطلق فيكون عطاؤه غير محدود تبعا لما يعمل من أجله، وأين العطاء المحدود من العطاء الغير متناهي؟! علاوة على ذلك فإن الذي يعمل من أجل إرضاء الله تعالى يكون متقنا في عمله أكثر من الذي يعمل من أجل ارضاء المسؤول، فالمادي قد تكون عنده نزعات انسانية بفطرته السليمة إذ يقدم على مساعدة الفقراء وقضاء حوائج المحتاجين، ولكن المؤمن تراه يقدم على هذه الأمور وهي سجية منغرسة في ذاته، لا يطلب من ذلك شكر المسؤول وتقدير الرقيب ومكافئة الرئيس، وإذا ما حصل على هذه الأمور فهي تحصيل حاصل لما عمل من أمور الخير، إذ أن هدفه الأول والأسمى هو تنفيذ الأوامر الإلهية بهذا الصدد والحصول على الرضا والثواب المنهمر الذي وعد الله تعالى به عباده المحسنين.
ربما الانسان يعمل الخير والبر والاحسان والعبادات فيراه إنسان فيسره ذلك، فهذا الأمر لا غبار عليه مادام الانسان نيته خالصة لله تعالى، بينه وبين الله إن ما قام به من أعمال خيرة هي قربة الى الله تعالى ولكنها مصحوبة بتداعيات ايجابية من سرور وغبطة وفخر واعتزاز سواء من الآخرين تجاهه أو منه تجاه نفسه والآخرين، والأمر المرفوض عقلا وشرعا هو القيام بأعمال البر من أجل مدح الناس واعجابهم بعيدا عن رضى الله تعالى أو مشوبا برضا الناس والله تعالى، "جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله، فيُذكر ذلك مني وأحمد عليه، فيسرني ذلك وأعجب به؟ فسكت رسول الله (ص) ولم يقل شيئا، فنزلت الآية الكريمة: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)". (الكهف، 110 / المستدرك ج1 ص130 ح202). ويمكن حصر علامات المرائي تبعا لذلك بالنقاط التالية:
1ـ يكسل إذا كان وحده.
2ـ ينشط إذا كان في الناس.
3ـ يزيد في العمل إذا أثني عليه.
4ـ ينقص من العمل إذا لم يثن عليه.
5ـ يعمل بما أمر الله به ثم يريد به غيره.
6ـ قد يحصل المرائي على منافع دنيوية مادية أو معنوية ولكنه محروم من عطاء الله تعالى في الآخرة.
7ـ يظهر العمل وينهار ازاء الرزايا والمصائب والمحن.
8ـ أعمال البر تارة تؤدى سرا وأخرى جهرا كلاّ لها مواردها، فالجهرية منها لتشجيع الآخرين عليها لا لانتظار المدح والمكافئة كما يحصل عند المرائي.
كان المرحوم آية الله العظمى الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره) يتشرف بزيارة الإمام علي عليه السلام في كل يوم، وكان يقف إزاء الضريح الشريف ويقرأ زيارة الجامعة الكبيرة، التي تعتبر من أفضل الزيارات وأطولها، ذات مضامين عالية ومفاهيم رفيعة.
وفي يوم من الأيام، اقترب إليه أحد مناوئيه وكان جريئا على الشيخ غير آبه بمنزلته الرفيعة في الحوزة العلمية ومكانته في أوساط الناس، فقال له: إلى متى هذا الرياء يا شيخ؟! ابتسم له الشيخ وقال: أنت أيضا قم بهذا الرياء! (قصص وخواطر).
ولعل جواب الشيخ يؤكد إن إظهار المحبة لأهل البيت عليهم السلام بزيارتهم والدعاء في أضرحتهم المباركة قد أوجبه الله تعالى في آية المودة، وهذا التودد والتواصل والتبرك بمشاهدهم ليس من الرياء ولكنه من صميم الدين، ومن هنا فإن العبادات بعضها يستوجب السر وبعضها العلن، ولكن ليس العلن معناه الرياء وإنما حث الآخرين على أعمال البر كالصدقات في المشاريع الخيرية، وعلى كل حال فإن الأعمال بالنيات والإنسان على نفسه بصيرة، فالمؤمن هو الذي ينوي القربة إلى الله تعالى في كل أعماله الدينية والدنيوية ليصل إلى مبتغاه، بخلاف المرائي الذي ديدنه رضا الناس من أجل الحصول على المكاسب الدنيوية أو الخلط بين رضا الله ورضا الناس ـ كما أسلفنا ـ ولكنه في الحالتين ليس له في الآخرة من نصيب، وإنه طالما يستأنس بالماديات أكثر من استئناسه بالمعنويات والغيبيات، ولكي ننتزع هذا الوباء الخطير من حياتنا لابد من استذكار النقاط التالية:
1ـ أن يعرف الضرر من الرياء وما سوف يفوته من الثواب العظيم في الآخرة حين يقال له خذ ثوابك ممن عملت من أجله، لأنه لم يكن يقصد رضوان الله عز وجل فهو مجتهد في الدنيا ولكن عمله يذهب هباء ولو كان مثل ذرات الجبال وقطيرات البحار.
2ـ أن يتيقن إن رضا الناس غاية لا تدرك، وكلما فعل من أجلهم لا يرضون عنه، وليعلم إن الأمور كلها بيد الله فمن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس.
3ـ ليعلم إن الحوائج الدنيوية لا تتحصل بالرياء، ولكنها تتحصل كلها بقضاء الله وقدره، وليقف على هذه الحقيقة: من اهتم بأمور آخرته كفاه الله أمر دنياه.
4ـ لو كان راغبا في مدح الناس له فليرغب في مدح الله والأنبياء والملائكة وهو الأفضل، أما مدح الناس بعد ذلك تحصيل حاصل وزائد خير.
ولعل رياء العبادة يعد من أتعس الرياء، ينقل إن رجلا كان لا يقدر على الاخلاص في العمل وترك الرياء، ففكر في أحد الأيام أن يذهب إلى طرف البلدة للصلاة والعبادة في مسجد مهجور لا يدخله أحد، فشرع في العبادة، وبينما هو في الصلاة، إذ دخل عليه داخل، فأحس به ودخله السرور بأن يراه هذا الرجل وهو على حالة العبادة في الليلة الظلماء، فأخذ في الجد والاجتهاد في عبادته إلى أن جاء النهار، فنظر إلى ذلك الداخل فإذا هو كلب أسود قد دخل المسجد للاحتماء من المطر، فتندم ذلك الرجل على ما دخله من الرياء عند دخول الكلب، وقال: يا نفس إني فررت من أن أشرك بعبادة ربي أحدا من الناس، فوقعت في أن أشركت معه في العبادة كلبا أسودا! فيا أسفاه ويا ويلاه على هذا! (لآلئ الأخبار ج4).
حتى في خضم الأعمال اليومية في المجتمعات المادية فإن المخلص يفضل على المرائي، إذ طالما يقوم بأعماله طبقا للقوانين النافذة وبكل جد واتقان ولو كانت بدوافع مادية بحتة، بخلاف المرائي فإنه سرعانما ينكشف أمره بما يطفح من ثنايا عمله وفلتات لسانه من صفات ذميمة مستوحاة من أهم خصاله وهي أن يبطن خلاف ما يظهر، فالإخلاص إذن مطلوب في المجتمعات الدينية والمادية كما إن الرياء منبوذ فيهما، ولكن الفرق واضح أن الدافع إلى الاخلاص والناكص عن الرياء في المجتمعات الدينية أعظم منه في المجتمعات المادية، إذ أن الاخلاص في الأول فيه من آثار البركة والتسديد والمحبة والثقة بين الناس والحصول على الرضا الإلهي ما لا يوجد في الثاني، نعم قد يتفق معه في المكافأة والشكر والتقدير من المسؤول، جاء في الحديث النبوي أنه قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟! قال: تلك عاجل بشرى المؤمن، والبشرى الأخرى قوله تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم).(الحديد:12، البحار ج69ص294) وكذلك تداعيات الرياء تكون وخيمة أهمها الكره والحقد وفقدان الثقة في الديني والمادي والسخط الإلهي في الديني، فالمرغب للديني والمحذر له أشد منه في المادي، وهو ما يضخ فيه مشوقات الاخلاص ومنفرات الرياء، وهو يدل كذلك على اهتمام الدين بإصلاح المجتمع وتوفير البيئة المناسبة للعيش السعيد بعيدا عن المنغصات التي تواجه المجتمع الواعد.
ولهذا فإن الرياء ليس قبيحا لدى المسلمين وأصحاب الديانات السماوية فحسب، بل إنه قبيح حتى في المجتمعات المادية البحتة، وما تزال تداعياته تضرب بعواصفها العاتية كل ما هو مفيد في المجتمع، وإنها بالضرورة على تضاد من حركة التنمية المستدامة التي تعد إحدى الركائز المهمة في حركة النهضة الصناعية والتكنلوجية في المجتمعات المتحضرة، إذن التحذير الشرعي من مخاطر المرائي على المجتمعات الانسانية لم يكن اعتباطا وإنما يرتكز على ثوابت المجتمع المثالي الذي تربط بين أفراده روابط السعادة، والرياء باتفاق جميع العقلاء ليس من ضمنها.
وعودا على بدء نقول إن الإخلاص والرياء بالنيات لا بالبيان، والنيات قد يحجبها البيان، إلا أن حقيقتها تبقى ناصعة يفوح منها عبق أو نتانة، قد تتشابه النيات والبيان عند عامة الناس فيشق عليهم العيش الرغيد بما تعج به الحياة فتختلط عليهم مخلصهم من مرائيهم، بيد أن الأمر ليس كذلك عند الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، يعلم خائنة الأعين وما توسوس فيه الصدور.