المسألة:
ما هو المراد من الجبلَّة في قوله تعالى: ﴿واتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ والْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ﴾(1)؟
الجواب:
المراد في الجبلَّة في الآية الشريفة هي الخَلْق والخليقة أو قُلْ المخلوقين كما هو معنى الكلمة في قول الشاعر:
والموتُ أعظمُ حادثٍ ** فيما يمرُّ على الجبلَّة(2)
وهو ذاتُه معنى: ﴿جِبِلاًّ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ِأَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾(3) أي ولقد أضلَّ وأغوى الشيطانُ منكم خَلْقاً كثيراً.
وعليه فالمرادُ من قوله تعالى: ﴿واتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ والْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ﴾ هو أنَّه اتقوا اللهَ الذي خلقكم وخلقَ الخلْقَ الذين سبقوكم، فالجبلَّة في الآية معطوفة على ضمير الجمع المخاطَب أي الكاف والميم في خلقكم، فضميرُ الجمع المخاطَب في موضع المفعول به للفعل خلَقَ، وأمَّا الجبلَّة فهو معطوف عليه منصوب.
تقريبٌ آخر لمفاد الآية الشريفة:
ويُحتمل أنَّ المراد من الجِبلَّة في الآية هي الخليقة والطبيعة التي طُبع وفُطِر عليها الشيء، يُقال جُبِل الإِنسانُ على هذا الأَمر أَي طُبِع عليه، وجِبْلةُ الشيء طبيعتُه وأَصلُه وما بُنِيَ عليه، ومن ذلك ما ورد في الدعاء المأثور: أَسأَلك من خيرها وخير ما جُبِلَت"(4) عليه أَي خُلِقَت عليه وطُبِعَت عليه.
ومِن ذلك أيضاً ما رُويَ عن الرسول الكريم (صلَّى الله عليه وآله): "جُبلت القلوبُ على حبِّ مَن أحسنَ إليها، وبُغْضِ من أساءَ إليها"(5) أي طُبعت وفُطرت القلوبُ على حبِّ من أحسن إليها. فحبُّ المُحسِن صفةٌ مغروزةٌ ومركوزة في القلب أي خُلق القلبُ حين خُلق مطبوعٌ عليها.
وعليه فبناءً على أنَّ المراد من الجبلَّة في الآية هو الطبيعة والفطرة فإنَّ مقتضى ذلك هو أنَّ الجبلَّة منصوبة بنزع الخافض أي أنَّ ثمة محذوفاً هو المعطوف على المفعول به، والجبلَّة مضافٌ لهذا المحذوف، فتقديرُ الآية بناءً على ذلك هو: واتقوا الذي خلقَكم وذوي الجبلَّةِ الأوَّلين أي وخلَق ذوي الجبلَّةِ الأولين.
وهو ذاته التفسير الأول للآية الشريفة، نعم بناء على هذا التقريب لمعنى الآية يكون في الآية إشعار بأنَّ المخاطَبين -وهم قوم شعيب(4)- انحرفوا بامتهانهم للبخس في الميزان وسلوك طريق الفساد في الأرض انحرفوا بذلك عن مقتضيات الفطرة التي فُطِر عليها الإنسان والتي تقتضي استبشاع الظلم والفساد، فكأنَّ النبيَّ شعيب (ع) حين خاطبهم بقوله: ﴿واتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ والْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ﴾ أراد القول بأنَّ الذي أنتم عليه مناقضٌ للفطرة التي فطَر اللهُ تعالى عليها عباده. فهو نوعُ توبيخٍ وتنبيه على ما تقتضيه الفطرة التي فطر اللهُ عليها عباده منذُ خلقكم وأنتم من سلالة هؤلاء المفطورين على تقبيح الظلم وتحسين العدل والانصاف فاتقوا الله وعودوا إلى ما هو مغروزٌ في جبلَّتكم التي خُلقتم مطبوعين عليها.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
------------------------------------------
1- سورة الشعراء / 184.
2- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج7 / ص349، غريب القرآن -ابن قتيبة الدينوري- ج2 / ص320.
3- سورة يس / 62.
5- لسان العرب -ابن منظور- ج11 / ص98، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص185.
6- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج4 / ص381.
4- ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ / وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ / وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ / وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ﴾ سورة الشعراء / 181-184.