استهلال:
سؤال يثمر مشاعر تحثنا على معرفة معابر الزهو في أسفار تأريخ تستمطر العز في منابع فخر، يسألني: ما هي دومة الجندل؟ سؤال يأخذني الى سواحل السيرة النبوية للدكتور علي الصلابي والى عوالم الدومة للدكتور عبد الرحيم شريف، والى منهل العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي.
***
ايضاح:
ذكر الحموي في معجم البلدان، أن الدومة حصن بناه دوماء بن اسماعيل الجندل، وجاء في لسان العرب لابن منظور الجندل الحجارة، وكان ليضرب المثل بمناعة حصن دومة الجندل.
***
موقع الدومة:
مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وتبعد عن المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة.. وهي بقرب تبوك، وأما موقع دومة الجندل حاليا جنوب غرب مدينة سكاكا في السعودية، وهي تبعد عن الرياض حوالي 900 كم وعن العاصمة المقدسة مكة المكرمة حوالي 1220 كم.
***
أسباب الغزوة:
وصلت الأنباء إلى المدينة النبوية المشرَّفة بتجمع بعض قبائل المشركين عند دومة الجندل للإغارة على القوافل التي تمر بهم، والتعرض لمن في القافلة بالأذى والظلم، ثم الاعتداء على المدينة لاحقًا.. ومن الملاحَظ أن دومة الجندل تعَدُّ بلادًا نائية بالنسبة للمدينة النبوية؛ لأنها تقع على الحدود بين الحجاز والشام، وفي منتصف الطريق بين البحر الأحمر والخليج العربي، وهي على مسيرة ست عشرة ليلة من المدينة.. فحتى لو أن المسلمين أغفلوا أمرها وسكتوا على وجود هذا التجمع فيها، ما لامهم أحد ولا ضرهم هذا التجمع في شيء على المدى القريب.
***
دوافع الغزوة:
أوجبت النظرة السياسية البعيدة والعقلية العسكرية الفذة على المسلمين أن يتحركوا لفضِّ هذا التجمع لعدة دوافع منها:
1- خشية استفحال هذا التجمع ليصبح خطرا يؤدي إلى إضعاف قوة المسلمين وإسقاط هيبتهم، وهو الأمر الذي يجاهدون من أجل استرداده.
2- وجود مثل هذا التجمع في الطريق إلى الشام قد يؤثر على الوضع الاقتصادي للمسلمين، فلو أن المسلمين سكتوا على هذا التجمع لتعرضت قوافلهم أو قوافل القبائل التي تحتمي بهم للسلب والنهب، مما يضعف الاقتصاد، ويؤدي إلى حالة من التذمر والاضطراب.
3- فرض نفوذ المسلمين على هذه المنطقة كلها، وإشعار سكانها بأنهم في حمايتهم وتحت مسئوليتهم.. لذلك فهم يؤمِّنون لهم الطرق، ويحمون لهم تجارتهم، ويحاربون كل إرهاب من شأنه أن يزعجهم أو يعرضهم للخطر.
4- حرمان قريش من أي حليف تجاري قد يمدها بما تحتاج من التجارة، وصرف أنظارهم عن هذه المنطقة التجارية المهمة؛ لأن ظهور الدولة الإسلامية بهذه القوة يؤثر على نفسية قريش العدو الأول للدولة الإسلامية، ويجعلها تخشى المسلمين على تجارتها.
5- الحرص على إزالة الرهبة النفسية عند العرب الذين ما كانوا يحلمون بمواجهة الروم، والتأكيد عمليًّا للمسلمين بأن رسالتهم عالمية وليست مقصورة على العرب.
***
دلالات الغزوة:
1- إن وصول جيوش المسلمين إلى دومة الجندل، وهي على هذه المسافة البعيدة من المدينة وموادعة عيينة بن حصن للمسلمين، واستئذانه في أن يرعى بإبله وغنمه في أرض بينها وبين المدينة ما يقرب من خمسة وستين كيلو مترًا، لدليل قاطع على ما وصلت إليه قوة المسلمين، وعلى شعورهم بالمسئولية الكاملة تجاه تأمين الحياة للناس في هذه المنطقة، وأن هذه المناطق النائية كانت ضمن الدولة الإسلامية، وإن الدولة أصبحت منيعة، ليس في مقدور أحد أن يعتدي عليها، ولو كان ذلك في استطاعة أحد لكان هو عيينة بن حصن الذي كان يغضب لغضبه عشرة آلاف مقاتِل.
2- كانت بمنزلة إعلان عن دعوة الإسلام بين سكان البوادي الشمالية وأطراف الشام الجنوبية.
3- كان في سير الجيش الإسلامي هذه المسافات الطويلة تدريب له على السير إلى الجهات النائية، وفي أرض لم يعهدها من قبل؛ ولذلك تعتبر هذه الغزوة فاتحة سير الجيوش الإسلامية للفتوحات العظيمة في بلاد آسيا وإفريقيا فيما بعد.
***
حصيلة الغزوة:
حرب استطلاعية وإعلامية، وخطة دفاع استباقية، وهي عبارة عن دورة تربوية قادها رسول الله(ص) ليخلق من حماة بدر قادة في فن القيادة السياسية المؤمنة، وكانت الحومة جواباً لكل بحجم تاريخ.