إنَّ القرآن المجيد بسوَره وآياته وصِيغ جُملِه كان متواتراً منذُ عصر النبيِّ (ص) بين جيل الصحابة، فكانت سِورُه وآياتُه محفوظةً لدى كثيرٍ منهم، وكان النبيُّ (ص) يأمرُ كتَّابه بكتابة ما ينزلُ ثم يتمُّ استنساخه وتداوله كتابةً وحفظاً عن ظهر قلب لدى الكثير.
وكان النبيُّ (ص) بنفسه يُقرِءُ عدداً من المتميِّزين من الصحابة ويستمعُ لقراءتهم، وكانت له معهم جلساتٌ خاصة، وكانت تُعقَد الحلقاتُ في المسجد النبويِّ أيَّام رسول الله (ص) يُقِرءُ فيها القرَّاء مَن يريد الإجادة والحفظ.
وكان من أبرز هؤلاء القرَّاء الإمامُ عليُّ بن أبي طالب، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وحذيفة بن اليمان، والمقداد بن الأسود، وزيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو زيد الأنصاري، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حُذيفة وغيرهم كثير.
فما من سورةٍ أو آيةٍ تنزلُ إلا وقد تواترَ نقلُها بين الصحابة في عصر الرسول (ص) ثم توسَّع الحفظُ والكتابة بين الجيل الأول بعد الصحابة وهو جيلُ التابعين وأخذ في التوسُّع في جيل تابعي التابعين، وهكذا أخذت تتوسَّع دائرةُ الحفَّاظ والكتابة جيلاً بعد جيل، فدائرةُ الحفَّاظ وعددُ المصاحف في الجيل اللاحق أوسعُ منها بكثيرٍ في الجيل الذي سبقَه وهكذا إلى يومنا هذا، فلم يتَّفق لكتابٍ غير القرآن أنْ حظيَ بهذه السعةِ في الحفظ والتناقل في كلِّ جيل من الأجيال المتعاقبة، فتواترُ القرآن أُفقيٌّ وعمودي، ففي كلِّ جيل يكون حفَّاظه وحملتُه ومصاحفه يفوقُ عددهم حدَّ التواتر بكثير فيأتي الجيل اللاحق فيأخذُ الكثيرُ منهم عن الكثيرِ ممَّن سبقَهم.
تواتر الحديث والفرق بينه وبين تواتر القرآن:
أمَّا كتبُ الحديث فالمتواترُ منها معناه تواترُ انتسابِه لمؤلِّفِه، وأمَّا مضامينها فقد تلقَّاها مؤلِّفُها من طُرقِ الآحاد، وقد يتَّفق أنْ تكون له طرقٌ مستفيضةٌ لبعض الأحاديث، وقد يتَّفق أنْ تكون له طُرقٌ تبلغُ حدَّ التواتر لبعض الأحاديث وينقطع التواتر عنده إلا أنْ يكونَ لغيره طرقٌ لذات الحديث أو لمضامينه، على أنَّ دائرة التواتر غالباً ما تكونُ منحصرةً بالرواة والمحدِّثين.
وببيانٍ آخر:
التواترُ لبعض كتب الحديث مثل كتاب الكافي معناه تواتر انتساب الكتاب لمؤلِّفه وذلك لاشتهار انتساب الكتاب إليه شهرةً عظيمة ولوجود طرقٍ كثيرة إليه لدى الرواة المعاصرين والمتعاقبين إلا أنَّ الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب لا تكون متواترة لأنَّ الطرق إليها تنتهي إلى مؤلِّفها وهو واحد، نعم قد يتَّفق لبعض أحاديث الكتاب طرقٌ أخرى لمؤلفين آخرين قد تصلُ إلى حدِّ الاستفاضة، وقد تتجاوز هذه الطرق حدَّ الاستفاضة وتصلُ إلى حدِّ التواتر فيكون ذلك الحديث متواتراً لتعدُّد طرقه في جميع الطبقات بما فيها طبقة المؤلفين، فتواترُ كتب الحديث لا يُساوق تواتر الأحاديث التي اشتملت عليها تلك الكتب، نعم قد يتَّفق لبعض الأحاديث التي اشتملت عليها كتبُ الأحاديث أن تكون متواترة كما لو كانت مذكورة في عدةِ كتب تبلغ حدَّ التواتر. وغالباً ما يكون تواتر الأحاديث معنويَّاً أو اجماليَّاً. وذلك بأنْ تتوافق أحاديث كثيرة من كتبٍ مختلفة على معنى واحد فيكون هذا المعنى ثابتاً بالتواتر وهو علة تامة لحصول العلم بهذا المعنى الذي تضمنته هذه الأحاديث وإنْ كان كلُّ واحدٍ من هذه الأحاديث الذي تشكل منه التواتر يُعدُّ من أخبار الآحاد.
كل آياته متواترة
وأمَّا القرآن المجيد فكلُّ سورةٍ وكلُّ آيةٍ من آياتِه فهي متواترة، ودائرةُ تواترها واسعةٌ لا تختصُّ بالرواة، فالقرآنُ يحفظُه مضافاً إلى الرواة الكثيرُ من المعلِّمين والكثيرُ من الرجال والنساء والأطفال ممَّن لا شأن له بعلوم الدين، فكان لكلِّ معلِّم في المساجد والكتاتيب عشرات بل مئات الطلبة يحفظونَ عنه ويُدوِّنون ما يقرأون، فكانت سِورُ القرآن وآياتِه متواترةً في عصر النبوَّة حتى وردَ أنَّ من قُتل من الحفاظ في حادثة بئر معونة أيام النبي (ص) كانوا سبعين أو أربعين في بعض النقولات ومن قتل في معركة اليمامة التي وقعت في سنة الحادي عشر من الهجرة ضد مسيلمة يبلغون أربعمائة والمقل ذكر أنَّهم سبعون حافظاً.
وتوسَّع تواترُه بين جيل الصحابة والذين انتشروا في البلاد المفتوحة كالبصرة والكوفة والشام ومصر واليمن مضافاً إلى الحجاز مكة والمدينة، وكانوا يعقدون حلقات التحفيظ والقراءة ويأخذُ عنهم الكثير من طلبة العلم والأطفال ثم توسَّعت دائرةُ التحفيظ والقراءة لكلِّ سورةٍ سورة في عصر التابعين ثم عصر تابعي التابعين وهكذا.
نعم قد لا يحفظُ جميعُ هؤلاء جميعَ سوَرِ القرآن وآياته ولكنَّ كلَّ سورةٍ وكلَّ آيةٍ لها من الحفَظة والمدونين ما يبلغُ حدَّ التواتر ويفوقُ بمراتب بل إنَّ عدد مَن يحفظُ القرآن كاملاً في كلِّ جيلٍ عن ظهر قلب يفوقُ تعدادُهم حدَّ التواتر.
وخلاصة القول:
إنَّ تواتر القرآن في عصر النبيِّ الكريم (ص) يتمُّ بواسطة إخبار النبيِّ (ص) للمسلمين أنَّه قد نزلت عليه سورةٌ أو آية أو عددٌ من الآيات ويقوم (ص) بقراءتها في الصلاة وفي خُطَبِه ومجلسه ويأمر كتَّاب الوحي بتدوينها ثم يأمرُهم أنْ يقرأوا عليه ما كتبوه ليقوم بتقويمه ويجعل نسخةً من ذلك في المسجد عند منبره الشريف ويأذن باستنساخ الناس له وتداوله بينهم ثم يأمر بحفظه والإكثار من تلاوته في المحافل والخلوات وفي النوافل ويأمر بترديده في الأسفار في الحضر، وكانت السور تُستنسخ للنساء، وكان النبيُّ (ص) يدخلُ المسجد فيراه يعجُّ بالتالين للقرآن فربما أمرَ بخفض الصوت وربما طلب من بعضهم أن يتلوَ عليه ما حفظه أو أتقنه، وكان يأمرُ جماعةً من المتقنين للتصدي لتعليم الناس وتحفيظهم، فلم تكن هناك سورةٌ من سوَر القرآن إلا ويحفظها عددٌ يفوقُ حدَّ التواتر، ولم يرحل الرسول (ص) إلى ربه إلا وجميع سِور القرآن وآياته محفوظةٌ في صدور المئات من المسلمين مضافاً إلى كونِه مدوَّناً عند الكثير من الصحابة، فهم وإن اختلفوا في ترتيب سوره لكنَّه كان مجموعاً عندهم.
ومن المحفوظ والمدوَّن لدى الصحابة ومن مصحف الإمام الذي كُتب منه خمس نسخ أو سبع أيام عثمان في محضر عامة الصحابة – ومنهم كتاب الوحي كعليِّ بن أبي طالب، وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت -وإقرارهم استنسخ جيلُ التابعين القرآن، وأخذ استنساخه وحفظه في التوسُّع في عامة الحواضر الإسلاميَّة كالعراق واليمن والشام ومصر ومكة والطائف مضافاً إلى المدينة وهكذا أخذ في التوسُّع على نطاقٍ أوسع جيلاً بعد جيل يتعبُّد الناس بحفظه وتدوينه وتلاوته وكان القرآن هو محور حلقات التعليم في المساجد والكتاتيب.
من حوزة الهدى للدراسات الاسلامية