تويت
حدثتنا صُحُفُ الأيام ، عن سيادة عقلية الإقصاء والتهميش ، لكل فكرٍ مختلفٍ مع فكر (السلطة) ومرتكزاتها السياسية، المحوَّرة لاحقاً الى (عقائدية) ، مع التنظير والتثقيف عبر ادواتٍ إعلامية وتعبوية لا تعرف حدوداً او تردد ..فكان (شهودُ الزور) من (وعاظ السلاطين) و(علماء السوء) وأصحاب منابر الفتنة وأقلام الكذب ،قد إفتعلوا أراجيف وفرياتٍ ساذجة ، أقربُ ما تكون الى حِكَايَاتِ العَجَائِزِ ، منه الى الواقع الموضوعي!!!
وهذه العهود أصبحت من غور الزمن البعيد، وإستبشرنا بتطور الزمن وتقدم الفكر وحداثوية الخطاب، تأثراً بثورة التكنولوجيا وتقارب الشعوب .. لَكِنْ يَبْدُو أَنَّ البَعْضَ مَا زَالَ يَعِيْشُ أَجْوَاءَ ذَلِكَ الزَّمَانِ المُظْلِمِ.. يردد كلاماً على عواهنه، دون ان يُكلف نفسه الضغط على (زِر) البحث في عالم الإنترنت، ليستكشف الحقيقة.. بل تراه كُهمْلِ النِعَم يردد أكذوبة الأمس الحاضر : أن الذين قتلوا الحسين عليه السلام هم شيعته!!!
فهل الحكاية كما حَكَوْها..؟
هي شبهة روّج لها كُتِّاب السلطة، عملاً بمقتضيات المقولةُ التي صارت قاعدةً في كتابة التاريخ للأسف، وهي "التاريخ لا يكتبه إلا المنتصرون"، والتي تُنسب للمفكر الألماني "والتر بنيامين"، عام 1940م .. وكي تكون الملامح واضحة ، نطرح التساؤل التالي :
مَن هم الذين كاتبوا الإمام الحسين من اهل الكوفة؟
لِنَدَعْ أرباب السِيَر وموسوعات التاريخ ،الخاضعة للسلطة المستبدة، هم من يجيبوا عن هذا التساؤل..
المؤرخ الطبري في تاريخه ج3 ص 319 ، وابن الاثير في الكامل في التاريخ ج 3 ص 419 ، والمؤرخ ابن كثير في البداية والنهاية ج 8 ص180وغيرهم ينقلون هذا النص الفاضح لأدعياء (الصُحبة) والمتاجرين بشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه واله.:
((وكتب شبث بن ربعى، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم ، وعزرة بن قيس، وعمرو بن الحجاج الزبيدى ،ومحمد بن عمير التميمي ، أما بعد فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند والسلام عليك))
وهذه المصادر المهمة تنقل احتجاج الامام الحسين (عليه السلام) في تجمع حاشد ،وحاشد جدا، أقل ما يمكن وصفه بـ(مؤتمر صحفي عالمي) حدد من خلاله ، سبط الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) ،أبرز الشخصيات الضالعة بمراسلته (صلوات الله عليه) وإعلان التأييد له في حركته ، والتي أصبحت من أشد المتلذذين بقتاله ،حيث خاطبهم قائلاً:
"يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار وأخضر الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجند؟!"..
و من خلال إستعراض نصوص (الحُكم) عند علماء الرجال والحديث ،بخصوص هذه الشخصيات، عملاً ب(قاعدة الألزام) ، او مقولة (من فمك أدينك)..ستكون (النصوص) صادمة لكثير من المسلمين..
فهذا الشيخ الذهبي في (سير اعلام النبلاء) يقول " شَبَثُ بنُ رِبْعِيٍّ التَّمِيْمِيُّ اليَرْبُوْعِيُّ، أَحَدُ الأَشْرَافِ والفرسان، وكان مِمَّنْ خَرَجَ عَلَى عَلِيٍّ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ التَّحْكِيْمَ، ثُمَّ تَابَ وَأَنَابَ. وَحَدَّثَ عَنْ: عَلِيٍّ، وَحُذَيْفَةَ. وَعَنْهُ: مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ, وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ لَهُ حَدِيْثٌ وَاحِدٌ فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ")..
وهذا ابن حجر العسقلاني في(الاصابة في تمييز الصحابة) يذكر (حجار بن ابجر) " كان ابوه نصرانيا ومات زمن علي ولم يسلم وكان حجار شريفًا!!!"..و يترجم لـ(عمرو بن الحجاج الزبيدي) فيقول " كان مسلمًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله مقام محمود حين أرادت زبيد الردة..!!!"..
ولم يَفُت (إبن حجرٍ) في تقريب التهذيب يذكر ابن الأشعث الكندي الكوفي مقبول من السادسة في جملة الصحابة!!!
و ابن حجر العسقلاني في (الاصابة في تمييز الصحابة) ذكر (عزرة بن قيس ) ولم يتعرض له بالتجريح !!!
ويُطل علينا المؤرخ الطبري، في (تاريخه) ليُترجم لـ(محمد بن عُمير) فيقول " محمد بن عمير بن عطارد التميمي، ممّن سعى في دم عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه عند زياد، حتى لامَهُ على ذلك عمرو بن حريث وزياد، وكان ممّن شهد على حِجر بن عدي رضي الله عنه ، وكان على مضر في مُحاربة المختار، وكان مع الحارث بن أبي ربيعة والي الكوفة لابن الزبير في قتال الخوارج، وكان ممّن كاتبه عبد الملك بن مروان من أهل الكوفة، ثمّ ولاّه همدان.."
أما أبو السعادات اليافعي في (مرآة الجنان) فيترجم لـ(عمرو بن الحجاج الزبيدي) فيصفه بأمر مخزٍ، بـ(أنه إبن زنـا، وكان يتاجـر بأمه وزوجتـه عند الراغبين بهـن!!!)
وأبو حنيفة الدينوري في (الأخبار الطِوال) يصفه بأنه من (من رؤساء الحزب الاموي في الكوفة)، ونَبَّه المؤرخ الطبري ، الى أنه (ممن شهد على الصحابي الجليل حجر بن عدي عند معاوية وتسبب في قـتـله، وهـو الذي غدر بهاني بن عروة عندما سجنه إبن زياد)، وكان مع الخوارج ضد أمير المؤمنين (عليه صلوات الله)..
جَرْبَزةٌ عن النص
لعل بعض المشاكل الذهنية والنفسية المتولدة، من الفهم الخاطئ لسلوك سادة اهل البيت (عليهم السلام) وعظمائهم، ناشئ من عدم التخصص في قراءة الحدث، او عدم الإستعانة بخبراء متمكنين من الإحاطة بحيثيات النص وملابساته وتداعياته ومقدماته ونتائجه ، وهذا الأمر ينسحب الى سلوكيات مشابهة لكثير من أعلام مدرسة التشيع العظيم ..
إن مثل هذا (الوَهَن) الذهني قد هيأ أرضية مناسبة لإعادة صياغة الحدث البعيد، والتمكن من التزوير والتلاعب والإضافة والحذف في كل جزئياته التفصيلية، وبالتالي تَقبُل ما يُنتَجُ حديثاً!!
وهذا ليس امراً عارضاً او طبيعياً أو جاء بمحض الصدفة، إذ أن وراء الأكمة ما وراءها!!! فالخُطةُ رُسِمَت معالمها وصيغَتْ ملامِحُهَا بإحكام، وصولاً الى نسف (قداسة) البيت النبوي الشريف، الذي طهره الله تعالى ونَزَهَهُ عن كل ما يُشين..
فحيثما وُجِدَتْ منقبةٌ عظيمةُ لـ(أمير المؤمنين) صلوات الله عليه، إمتدت اليها يدُ التحريف والتلاعب، من خلال إضافات وحذوفات وإستبدال ألفاظ، في طبعة جديدة تختلف عن سابقتها في هذا المورد.. وهذه الخطة من الخُبثِ والمَكرِ بِمَكان، تؤسسُ لإعتماد جيلٍ جديدٍ من نسخ الكتاب المعني بدائرة التلاعب والتحريف، ومع تقادم الأيام وتكرار الطبعات الحَوْلِية بناءً على تلك الطبعة المشبوهة، سيكون من الصعب العثور على النسخة الاصلية في فضاء البحث العلمي..
ولنعطي أمثلةً على هذه المحاولات الشيطانية الماكرة..
المثال الأول : روى إبن أبي الحديد المعتزلي، في شرحه لـ(نهج البلاغة) ج18 في الصفحة الأخيرة ،كلام مولانا أمير المؤمنين(صلوات الله عليه) في يوم السقيفة " ..واعجباً !! أتكون الخلافة بالصحابة ، ولا تكون بالصحابة والقرابة؟"
بينما ورد الكلام حسب نسخة (نهج البلاغة) الطبعة المصرية ، بتحقيق صبحي الصالح ص502 هكذا " ..واعجباً !! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟؟".
المثال الثاني: ذكر (عبد الرحمن البرقوقي) في شرحه لـ(ديوان المتنبي) ج2 ص546 بيتي (ابو الطيب المتنبي) حينما عُوتِبَ على تركه مدح الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) والتي يقول فيهما :
وتَركتُ مدحي للوَصيّ تعمُّداً إذ كانَ نوراً مستطيلاً شامِلا
وإذا استقَلَّ الشيءُ قام بذاتهِ وكذا ضياءُ الشمسِ يذهبُ باطِلا
عاد بعد فترة ليُعيد طبع الديوان وقد حُذف منه هذان البيتان!!! علماً أن هذين البيتان، ذكرهما (إبن نباتة المصري (ت768هـ) في كتابه (سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون ) .
المثال الثالث : ذكر الكاتب المصري المعروف (محمد حسنين هيكل) في كتابه (حياةُ محمد) الطبعة الأولى 1354هـ ص104(حديث الدار) وذكر النص الصريح الآتي:" فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي، ووصيي وخليفتي فيكم؟"
قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقال علي: "أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه"، فأخذ برقبتي، ثم قال:" إن هذا أخي، ووصي، وخليفتي فيكم؛ فاسمعوا له وأطيعوا" فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لإبنك وتطيع".. كما نقله الحافظ (السيوطي) في (جمعُ الجوامع ) وتخريج وتعليق وضبط (خالد عبد الفتاح شبل) ج13.
ثم عاد الكاتب (هيكل) في الطبعات اللاحقة ليحذف منها هذا النص !!! ويُقالُ – والله اعلم ..أنه تلقى عَرْضاً مُغرياً لِقاءَ ذلك !!!
ومن أراد ان يطالع هذه الكتب ،من خلال الطبعات المتعددة، المُستندة الى نسخة مزورة أصبحت مرجعاً توثيقياً، لما جاء بعدها ، فقد ترتَبَ على ذلك بروز منهجية جديدة في الحوار والمناظرة ، تستدعي الإنتباه والحذر من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ،فيما لو راموا مواجهة الشبهات وتفنيدها، لان المحاورين من الطرف الآخر، سيرجعون الى هذه النسخ المُحرفة، وبالتالي يعطي انطباعا سلبياً في أذهانهم عن المُحاوِر المُسْتَشْهِدْ بهذه المصادر..
إن تتبعَ منهجية المحققين الأعاظم أمثال شيخ المحققين آية الله الشيخ أغا بزرك الطهراني (قدس سره) ، سنةٌ حسنة وطيبة ،وكذا في المُنجز الإستثنائي للعلامة الورع الشيخ عبد الحسين الأميني (قدس سره) ، الذي إختزل جهوداً مضنيةً للعلماء المخلصين من أتباع مدرسة اهل البيت (عليهم السلام)..لكن ..ينبغي التريث قليلاً ، لأنهما (رضوان الله عليهما) إمتلكا أدوات عزّ نظيرها ، إن لم نقل أنهما تفردا بهذه الأدوات ..فحينما يوردان محل شاهدٍ أو إحالةٍ الى مصدر أو وثيقةٍ نادرة، فجميعها تحت اليد وليس بالنقل الروائي ، وهو ما عزّزَّ عطاءهما النادر والفريد ..
أما لغة البحث والتتبع المعاصرة، فالأمر يختلف إختلافاً كُلياً ، فالأعم الأغلب من الباحثين يوردون الشواهد والأدلة بالواسطة، عن مراجع تاريخية سابقة ، وهو ما يوصلنا في نهاية المطاف ،الى مُبتَغى القوم...