اذا كان ابن الرومي أراد أن يجعلَ المقدمة الغزلية في القصيدة سمة من سمات قصائده الهجائية، فهناك سمات أخرى أكثر دلالة على براعته في فنه من ناحيه طرق الأداء، وأول ما يلفت النظر في ذلك اهتمامه بعنصر (القصة) في بعض قصائد هجائه، كقصيدته في هجاء خادمه (نصر) التي يسرد فيها على مسامعنا حكايته حين ارسله للتسوق وكأنها حقيقة، بحيث جعلنا نتخيل كسل ذلك الخادم، وندرك حالة البطء التي كانت تلازمه.. وتظهر هذه القصهة في قوله:
لي خادم لا أزال احتسبـه * يغيب حتى يرده سغبــه
نرسله لاشتراء فاكهــة * فقصرنا أن تجيئنا كتبــه
كم قال ضيفي وقد بعثت به * هيهات يوم الحساب منقلبهْ
ولكن ان الذي لاشك فيه، هو أن وراء هذا الوصف ليس الحقيقة وانما السخرية والهجاء، مثلما يحكي لنا شخص قصة فنصدقها ونتخيلها، وهي في واقع الأمر من نسج الخيال.. واذا تركنا نهج قصيدة الهجاء وطرق الاداء عند ابن الرومي، وجدنا موقفه من الألفاظ بحاجة الى تأمل دقيق، وإدراك للعناصر الفنية في هذا الموقف. وأول مايشد انتباه الباحث سعة معجم ابن الرومي سعة تشهد بثروة لغوية هائلة، وتمكن من ناحية اللغة العربية. فما أظن أن معنى من المعاني صعب على ابن الرومي أن يعبّر عنه في انطلاق واقتدار. كما انه لاتصعب عليه أي قافية، بل نراه يكاد يكتب هجاءه وشعره بصفة عامة على حروف المعجم جميعا، فلا تحول بينه وبين ذلك صعوبة بعض القوافي، وقلة مادتها اللغوية، عندما يكون رويها ثاء أو جيماً أو خاء أو زاياً أو صاداً أو ضاداً.. وهي قواف يبتعد عنها معظم الشعراء لصعوبتها، وتعذر ايجاد كلمات مقبولة ذات روي واحد فيها؛ وقد صدق المازني حين قال: (وليس ابن الرومي من تعيبه القافية، أو تضطره الى غير مايريد أن يقول، وانك لتقرأ شعره، فيخيل اليك انه يتناول الألفاظ (ويقسرها قسرا) على اعطاء المعاني التي يقصد التي تبنيها والعبارة عنها). وبعبارة اخرى انه قادر على الفاظه قدرته على معانيه فلا (يعسر) عليه شيء منها. وان عنصر (القدرة اللفظية) عند ابن الرومي، اتاحت له استخدامها بمهارة في مظهرين، الأول: التلاعب بموسيقى الألفاظ. الثاني: اختراع الألفاظ للإضحاك والتعبير عن سخريته الموجعة.
أما الناحية الأولى فتبدو في اختياره ألفاظاً متتابعة، ذات وزن موسيقي واحد، يكون التتابع أحياناً في اوائل الأبيات، كما في هجائه لفضيل الأعرج (مجاهيل معاذيل) وكذلك (مخاذيل ممابيد).
وليس من شك في أن ابن الرومي كان الى جانب محصوله في اللغه الفصحى شاعر شعبي، وخاصة في هجائه، فهو يصطنع احيانا أساليب العامة، ولهذا تظهر لنا في شعره ألفاظ لم يسبق ان استخدمها العامة، أو ما يسميه علماء اللغة الألفاظ المولدة.