لدخان المعارك البواسل عبقه الفريد الذي يشابه ساعات المحنة ومايحتويه من خزين يقظ يقفز الى الوجود عبر ذكريات حيه لاتموت ولا تنسحب ، في ذلك اليوم العصيب الذي يأبى مغادرة محطات الاسترجاع المريرة ، تلفتت في العراء لأكثر من مرة ، لم تقوى على الكلام وقد تجمدت الدموع في محجري الرفعة والصبر، وقد سرق هول الفاجعة السكينة والامان من وجهها النوراني المؤمن .
فماذا عساها تفعل امام حفنة أوغاد مارقين جُردوا عن الخُلق والدين ، ظلت تتمتم مع بارئها حسرات يلتاع لها قلبها المفجوع ، ولم تقوى على القيام فصلت من جلوس لوهن جسدها الذي أنخرته الهموم وأذبلته سحب الأحزان .
ليلة ليست ككل الليال ارتقت فيها اشرف الأرواح الى بارئها مع جمع الملائكة المهيب ، وتعرت أشجار الجنة في فردوسها الاعلى عن ثمرها كمدا وحزنا على المسلوب طريح يوم عاشوراء .
والليلة الموحشه ذاتها تعود بطقوسها من جديد ولكن بأكثر عنف وبأشد وطأ ، فمنذ ان تعثرت أذيالها وهي تجوب غرف الدار مكفكفه دموعها بطرف ثيابها باحثة عن أمها الحنون وسيناريو الحياة يتكرر من جديد ويوثق فرط الألم بصوره المتعددة .
مازالت السهام والنبال المعلقة بالأجساد الطريحة تذوي مع صفير رياح يوم عاشوراء الدامي ، دويها يفصح بالجريمة الشنعاء، ويهيم في الفلوات صرخة مدوية يعيدها الصدى لآلاف المرات ، وهي بين ذلك وذاك ترمي نظراتها في السماء وتتمتم :ان كان هذا يرضيك فخذ يارب حتى ترضى .
_ اخي حسن .. نور عيني ياحسين ؛ لماذا اطفأتم السراج هذه الليلة ، ومالي لا أشم أنفاس أمي الزهراء؟!
لم يشاركها وحشة تلك الليلة إلا أنفاسها الخائفة وبقايا ظلها الصغير الذي يرافقها مع دموعها الغزيرة، وفي وسط ذلك الظلام الموحش تفقدت دولاب أمها وتلمست عباءتها وسجادتها وسبحتها فاخترقت اللوعه قلبها الصغير وانكمشت في احدى الزوايا وقد احتضنت رداء امها البتول تشمه بقوة لعلها تطفأ شيئا من والشوق واللهفة .
في ذلك الظلام الحالك تلمست الجسد الطاهر وتمسكت بكل ما تبقى لها من قوة ، كان الجسد مهشما بالكامل فقد غار وحوش بني امية وامتطوا جماح أنفسهم الدنيئة وفعلوا فعلتهم الخبيثة وداسوا بحوافر خيولهم صدره الشريف ليشرئب حقدهم الدفين دمه الزاكي النبيل ، ضلت تتلمسه حتى وصلت الى النحر الشريف فجثمت فوقه كجثة هامدة وهي تصيح من شدة الاعياء :
_ ابن امي ياعزيز الزهراء ، وددت لو اقبل هامتك ، لكن جمع الفجرة حزو راسك الشريف من الوريد الى الوريد ، وإماماه ...واسيداه ، اليوم ماتت أمي فاطمة ، اليوم ماتت أمي الزهراء.
ضلت ترتجف وحيدة وكاد السراج ان يطفأ لهيبه حينما سمعت أزيز الباب وهو يفتح فهرعت باتجاهه صارخة بصوتها الملائكي الخائف :
_أبي العزيز هل عدت ؟ بالله عليك اين امي الزهراء ؟!
هم باستقبالها أول المخيم مرتعشا وقد توكأ بعكازتيه ، شاخصا بصره صوبها وتمتماته يطلقها عرفانا لرب العباد الذي حفظها من سطوة الاعداء ، حتى استند بضعفه ووقف مرتجفا محدثا اياها:
_ عمتي ...لقد غبت عن ناظري حتى اعتصر قلبي خوفا عليك ، وقد هممت على اللحاق بك لولا ضعفي وقلة حيلتي ، العيال تحتاجك والنسوة المكروبات تفتقدك ..وما زال للطريق من بقية .
_يا خليفةَ الماضين وثُمالَ الباقين.. نفسي فداك يا ابن الأطايب المطهرين لقد لذت الى حيث مصرع أبيك لعلي أطفا حرارة قلبي المحترق الما عليه..
_ عمتي .. انه ليوم أقرح قلوبنا وأسبل عيوننا، فقد شاء الله ان افقد اليوم والدي وأصلي، وأني لولاه لم اكن ولن اكون فهو اصل النعمة عليً ، وأحمد الله وأشكره على قدر ذلك، ولا قوة إلا باالله.
قادته ذبذبات صوتها فطفق نحوها بلهفة حتى أهتدى اليها ووضعها في حجره وهو يدغدغ فرط براءتها ، ويداه تربت عليها وتمسح على رأسها مما زاد بكاءها ، وراحت انهار الدموع تعزف سمفونيتها على ساحل الفقد الكبير .
هكذا أرخى الليل سدوله مطأطأ قامته أمام جلادة بطلة كربلاء التي تذوقت مرارة الفراق على نعومة أظفارها وقد انهزم الظلام بكل جحافله قبال تحديها الأشم ووقفتها الشجاعة الجبارة .
منتهى محسن