{ذريةٌ بعضها من بعض والله سميعٌ عليم}
آيةٌ من آيات الذكر الحكيم، شهدت لآل البيت عليهم السلام بتواتر وتلاحق عصمتهم وعلمهم وعطائهم الذي ارتقى حتى بلغ سدرة المنتهى، مع كل "والدٍ وما ولد"... وشهدت لتلكم الدرر المكنونة ما بين الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهّرة، بأنها تستلّ من العلم الملكوتيّ ما يفيض بحورًا على العالمين، لا فرق بين نسائهم ورجالهم، خلا أن في الرجال الأئمة المعصومين، وفي النساء بناتهم وطيباتٌ أنعم الله بها على الخلق أجمعين، ليستضيئوا بنورها المبين...
ومن تلك الدرر النفيسة التي جاد بها الزمان على بني الإنسان، السيدة الجليلة العالمة الزاهدة، نفيسة بنت الحسن عليهما السلام...
سليلة الحسن المجتبى، وحليلة سليل الحسين الشهيد، فهي بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وزوجها المؤتمن إسحاق بن الإمام جعفرٍ الصادق بن محمدٍ الباقر بن عليٍّ زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين...
نسبٌ يحار العقل في وصفه، وتشرد الألباب في مغزاه، وتلاقٍ لخيرٍ عميمٍ مع خيرٍ عميم، فإسحاق المؤتمن أحد المحدّثين العلماء الأجلّاء، ونفيسة بنت بيت العلم والتقى والثناء، وليدة مكة، انتقلت إلى مدينة جدّها المصطفى صبيّة، وتتلمذت على آبائها وعلى زوجها بعد ذلك... ولكن أبرز أساتذتها العظماء كان عظيم هذه الأمة، صادق بعد الصادق، وجعفرٌ بعد جعفر، طيّارٌ بعلمه وتقاه، لم يبلغ أحدٌ من الخلق مداه، فكان حريًّا بنفيسة الطاهرة الميمونة، المتعطّشة للعلم والفهم، أن تستلهم من عطائه وتقطف من جناه، حتى روت عنه وحملت علومه إلى أقاصي الأرض، حينما اختارت وزوجها الانتقال إلى مصر، فطاب فيها مقامها وغدت من أعلامها...
لم تطلب نفيسة الطاهرة في مصر جاهًا ولا سلطانا، فقد اكتفت بجاه آل محمدٍ وسلطان الآخرة المشعشعة في أفق الغيب الأمجد، ومع أنها كانت مقصدًا للعلماء من رجالٍ ونساء، يتعلّمون ويتفقّهون في شؤون دينهم على يدي السيّدة الزكيّة المعطاء، ويتبرّكون بحضورها الغنيّ بين ظهرانيهم، إلا أن ذاك حال بينها وبين التفرّغ للعبادة، فكادت تعتزلهم وتمضي عنهم، لولا أن سعى والي مصر آنذاك في تنظيم الأمر حتى حال دون رحيل السيدة الفاضلة عن مصر، كي لا تفقد البلاد بركاتها السنية، وحدّد للناس أيّامًا لمراجعتها، بينما تبقى لها أيّامٌ أخرى لعبادتها، فاستمرّ مقامها في تلك البلاد أعوامًا طوالا، سجّل لها التاريخ في أثنائها قصصًا وبركات وكرامات، جعلت أهل مصر يذكرونها أجيالًا وأجيالا، ويستحضرون مع اسمها النفيس كمالًا وجلالا، إذ كانوا يلجؤون إليها في ملمّاتهم ويستعينون بها في شؤون حياتهم، ويستلهمون من طيب خصالها طيبًا يفوح في جنباتهم، وقد رووا عنها مآثر قلّ أن تروى عن غيرها، تنمّ عن عظيم إيمانها وبرّها... ومن ذلك أنها خطّت لنفسها قبرها، وكانت تقوم فيه مصلّيةً قانتة، تاليةً للقرآن الكريم ذاكرةً للموت في الليل البهيم، حتى قبضها الله عزوجلّ إليه راضيةً مرضية، نفيسةً زكية، فغدا قبرها للناس مزارا، وظلّت بعد وفاتها لأهل مصر منارا، وكذا ذكر المتّقين، الذين يخلدون في هذه الدنيا بخلود أعمالهم، وفي الآخرة بارتقاء أحوالهم، فقد كانت نفيسة بحقٍّ إحدى أنفس درر عصرها، بل كل عصر، إذ لا يزال يذكرها التاريخ بالفخر، فقد كانت مشكاةً ومرقاة، وجوهرةً مصطفاة، من تاج جدّتها سيدة النساء والبنات، صلوات الله وسلامه عليها، عاشت بهداها ومضت على رضاها فكانت إحدى وريثات علاها، فسلامٌ على سليلة الطهر نفيسة مصر، ما غربت شمسٌ وما طلع فجر، وما لهجت ألسنة المؤمنين بالشكر والذكر، إلى أبد الدهر...