.
كتبوا الكثيرون عن الثورة الحسينية المباركة وأسباب قيامها وذهبت التفسيرات باتجاهات مختلفة، أرى معظم تلك التفسيرات لا ترتقى لجوهر النهضة الحسينية، وتوجهت إلى سؤال عرض على سماحة السيد منير الخباز ليكون منطلقا للبحث عن المعنى الحقيقي، وإلا أغلب تلك التفسيرات التي نشرت في كتب ومواقع كثيرة قصرت عن حراك الثورة ومعدنها, وعن عنفوان قيمها والحرية ولإباء والتضحية وانشغلوا بمسببات حياتية مفتعلة وموضوعة، وتبحث عن هوية الحركة الحسينية العاشورائية عند أهل الفكر الذين فسروا لنا النهضة الحسينية، وتشاغلوا في فكرتين الحراك الفاعل والحراك الانفعالي
أصحاب التفسير الانفعالي، يرون أن هناك مجموعة من عوامل فرضت الحراك كونها كانت استجابة لتدارك وإنقاذ النخب الواعية بما كانوا من تصفيات جسدية مثل حجر بن عدي ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي، ومجموعة كبيرة من طلائع المسلمين.
كتب الحسين عليه السلام إلى معاوية (أولست قاتل حجر أخي كندة)، والمصلين العابدين من أصحابه بعد أن أعطيتهم المواثيق الغليظة المؤمنة)، وكان أول رأس رفع على خشبة في الإسلام هو رأس عمرو بن الحمق قتل في الموصل، وحمل إلى معاوية في الشام وأهداه معاوية إلى زوجة عمر بن الحمق وكانت سجينة عند معاوية، فلما رأته قالت غيبتموه عني طويلا واهديتموه إلي قتيلا فأهلا بها من هدية لا قالية ولا مقلية.
يعتبر بعض المؤرخين أن قتل الصحابة المخلصين من أهل الوعي كان مبررا من مبررات الثورة الحسينية، ولكيلا نتجاوز هذا التشخيص دون أن نتأمل في مفردات ما حصل
معاوية أرسل بسر بن أرطأة إلى اليمن، وأهلها كانوا من موالي أمير المؤمنين عليه السلام، ذبحوهم واستحيوا نساءهم على سنة فرعون، فقتل الشيوخ الركع وذبح الأطفال ونهب الأموال وسبي العيال، مصادر كثيرة ذكرت هذا الحدث، في كتاب الفصول المهمة شرف الدين ص122 وكتاب البلاذري أنساب الأشراف وتاريخ الطبري الكامل وكتاب الغدير والاستيعاب والبداية والنهاية وتاريخ ابن عساكر، وفعل بنساء حمدان لإخلاصهن لولاية أمير المؤمنين عليه السلام سباهن وأقامهن في السوق شبه عاريات لزيادة السعر حالهم حال سماسرة التاريخ
يذكر ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب أول مسلمات سبين في الإسلام، جاء في تاريخ أبن الاثير، أن امرأة من كنانة لما رأته يذبح طفلين هما ابني عبيد الله بن العباس صاحت به أن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء.
والمحور الثاني هو التجويع الاقتصادي فقد تعامل معاوية مع المواليين للإمام علي سياسة التجويع، حاربهم في أرزاقهم، ضيق عليهم أعمالهم، قطع عنهم مصادر الرزق، تعامل معهم بلغة الجوع، كتب ابن الأثير في كتابه الكامل شهادته أن معاوية كتب إلى ولاته، وقال لهم من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان واقطعوا رزقه وعطاءه،
وجدت بحثا بعنوان سياسية معاوية ومبررات الثورة، بشبكة المعارف الإسلامية أن معاوية مارس سياسة الإرهاب والتجويع، وإحياء النزعة القبلية واستغلالها باسم الدين وشل الروح الثورية ، بعث بسفيان بن عوف الغامدي (اقتل كل من لقيته ممن هو ليس على مثل رأيك واخرب كل ما مررت به من قرى وحرب الأموال فأن حرب الأموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب، واستخدم الجوع لأنه أحد عوامل الخنوع)، استخدم معاوية هذا السلاح ضد تيار المعارضة، ومن اساليب التجويع رفع أسعار المواد الغذائية الرئيسية، عملت السلطة الاموية على رفع أسعار الحنطة في المدينة المنورة حتى لا يستطيع شراءها إلا المترفون وبالمال, كان معاوية يشتري الذمم.
والمحور الثالث هو حدوث الطبقية في المجتمع، إغداق المال على الطبقة الموالية للسلطة وعاشت الأمة بين طبقة رأسمالية وطبقة كادحة لا تملك قوت يومها، المؤرخون يقولون (زيد بن ثابت أحد الصحابة عندما توفى كان عنده من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس فضلا عن الأراضي والضياع والأموال الأخرى ومروان بن الحكم كان عنده خمس مئة الف دينار والدينار قوت شهر في ذلك الوقت، وعمر بن العاص عنده ثلاث مئة الف دينار وخمس وعشرين غير الضياع والأراضي والنخيل، وهذا يعني أن معاوية ودولة معاوية كانت تسير بالفساد الإداري والفساد المالي، وهذه المبررات مثل قتل النخب الواعية وتجويع المسلمين والطبقية فرضت على الحسين عليه السلام، أن يقوم بحركة الطف فهؤلاء المؤرخين يعتقدون أن الثورة كانت استجابة انفعالية ولولا وجودها ما تحرك الحسين عليه السلام.
والاطروحة الثانية ترى النهضة الحسينية مخطط إلهي مرسوم قبل موعدها بسنوات ولا ترابط بهذه المؤثرات وإنما هي ثورة إصلاح ودفاعا عن الدين والنفس
2ـ القانون والكتابة
حين تخرجت في معهد النفط / بغداد لم تشبع فضولي ،رغم ان هذه الشهادة حققت لي حلما وظيفيا لائقا، بذلت جهودا مضنية ومقابلات متعددة وباصرار وعناد وتحدي وعرضوا عليّ القبول في كلية الهندسة لكنني مع القانون الذي اخترته واكملت البكالوريوس ومن ثم الماجستير والدكتوراه التي حصلت عليها مطلع العام الماضي. شعرت وربما اشتغل العقل الباطن ان عمل رجل القانون هو عمل ابداعي اذ تتجلى الموهبة في الاصرار والاجتهاد وسعة الخيال .المحامي يكون ناجحا ان استعان بخيال لوصف الحال المعني وواقعية في تطبيقات القانون واحكامه ..واشتغلت موظفا حقوقيا وكانت مهنتي امتداد للكتابة حيث عمادهما اللغة والخطاب والحبكة سواء كانت في كتابة القصة او في سرد الوقائع القانونية لابد ان تسهم في جذب انتباه المتلقي واقناعه والتاثير عليه .لائحة المحامي ومطالعة الحقوقي تندرجان ضمن السردية الواقعية .
ومن خلال ترددي في فترة عملي حقوقيا ، سمعت ورايت في المحاكم حالات ربما هي اقرب الى الغرائبية منها الى الواقع ..حالات لاتملك ان تقمع دهشتك او ذهولك او تعطشك الى معرفة تفاصيل الأمور حتى النهاية ...رايت في تلك الفترة ان العمل في المجال القانوني يمهد للاديب وخاصة القاص او الروائي فرص لاغناء تجربته الكتابية وتمكينه من كتابة قصة او رواية ناجحة .
*
3ـ الجدَّة ودورها الإبداعي
من هنا بدأت الكتابة ، من لحظة انصات وشغف بالسماع واعتياد على تلقي الحكي في وقت محدد من كل يوم ..من لحظة المواظبة والاستعداد كل يوم وتهيئة الذاكرة للتحليق مع قصص الجدة التي كنت الح عليها كل ليلة بعد العشاء ان تحكي لنا حكاية ...ربما كانت تؤلف من خيالها قصصا لارضائنا واسعادنا او انها كانت تحفظ قصص الف ليلة وليلة او الاساطير او الحكايات التاريخية القديمة ..في مكان ضيق من امراة مقعدة مسنة تقدم بها العمر طويلا تعلمت الدروس الاولى ..كما كانت تقرضني مبلغا من المال اعتقد كان بحدود درهما او عشرة فلوس لحين استلام يوميتي من الوالد وغالبا مايمنحنا يومياتنا بعد العشاء بعد نهاية عمله اليومي في محل العطارية والتمور..
لابد لكل سارد او شاعر او فنان او مبدع قاعدة تتشكل تحت اقدامه منذ الطفولة لينهض باتزان ...العراقي يمتلك قاعدة متينة لان اغلب العراقيين خاصة الأجيال القديمة هي أجيال شفاهية ، تحفظ الاساطير والحكايا والبطولات عن ظهر قلب لان اغلبهم اميون ..ولالسنتهم في السرد اجنحة مكينة كبيرة يحلقون فيها أنى شاؤوا .. ولان لحمة العائلة وتماسكها وتوحدها والفتها وتكافلها يجعل البيوت عامرة بالاب والاخ والجد والجدة واحيانا أبو الجد ...هذه الوشائج هي قصة متكاملة الشخوص ومتعددة الأدوار ..والحياة حبكة لها معنى . الأجداد هم جذوة الابداع وزيته الذي ساهم في اتقاد مشاعل الابداع بتغذية مخيلتهم وتحليقهم في سماوات الخلق الجميل . وبالنسبة لي فان جدتي هي معلمتي الأولى في جميل التلقي وحافز الكتابة ..حافز ان لايظل الحكي مكتوما في قلبي ، فاتسع صدر الورق لبوحي على مر السنين .