قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} التحريم: 11
كانت السيدة آسيا بنت مزاحم في موقع السلطة العليا التي يملكها زوجها، فكانت في مقام الملكة لشعبها، وكانت الدنيا بكل زخارفها وزينتها وشهواتها ولذاتها تحت قدميها،
لكنها رفضت ذلك كله عندما اكتشفت الإيمان بالله، وعاشت في خط العبودية له، وذاقت طعم مناجاته في حالة الخشوع الروحي والخضوع الجسدي في لحظات السجود الذي كان يرتفع بروحها إلى الدرجات العليا الروحانية في رحاب الله
فاحتقرت زوجها وملكه، وكل هؤلاء الخاضعين له، المتزلفين له، اللاهثين وراء ماله وسلطانه، ليحصلوا على شيء منهما، ورأت نفسها غريبةً بينهم، لأنها تعيش غربة الروح والفكر والشعور عن كل أوضاعهم وعاداتهم ومنطقهم الكافر، ونظرت إلى الدار الواسعة التي هي في رحابة القصور الملكية التي تحيط بها الجنائن النضرة وتجري الأنهار من تحتها، فشعرت بالاختناق الروحي فيها، فصرخت فيما يشبه الاستغاثة في خلوتها الروحية بين يدي الله الذي كانت تراه بعين إيمانها القلبي...
سألت السيدة آسيا بنت مزاحم ربها أن يبنى لها بيتا في الجنة، لأنه البيت الذي تعيش فيه في جنة رضوانه، وتحسُّ فيه بسعادة الروح إلى جانب نعيم الجسد، فلا تحس بأيّ حزنٍ مما يحسّ به الناس في الدنيا، لأنها لا تجد هناك أيّ حرمان يوحي بالألم أو بالحزن الداخلي، فهذا هو الحلم الكبير الذي تطلع من خلاله إلى السعادة المطلقة، فأنها الإنسانة التي تشعر بالتعاسة القاسية، فيما يشعر به الناس بالسعادة التي تلتقي عندها أحلامهم، وتشعر بالسعادة فيما لا يبالي فيه الناس في أفكارهم.
وسألت ربها النجاة من فرعون في علوّه الاستكباري، وفي ظلمه للمستضعفين من الناس، وفي طغيانه على الحياة والحقيقة، وفي تمرّده على الله، فإنها لا تطيق الحياة معه، لأنها تتصوره كما يتصور الإنسان الوحش إذا أقبل عليه أو عاش معه.
ولذا، فإنّ نجاتها منه هو حلم حياتها الكبير وكذلك سألت ربها النجاة من القوم الظالمين، الذين يمثلون المجتمع الفرعوني الذين يزينون له طغيانه وجبروته، ويضخمون له شخصيته، ويدعمون ظلمه واستكباره، ليكونوا قاعدة الظلم الذي يمارسه فيما يشرّعون له من قوانين، وفيما ينفذونه من خططه ومشاريعه.
وهكذا نجد في هذه المرأة المؤمنة التي عاشت في أعلى درجات السلم الاجتماعي، التي يضعف الأقوياء أمامها فيسقطون وتسقط معهم مبادئهم، المثال الحيّ للمرأة القويّة التي تجمعت فيها كل عناصر القوّة، من الروحية العالية، والإرادة الحديدية، والوعي العميق لكل خلفيات الواقع الفاسد الذي يحيط بها، لتعطي الدرس الكبير لكل الذين يتعلّلون في تبرير انحرافهم بالبيئة الفاسدة التي يعيشون فيها، فلا يملكون إلا الخضوع لضغوطها الشديدة، لتقول لهم بأنهم لم يبلغوا في انحراف مجتمعهم ما بلغه مجتمعها الخاص والعام من خطورة الانحراف، ولم يعيشوا في قلب الإغراء كما عاشت فيه، ولكن الفرق بينها وبينهم، أنهم عاشوا الانبهار بالواقع المحيط بهم، عندما استغرقوا فيه، فسقطوا في أوحاله، أمّا هي فقد ارتفعت بروحها وعقلها عنه، وحدّقت فيه تحديقة الإنسان الواعي الذي يريد أن يرى العمق الداخلي ليكتشف ما في داخله من أوساخٍ وأدران ونقاط ضعفٍ، ليتخذ موقفه من خلال وعي العمق، لا من خلال سذاجة السطح.
وبذلك استطاعت أن تتجاوز الضعف الأنثوي، لترتفع إلى درجة القوة الإنسانية الإيمانية التي تتقدم بها على الرجال في إرادتها القوية وقرارها الحاسم، لتكون أمثولةً للرجال والنساء من المؤمنين، ليرتفعوا إلى مواقع السموّ التي بلغتها من خلال الوعي الإيماني في شخصيتها الإنسانية
خديجة عبد الواحد ناصر