وكأني أشم رائحة الكتاب من بعيد، صرت أبصر بكل وضوح دون أن أرى لأني أعرف يزيد حين يلهث، هذا الكتاب القادم من يزيد بن معاوية أعرف فحواه دون أن اقرأه، بالتأكيد سيطلب مني أن آخذ البيعة قسراً من الحسين بن علي، ولو كان يعرف من هو الحسين لما عرض البيعة بين يديه، والمشكلة الأدهى هو يطلب مني أن أقتل حسيناً، كتب الى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عامل المدينة: (إذا أتاك كتابي فأحضر الحسين بن علي، وخذ منه البيعة قسراً), هل هناك في الأمة يا يزيد الشر من يجرؤ أن يقسر أمراً على الحسين بن علي؟ ما بك أيها المعتوه يزيد..؟ أوووه.. ويطلب مني أن أضرب عنقه إن امتنع، ويريد مني أن أبعث له الرأس، رأس من سأبعث اليه: رأس علي أم فاطمة أم جده محمد؟
وأنت متى اعتليت العرش لتفكر أن يكون اول عمل تقيم به قوائم عرشك، هو ذبح الحسين..! كم يغيظك وجود الحسين؟ أهذا كل ما تملك من همة يا يزيد؟ يا الهي.. ماذا أجيب هذا الابله الذي يقول: (خذ حسيناً أخذاً شديداً ليست فيه رحمة حتى يبايع والسلام), هو أي سلام ابقيت لي يا يزيد؟
يشيعون بين الناس أن معاوية كان يوصي ابنه يزيدا بأن يصل رحم الحسين، ويرفق به ويصلح له أمره، هذه آخر اكذوبة الوشاة، والله لا يوصيه إلا بتصفية الحسين وقتله، دعني أفكر مع نفسي أولاً، ماذا اريد انا وماذا يريد يزيد؟ وعليّ أن اميل لمشورة كلبهم مروان؛ كي يشير عليّ بما عساه خيرا، ابعثوا لي مروان بن الحكم وقولوا له: لا وقت للشقاق، نحن امام معضلة تجبرنا على التوحد.
وجاءني مروان، فأشار إلي أن أبعث اليه، وادعوه الى البيعة والدخول في الطاعة:ـ أي مروان، كأنكم من نسل فكر واحد، أيجبر الحسين (عليه السلام) على البيعة قسرا وليزيد؟ ما لكم كيف تفكرون؟ قام مروان يصرخ قهراً: ارسل اليه، وان ابى فاضرب عنقه، قلت: ومن يبلغه الحضور؟ انا اعرف تماماً أن الحسين فهم القضية برمتها، عرف بموت معاوية، ولماذا ارسلنا اليه، وكنت أعرف أيضاً انه سيأتي، فهو لا يخاف عرشاً..
المهم حدث المتوقع، وجاءنا الحسين، وكان مروان عندي ناصحاً، فقرأت الكتاب ودعوته كما يريدون الى البيعة، فاسترجع الحسين (عليه السلام) وقال :ـ ان مثلي لا يعطي بيعته سراً، ولا اراك تجتزئ بها مني سراً دون ان تظهرها على رؤوس الناس علانية.. قلت:ـ أجل، قال:ـ فإذا خرجت الى الناس ودعوتهم الى البيعة، دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً، قلت له:ـ انصرف على اسم الله، وأنا فرحان جداً لأني أريد العافية.
صاح بي مروان: والله لأن فارقك الساعة ولم يبايع، لا قدرت منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم وبينهم، احبسوا الرجل، ولا يخرج حتى يبايع أو تضرب عنقه.. هؤلاء الرجال أمثال مروان لا يعرفون حجم انفسهم ومكانتهم، يضعون السيف حدا بينهم وبين مكرمات آل محمد (ص)، فوثب عليه الحسين وقال له: يا بن الزرقاء، انت تقتلني أم هو؟ كذبت والله.
وثبة هذا الرجل أرعبتني كثيراً، كيف تحول هذا الحسين الودود الى شراسة الأسود، واذا به يقول:ـ نحن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ويزيد فاسق شارب الخمر، وقاتل النفس، ومثلي لا يبايع مثله.
فقال لي مروان: والله لا تراه بعدها أبداً.
صحت به:ـ يا مروان، ما أحب إليّ الدنيا وما فيها، واني قتلت الحسين، سبحان الله.. أأقتل حسيناً إن قال لا أبايع، وإني لأظن أن من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة، فلهذا قرر يزيد عزلي عن امرة المدينة، واضافها الى عمر بن سعيد بن العاص والي مكة، ونجوت بذمتي من دم امام معصوم.