لم يتبقَ له إلا اللمسات الأخيرة وينتهي من رسم لوحته، كل شيء بدا غريباً بالنسبة إليه، منذ أن تردد عليه ذلك الصوت، لا يريد أن يطلع عليها أحد، يفكر كيف سيقنع الآخرين بالحقيقة، هل يخفي أمره ويكتم عشقه لها، أم يمحو كل ما يدركه واقعاً ويعيش في تيه من الأوهام بصده عنها، تارة يأخذ قطعة قماش بيضاء فيغطيها وأخرى يدير وجهها إلى الحائط، يتساءل في خلده:
- ما سر هذه اللوحة معي؛ لماذا هذا الوجه ضل يدور حولي في منامي حتى ألحّت فكرته في رأسي بأن أرسمه؟!
لاحظته أمه في الفترة الأخيرة وقد تغير كثيراً، يشعل الشموع باستمرار، يتهجد بكلمات الإنجيل حتى يجف ريقه، عزوفه عن خطيبته يشعرها بالقلق، حاولت معه عدة مرات كي تخرجه من مأزق العزلة، لكن حالت دون أن تخرج ببارقة أمل، ابتعدت عنه لعله يندم على تصرفاته، فلم تلقَ منه إلا عدم البوح بما يدور في خلده، أحست بأنه لا يريد قربها.
- أخشى أن يكون حبّه تغيّر تجاه تلك المسكينة.
- ماذا سأقول لها وقد نفدت الأعذار، كلّما سألتني عنه أصاب بالحيرة.
- لماذا لا يجعلني اطلع على تلك اللوحة؟
قالت هذا ورجعت متجهة نحو غرفته، قبل أن تفتح الباب سمعت نشيجه محاولاً أن يحبس زفير أنفاسه، خفق قلبها؛ دفعت الباب ودخلت، رأته جالساً على كرسيه وقد احتضن لوحته وهو يبكي، أخذ يمسح دموعه ثم أدار وجهه مواريا اللوحة إلى الجدار، وقف أمام أمه معتذراً لها، ثم قبّل رأسها، نظرت إليه معاتبة: هل أنت حقاً ولدي الذي أرضعته من صدري، لماذا تكسر قلبي هكذا، أتوسل إليك أن تصارحني بما يدور في رأسك، خطيبتك باتت في حيرة من أمرها؛ أخبرني إن كنت لا تحبّها، أرجوك يا ولدي لا تحاول أن تخفي عني، أنا أمك.
ثمّ أمسكت الصليب الذي كان في رقبته، وبيدها الأخرى رفعت رأسه وقالت هل نسيت عهدك إلى (يوحنا المعمدان)، ارتفع صوتها صارخة بوجهه: أنظر إلى وجهك الشاحب، عيناك غائرتان في حزن مجهول، قل لي إن كنت تعشق فتاة أخرى وربما هي صاحبة تلك اللوحة التي تخبئها عنّي، تكلّم؟
ما أن سمع صراخ أمه حتّى انهار باكياً وقد جثا على ركبتيه ثم أمسك بشعر رأسه بكلتا يديه صارخاً:
نعم أمي أنا عاشق متيــّم، بل أنا هائم .
وعلا نشيجه وهو يردد: لا أريد سواه.. لا أريد سواه..
بقيت أمه تنظر إليه بدهشة قالت له بهدوء: إذن أنت لا تريد تلك المسكينة التي أحبّتك وأحببتها..
ابتعدت عنه وقد ارتسمت الخيبة على ملامحها، ثمّ أطبقت الباب بقوّة، حتّى انطفأت الشموع بفعل رجع الهواء، رفع رأسه فوجد نفسه وحيداً بين لوحة وأخرى للمسيح مصلوباً، أصباغ بلون الغربة، وأنجيل تعصف به روح الإله، فجأة سمع ذلك الصوت مرّة أخرى، نظر من النافذة إلى النخيل، حفيف السعف يشعره بالألم حين تتشابك أخواصه، الشمس الحارقة أنزلت علي الظهيرة آية السكون، بكاء بعيد يقترب شيئاً فشيئاً، عويل وخطوات تحاول الهروب، صوت ضرب السيوف يجعله مثل خشبة لا يحرك ساكناً، تراءت له سماهر مخضبة بالدم، نظر نحو السماء، فارس ينادي (ألا من ناصر ينصرني.. ألا من ناصر ينصرني).
* * * *
لم أكن أجيد الرسم مثل أبي، ولم يعد له ذكرى إلا أنا، أنا الذي تيتّمت قبل أن أبلغ عاما واحداً، أصبحت كساق نخلة ليس لها أرض تشبث بها، تقول جدّتي: لقد ذهبا والداك في ذلك الانفجار مع السائرين نحو كربلاء، لقد كانت لهما قصة حب عظيمة، عقيدة راسخة وطريق واحد وحقيقة لا غبار عليها.. كنت أشاهد عزاء الحسين، يتجلل الحزن حتّى في الكنائس في ذكرى إهداء رأس يوحنا المعمدان في طشت إلى القيصر، لكنّي لم أعِ الحقيقة، يوحنا الذي يقول عنه المسيح (لم تلد النساء أعظم منه)، كانت الحقيقة جلية أمام أعيننا لكنّنا غفلنا أو تغافلنا عن ذلك، نفس القول نجده في خطبة زين العابدين علي بن الحسين حيث قال (من عجائب الدنيا أن رأس يحيى يهدى إلى بغي من بغايا بني اسرائيل).
هذا ما جعل أبيك يعزف عن الزواج في الوقت الذي كان ينتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر، لكنّه تغيّر بين ليلة وضحاها، كشف لي بعد إلحاح منّي عن لوحته التي كان يخفيها، نشب شجار بيني وبينه؛ أجبرته على التحدّث عن أمر خطيبته (أمك) وأن ينهي موضوعه إن أراد ذلك، لأن مشاعر الفتاة بدأت تنهار بسبب تصرفاته، ولا أظن إنّها ستقبل الزواج منه.. حينها انصاع لأمري وذهب إلى خطيبته كي يخبرها بأمره.
أخذت أفتش غرفته، حتى وجدت شريط تسجيل كتب عليه (مقتل الإمام الحسين)، وما كان منّي إلا أن دسسته في جيب جهاز المسجل وشغّلته فأخذ يدور بصوت خال لي أنني سمعته سابقاً أو ربما كنت على يقين من سماعه لكن لا أعرف أين ومتى، تكلّم عن مقتل رجل يعود نسبه إلى نبي المسلمين محمّد، خرج من مكان مولده إلى هنا، إلى أرض العراق طالباً للحق ومعه عياله من النساء والأطفال والأنصار، تجسّد المشهد في رأسي بشكل مهول وكأنني أدركه تماماً، فهذه الحادثة قد قرأتها من قبل؛ الأمر الذي شدني أكثر لأكمل بقيّة التسجيل، قال الناعي إن الذين أرسلوا بطلبه خلفوا بوعودهم له، فما كان من الحسين إلا أن يخضع لمعركة في أرض صحراء بعدما لم تجدِ الحلول نفعاً مع الأعداء، لا ناصر له ولا معين إلا أنصاره السبعين، بدأت المعركة بعد أحداث مريرة وأيام مرت على عياله كأنها دوامة من الظلام تدور بهم بكل ما أوتيت من قوّة، اشتدّ بهم الجوع والعطش والخوف مما لاقوه من ضياع.
في الحقيقة لم يكن ارسالهم في طلب الحسين ليس إلا كميناً كي يوقعوا به ليقتلوه، وبالفعل ذبحوا ابن بنت نبيهم بعدما قتلوا جميع الرجال الذين كانوا معه، الواحد تلو الآخر، حتى طفله الرضيع لم يسلم من الذبح.
منعوا عنهم حتى الماء، وسلبوهم ثيابهم، وقطعوا رؤوسهم وحملوها على الرماح، وأسروا النساء وروعوا الأطفال، تشردت عيال الحسين من أرض إلى أرض، لا حول لهم ولا قوة، كانت مجزرة كبيرة مروعة كل ذلك حصل في بضع ساعات في يوم العاشر من محرّم.
* * * *
تذكّرت حينها إن يوم العطلة في أوربا الذي يطلقون عليه (يوهانوس) يوم كئيب قطع فيه رأس يوحنا هو نفسه يوم عاشوراء. مر الوقت وأنا أستمع إلى مقتل الحسين وأبكي، بكيت بحرقة، بندم، بكل جارحة، تمنيت لو أنني متُّ قبل هذا، لو أنني لم أخلق حتّى، تمنيتُ لو كانت روحي قطرة ماء أروي بها عطش الحسين، أو حتّى رداء يحفظ وجهه عن حرارة الشمس، أو عاصفة هوجاء ترد خيول هشمت صدر الحسين.
ماذا عساني أن أكون يا ولدي وأنا ليس إلا فارق زمني، ليس إلا عجوز غيّب عنها أن الحسين هو ذاته صاحب الوجه الذي رسمه أبوك، أجل أنه هو يوحنا المعْمدان. تنهدت وأمسكت بمسبحة صنعت من الطين، قربتها إلى أنفها وأخذت تشمها بعمق.
سألتها راجياً أن تكمل؟!
التفتت إليّ وتحررت دمعة حبيسة من عينيها، قالت وهي تمسح وجنتيها:
ــ كنت أفكّر في نص غريب موجود في الكتاب المقدّس، يذكر بأن هناك ذبيحاً على شاطئ الفرات، النبوءة التي تمتدَّ طولاً على امتداد نهر الفرات، تتحدّث عن شخص مقدّس (ابن نبي) وهو سيّد عظيم يدعى (اله سين) وبما إنّ العرب في جنوب أرض العراق كانوا يقلبون الهاء حاء فقد تغير أصل الكلمة من (الحسين إلى اله سين)، لم تحقّق هذه النبوءة إلا مرّة واحدة في معركة مصيرية كبيرة بجانب شط الفرات، في أرض يقال لها (كركميش) من قبل شخص مرتبط بالله من أجل ارجاع خلافة مغتصبة، فقد جاء في سفر إرمياء الإصحاح وصفاً مهيباً رهيباً كأنّك ترى ذلك المصروع والجيوش التي التفت حوله (اسرجوا الخيل، واصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالخوذ، اصقلوا الرماح، البسوا الدروع، لماذا أراهم مرتعبين ومدبرين إلى الوراء، وقد تحطّمت أبطالهم وفرّوا هاربين في الشمال بجانب نهر الفرات حيث عثروا وسقطوا لأن للسيّد رب الجنود ذبيحة عند شط الفرات).
لا تتصوّر يا ولدي أنّ الحقّ يموت، هناك أناس تمضي لتصل إلى الحقيقة وحين يدركونها يلتهمهم الموت، تقول النبوءة (ذهب ليرد سلطته إلى كركميش ليحارب عند الفرات في الصحراء العظيمة التي يقال لها رعاوي)، ورعاوي هذه هي جرابلس الصحراء الواسعة التي تمتدّ من حدود بابل إلى عرعر والتي أسماها الكتاب المقدّس (رعاوي) وقد كانت بالقرب من مدفن مقدّس لأهل الكتاب اسمه النواويس، تحيطه دور عبادة وقد دفن هناك العديد من أهل الكتاب والسبب يعود إلى أنّهم كانوا ينتظرون السيّد المذبوح لينصرونه، ولكن قدومه تأخّر فماتوا وهم ينتظرونه؛ فلذلك لم يقتل مع هذا المقدّس سوى نصرانيين اثنين، يقال إنهما اعتنقا دين هذا المقدس، ولم يكن ذلك المذبوح إلا (يوحنا معمدان أو اله سين أو الحسين) وكركميش تعني كربلاء.
صمتت جدّتي عن الحديث، امسكت بيدها وقرّبتها إلى فمي حتّى سالت دموعي حرّى، كانت هي تنظر إلى تلك اللوحة الذي رسمها أبي منذ سنين بعيدة، تأملتها طويلاً رأس مقطوع ولون غريب يغطي الأفق، احتضنتها بشوق، حتّى جاءها ذلك الصوت الذي لم أخطأ أنني سمعته من قبل (ألا من ناصر ينصرني) فأغمضت عينيها بهدوء وإلى الأبد.
ملاحظة: المعلومات والتفسيرات عن واقعة الطف وما يتعلق بها أخذت من مصدر بعنوان (ما لا تعرفه عن الكتاب المقدس ــ بحوث لاهوتية) للباحثة والكاتبة إيزابيلا بنيامين.
#هدى_الغراوي