بسم الله الرحمن الرحيم
سعد عطية الساعدي
نشر في مجلة النهج الفصلية العلمية / العدد الخامس / 2008
الجزء الأول
المبحث الأول
المسموح من التفكر
( تفكروا في خلق الله ولاتتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره )(11)
هذا الحديث الشريف حدد لنا المسموح من التفكر حفاظاً علينا من نقص الإدراك والتقدير .
فبسبب قصور تحقيق المعرفة وكذلك خوفاً علينا من الضلال كما ضل بعض فرق المسلمين الذين تصوروا لله عز وجل الجسم والأطراف والعياذ بالله من ذلك والناتج من التأويل الخاطيء للنصوص القرآنية والتفكر الجامح المهدود العنان . في تفكر ذات الله وكيفيتها . فيضعون في تصورهم الوهم في كيفية ذات الله سبحانه الأدوات والوسائل والأشكال بما فيه التجسيم . وسنتناول المسموح على ما بان لنا في التفكر من خلال الحديث الشريف ونترك مانهى عنه الحديث في الفصل القادم ـ أي إننا قسَّمنا ذلك الحديث الشريف الذي تناولناه في مقام التفكر إلى غرضين كانا هدفنا في هذا البحث أصلاً كما هو حال أسم البحث .
( لابد أن تعرف أن قولنا (( التفكر في الذات والأسماء والصفات )) قد يحمل الجاهل على الظن بأن التفكر في ذات الله ممنوع بحسب الروايات دون أن يعلم أن التفكر الممنوع هو التفكر في اكتناه الذات وكيفيتها ، حسب ما يستفاد من الأحاديث الشريفة ، وقد يمنع غير المؤهل ، من النظر في بعض المعارف ذات المقدمات الدقيقة ، وهذان المقامان يتفق بشأنهما الحكماء أيضاً . إلاَّ أن استحالة اكتناه الذات الإلهية مبرهنة في كتبهم ومنع التفكر فيها مسلم به عند الجميع )(12) .
لقد علمنا المقصود بالمسموح في التفكر كما هي الإشارة إلى الممنوع كما هو الحال فيما ذكرناه سابقاً إذاً فالتفكر في الذات والأسماء والصفات فيه تحديد وليس مطلق لكل من أراد أن يتفكر لأن الأطلاق دون المحاذير يوقع في الشبهة والضلال مادام الإنسان قاصراً على إدراك ما لايستطيع . فالذات القدسية وما يتعلق بها من تلك الأسماء القدسية والصفات الإلهية هي فوق إدراك المخلوق القاصر . وسنأخذ بعض آراء العلماء ومقالاتهم إحياءً للفكرة وإغناءً للموضوع .
( اعلم إن نسبة أسم ((هو)) إلى اسم ((الله)) كنسبة الوجود إلى المهيّة في الممكن إلا أن الواجب تعالى لامهيّة له سوى الإنيّة وقد مرّ أنّ مفهوم اسم الله مما له حدّ حقيقي إلا أنّ العقول قاصرة عن الإحاطة بجميع المعاني الداخلة في حدّه لأنه إنّما عرفت صورة حدّه إذا عرفت صور حدود جميع الموجودات . وإذ ليس فليس وأما إسم ((هو)) فلا حدّ له ولا إشارة إليه ، فيكون أجل مقاماً وأعلى مرتبة ، ولهذا يختص بمداومة هذا الذكر الشريف الكمل الواصلون .)(13) .
الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين في هذا المقطع يبين لنا أسم ((هو)) بدلالته المطلقة وبخصوص الذات القدسية المطلقة ونسب ذلك المقام في مداومة ذكر الكمّل الواصلون في تفكيرهم وسلوك عبوديتهم وعبادتهم . وعندما نكمل مقالة صدر المتألهين نلمس خصوصية هذا الإسم الإلهي العظيم لما له من إنفرادية جامعة إطلاق المعاني عن التحديد والغاية في طلب العبد عند المناجاة في بعض الاسماء .
بما يعني إن باقي الأسماء تدل على دلالة إلهية كـ (( الرزاق )) و (( العفو )) فعندما ينادي بها العبد فقد رجا فيها من الله تبارك وتعالى مايرجوه لنفسه فيها من الرزق والعفو عن الذنوب ولكن ((هو)) جمع كل هذه الأسماء وقصد به الذات القدسية بمطلقية الدلالة والمعنى بما لاحدود مطلبية عينية للعبد بل نداء العاجز القاصر للكل المطلق . وعندما يحتار العبد أزاء ذلك في تفكره فإن لجوئه لأسم ((هو)) هو المعبر المنقذ وقد خاطب بكل الأسماء والصفات القدسية به حتماً لأن قصد الذات تكفي باقي الأسماء والصفات .
( والنكتة فيه ) أنّ العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته ، لم يكن مستغرقاً في معرفة الله ، لأنه إذا قال (( يارحمن )) فحينئذ يتذكّر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها ، فيكون طالباً لحظّه . وكذا إذا قال: ياكريم يامحسن ياغفّار ياوهاب يامنتقم . وإذا قال : ياملك ، فحينئذ يتذكر ملكه وملكوته ومافيه من أقسام النعم ولطائف القيَم ، فيميل طبعُه إليها ويطلب شيئاً منها ، وقس عليه سائر الأسماء )(14) .
الحكمة المتعالية في فلسفة الملاصدرا تقتصر لنا السبل في التفكير وتعطينا الدلالات الأكثر إبقاءً للطلب عبر أحساس التوجه الباطني الدقيق إلى الذات القدسية المطلقة وفي المقطع الآتي يعطينا الملاصدرا هذا المعنى إختصاراً لكل المطالب التفكرية للعبد المتوجه إلى الله عز وجل .
( كأنه يقول : حضرتُك أجلّ من أن أمدحكَ بشيء غيرك ، فلا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي، ولا أخاطبك بلفظ أنتَ ، لأنّه يفيد الفخر والكِبر ، حيث تقول الروح : إنّي قد بلغت مبلغاً صرتُ كالحاضر في حضرة واجب الوجود ولكنّي لا أزيد على قولي : هو ، ليكون إقراراً بأنّه هو الممدوح لذاته في ذاته ، وإقراراً بأن حضرته أعلى وأجلّ من أن يناسبه حضور المخلوقات ، ولو فرض عند حضرته حضور عبدٍ أو ملك مقرّب أو نبيّ مرسَل ، فحيث يمتنع له الإحاطة والإكتناه به تعالى إذ بقدر قوّة وجوده يشاهد ذاته تعالى ، وذاته في شدة النوريّة فوق مالايتناهى بما لايتناهى، فما غاب عنه من ذاته أكثر بما لايتناهى مّما هو مشهودٌ له . فهو سبحانه غائب بحقيقته التامّة البسيطة عن الكل ، مع فرض شهودها إيّاه ، فلماذا يكون هذا الذكر أشرف الأذكار ، لاحتوائه على هذه الأسرار لكن بشرط التنبّه لها )(15) .
ولكن لايمكن لجميع الناس أيكونوا على مستوى واحد من التفكير رغم أن الفطرة الإنسانية فطرة توحيدية تثير معاني الحاجة الى فيض رحمة الخالق وتأكيد حاجة عبودية العبد إلى عبادته . ونحن نستفيد عند الإطلاع على تلك المعاني العالية من أجل حصر تفكرنا بالأسم الإلهي الجامع للمعاني القدسية كلها لأنه مخصوص الهوية القدسية كي تتوجه بقوة التفكر نحو الذات بمدلول العجز عن الإحاطة بتلك الأسماء بل جمعها بدلالة معنى ومطلقية الذات القدسية بأسم ((هو)) بمعنى (( يامن لاهو إلا هو )) فيكون شفيعنا تفكرنا في ذلك . وهذا لايعني توقفنا عن التفكر في باقي الأسماء والصفات الإلهية القدسية والذكر بها . وعين ذلك بما ذكرها لنا الله عز وجل في محكم كتابه إنها في مطلب واحد أدلنا سبحانه عليه وهدانا إليه هو إغناء الحاح حاجة العبد المحتاج بالضرورة التكوينية والوجودية باطنها وظاهرها في كل شيء للمطلق الخالق لكل شيء والمنعم كل شيء على كل شيء لا أحد سواه . بل كل سواه لايحتاج لغير سواه لأنه ((هو)) لا أحد سواه .
عجز العبد وعدمية إستطاعته على الاستغناء عن سيده ومولاه فيض الرحمة والخلق والعطاء يجعله دائماً لاجئاً إليه في كل تلك الحاجيات الأساسية الوجودية والعامة الضرورية في متطلبات ديمومة ذلك الوجود من خلال الحياة . وكذلك من تلك الحاجيات المقلقة حاجة العبد المقلوق للإطمئنان الحقيقي وذلك لايتحقق إلا بالجوء إلى الله ذكراً وتفكيراً (( إلا بذكر الله تطمئن القلوب)).
والتفكر هو عين تلمس وتمعن العبد في طلب أصل حاجياته اللامنتهية لا بغرض الفتات الدنيوي بل في عين قبول التوسل والتوجه والهداية فهي أصل كل الحاجيات ومطلب كل الغايات إن كان علمها العبد أم جهلها . ومثلما هذه الحاجيات وإلحاحها ملازمة للعبد كذلك التفكر طالما يوصل العبد إلى كل حاجياته من خلال التفكر والذكر لكل الأسماء والصفات الإلهية القدسية بحدود وإدراك العبد ومدى تعلقه بسيده ومولاه وكفيلة الفطرة بذلك طالما فطر الله تعالى الإنسان على التوحيد دون تلوث المحيط الخارجي إن وجد أثره إلى باطن العبد سبيلاً . وتلازم حاجيات العبد تفكره لأنهما متلازمان من أجل تحقيق طموح عبودية العبد نحو فيض الرحمة والهداية والإطمئنان الحقيقي الدائم عبر مراحل العوالم والخلود . ولهذا نحن لانجد ضرورة لدعوى فرض تأطير التفكر العام في تلك الأطر الفلسفية والتي قد لايدركها العوام على مافيها من معاني ودلالات دقيقة تصب في اتجاه فهم عالي من التركيز رغم مافيه من تشعب يفيض على سعة إدراك العامة من الناس ورغم ما فيه من التنبيه والتوسع .
والعلة في ذلك كأننا نعطل أو نلغي عامة التفكر على مافيه من سعة وتوفر لدى عامة مستويات الناس لأنه ليس أبتكاراً فلسفياًَ بل إرتباط فطري . وبما أن الفطرة والوجدان كفيلان في إيجاد مساحة واسعة لتفكر العبد لفيض الربوبية المطلقة وعمق الارتباط وجدانياً أجدى من إقحام آراء الآخرين .
وتحديد تفكر العبد لايعني في الحكمة إغلاق منافذ إدراكه بل إغنائه بالمعرفة والدقة حتى يكون العبد متنقي في تفكره عارفاً من خلال التركيز كيف يتفكر ويذكر .
لقد اشرنا هنا إلى الفائدة المعرفية في التركيز الفلسفي الخاص في التفكر في حدود جمع تفكر الإنسان بأتجاه واضح ودقيق نحو الله تبارك ( تعالى ) مع مطلقية التفكر كمتسع لكل الناس ومن خلال طاقاتهم وإدراكهم ، ولايعني هذا الأطلاق في التصورات الباطنية لتشمل العشوائية فتنتج التحديد للذات القدسية والتجسيم . بل مطلقية مايستطيع أن يعبروا الناس عن أرتباطهم بالخالق الواجد كلاً حسب إدراكه وفهمه الوجداني . مادام الإنسان ليس نموذجاً نمطياً يمكن إيقاف قدراته المتنوعة بالإملآت والتوجيهات والمعارف المكتسبة وكأنه غير متفاعل وجدانياً وروحياً مع معالم الوجود اللامحدود . وعليه فالمعرفة غير محدودة أيضاً ولكن ما يؤثر منها بأتفاق العقول يكون نافعاً للجميع .
حدود التفكر :
يقول السيد الخميني في هذا الصدد ( يتضح من مجموع هذه الإخبار أن التفكر في ذات الله ممنوع إذا كان ذلك في مرتبة التفكر في كنه ذات الله وكيفيته ، كما جاء في حديث ((الكافي)) : (( من نظر في الله كيفَ هو هَلك )) أو أن الجميع بين الأخبار الناهية والآمرة يستدعي منع فريق من الناس الذين لاتطيق قلوبهم الاستماع إلى البرهان وليس لهم الاستعداد للدخول في مثل هذه البحوث والدليل على مدى الجمع موجود في الأخبار نفسها )(16) .
فالممنوع ليس حداً جامداً لايتسع إدراك الإنسان في مساحة المسموح من أجل إحياء التفكر ومداومته . وذلك مع مدى فهم الناس للمقدمات لتفكر عميق . مع ممنوعية التفكر في الكيفية والمتى والأين للذات المقدسة . لأنه وجود إلهي منزه عن تلك المحدوديات لأنه هلاك للعبد كما جاء في حديث الكافي . فأين يبدأ وينتهي التفكر في مساحة المسموح هل في الأطر الفلسفية أم في فهم المقدمات وطاقة إدراك العبد وعياً ووجداناً .
( من مراتب التفكر ، التفكر في روائع الصنع واتقانه ودقائق الخلق ، بما يتناسب وقدرة الإنسان من طاقة للتفكر . ونتيجة هذا التفكر هي معرفة المبدء الكامل والصانع الحكيم ، وهذا على العكس من (( برهان الصدّيقين )) إذ أن مبدأ البرهان في ذاك المقام هو الحق تعالى عزَّ أسمه ، ومنه يحصل العلم بالتجليات والمظاهر والآيات ، وأما في هذا المقام فمبدأ البرهان هو (( المخلوقات التي عن طريقها يتم العلم بالمبدأ والصانع )) . وهذا البرهان يكون للعامة من الناس الذين لاحظ لهم من برهان الصدّيقين . ولهذا قد ينكر الكثيرون أن يصبح التفكر في الحق مبدأ العلم به ، وأن يؤدي العلم بالمبدأ إلى العلم بالمخلوق )(17) .
هذا من أساسيات مراتب تفكر الآفاق والتي تعطي كل دلائل المصنوعات والمخلوقات على وحدانية الخالق الصانع تبارك وتعالى . وهذه مساحة تفكرية لعامة الناس وكما مر في البحث ذكره هو ماحث عليه الرسل والقرآن الكريم الإنسان على التفكر في بديع الخلق ، خلق السماوات وما يشاهد فيها وكذلك الأرض وما يشاهد عليها . وهذه المخلوقات تعطينا براهين كاملة على عظمة الواجد الخالق .
والتفكر في الأنفس كما عبر الذكر الحكيم في الآية الكريمة التي ذكرناها سابقاً (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ... )) هو التفكر فيما خلق الله تعالى النفس من العدم وجعل فيها قوى باطنية متعددة تتمتع من خلالها النفس بنعمة الحياة مع الدقة والإنسجام فيما بين تلك القوى وفيما بين النفس والجسم الذي أودعها الله تعالى فيه وعلى سبيل الذكر لا الحصر كل ماهو متعلق بالجسم دقيق وعجيب ومعجز في نمائه وتمام أجزائه وتناسقه بما يلائم كل حجم وشكل وملامح . وكذلك النفس ودقة حواسها ومشاعرها وشهواتها بما فيها العقل وما أنتظمت فيه من طاقات إبداعية ووضائف دقيقة وسريعة الاستجابة والأداء لايعلم حصرها وكيفيتها إلى خالقها سبحانه . وبالأساس صبورة .
هذا الإنسان جسماً ونفساً من الماء المهين وتدرجه في مراحل نمائه الجسمانية الغرائزية من خلال النفس والعقلية الإدراكية من خلال الوعي . كلها آيات تدل وتبرهن تفكراً على عظمة الخالق الواجد والصانع الحكيم سبحانه . هذا التفكر يغور في أعماق هذه الحقائق الوجودية ـ الآفاقية والأنفسية حسب سعة مدارك الإنسان المتفكر دون حدود أو ممانعات أو خشية بما لاينتهي إليه أحد مهما جد وتمعن فإعجاز وإبداع الخلق المطلق لايلم بمعرفته العاجز المخلوق . ولهذا لاينتهي العلم من إيجاد الجديد والمستجد في مجال واحد من مجالات أي من التفكيرين .
( إن في هذا الكون ، وهذه الحياة التي يحياها الإنسان ، ظواهر طبيعية مختلفة : ففي السماء نجوم وكواكب ونيازك ، وفي الجو سحاب ورعد وبرق ومطر . وعلى الأرض جبال وأدغال وأنهار وبحار . وفيها الطيور والسباع والحيتان والبشر ، والجميع في حالة تغير وتبدّل ، ونمو وفناء . ومن بين جميع هذه الموجودات يبرُز الإنسان كموجود متميز ، ذي قوة عاقلة مُفكرة ، يعمل ويكدح ويناضل لأجل البقاء ، ويموت ويولد مثله . وعندما يبدأ الإنسان بوعي ذاته ووجوده . ويجد نفسه واقعاً بين جميع هذه المتغيرات الكونيّة تختلج في باطن نفسه أسئلة تطالبه بإلحاح شديد بالجواب عنها ، بحيث لايمكنه أن يمر عليها بلا أكتراث ، وهي : من أين أتيت ؟ ولماذا أتيت ؟ وإلى أين أذهب ؟ )(18) .
هذه الاسئلة بادئة التفكر لكل إنسان . ومنه بدأت الأفكار والفلسفات شاغلة للإنسان منذ عصوره الاولى مع أن الله سبحانه لم يجعل الإنسان منذ خلقه تائهاً دون هداية وتوعيظ فجعل أبو البشرية آدم نبيّ هادي إلى الله تعالى بادأ بأسرته ومنها إلى أمتداد أنسالهم . مع شواهد الوجود وبراهين الحكمة والوحدانية . ولكن الإنسان ظل عن سبيل الهداية عقب عصوره وأجياله مما أستدعى سيل من الانبياء والرسل فكانت الحجج والمواعظ بما تكفي أمتداد الإنسان كله . والتفكر من تلك الأسئلة أنشق بها البعض فأخذوا إتجاهاً فكرياً منحرفاً لأنهم أتخذوها مقدمات فاسدة وانتهوا إلى فلسفة ونتيجة فاسدة بحكم التوالد . وظهرت من ذلك الوجودية والعبث والتحلل الفكر والاخلاقي لدى المجتمع المادي الغربي . والبعض الآخر كانت تلك الاسئلة مقدمات صائبة وصالحة فتوصلوا إلى فكر ونتيجة صائبة كان مقومها الإيمان واليقين فأصبحت تلك الأسئلة دليلاً عقلياً وبرهاناًَ بالناتج على وجود الله تعالى ووحدانيته وحكمته ويستدل منها على أن الخالق الحكيم لايخلق شيء عبث بل تتنزه إرادته وصفاته وأفعاله عن ذلك . فالسؤال من أين أتيت ؟ يكون جوابه يقيناً من عالم الخلق والمشيئة الإلهية والتي أوجدتني من العدم وهذا الوجود دليلاً على الواجد . والمقتضى الآخر أن العدم بالنسبة إلى إدراكنا هو عدماً ولكن في المشيئة والقدرة الإلهية لاشيء أسمه عدماً أو مجهولاً لذات الله تبارك تعالى . ولانقول لعلمه وكأن الأشياء خارج مشيئة فَعِلمَها بل جعل كل شيء خلقه علماً لنا نستدل به إليه وليس علماً له سبحانه وهو لايحتاج لعلم الاشياء مادام قد أوجد كل شيء من عدمية الاشياء لتكون علماً لذاتها وبدليل الأسم القدسي ((العليم)) و ((قد أحاط بكل شيء علماً)) لا بدليل مقصد طلب العلم وحاجته والعياذ بالله ـ بل أن الاشياء جعلها علماً لخلقه فالإحاطة بعدم نسيان شيء والعياذ بالله في التقدير والتدبير وجوده وزواله نمائه وحركته سكونه واضطرابه فكل الخلق حاضراً في مشيئته وحكمته وتقديره . فهو العليم ببواطن خلقه وحاجاتهم وهذا فوق مقاصد العلم بالشيء . والذي لاعدم أو مستحيل في أرادته محضراً كل شيء موجود أو غير موجود في مشيئته والذي أمره ((كن فيكون)) . مما ينفي إستحالة الأشياء أو عدميتها في مشيئته .
والسؤال : لماذا أتيت . جوابه عين الأثبات لأنّعمَ في الحياة والتي لاعدم بعدها وأعيش الوجود في كنف فيض العطاء والرحمة الإلهية . والسؤال الثالث : إلى أين ذاهب : إلى عالم البقاء والخلود كي تتجلى لي كل الحقائق وأكون شاهداً عليها من نفسي مع ما وجدت في الحياة الدنيا من ثوابت الخلق الدلالات والبراهين والتي تكفيني جواباً وإيماناً لأسألتي كما دعاني وهداني إليها ربي عبر رسله وكتبه وآياته لطفاً بي ورحمة . وقد بين لي الحق ونورني إلى الحقيقة حتى لايكون وجودي هذا وتسائلاتي تلك فيما يحدث من وسوسة شيطانية وشك مقدمات فاسدة تولد في فكري وتفكيري الظلال والعبث والنكران .
فالخلق دليل على الخالق والنظام دليل على الحكمة والتقدير الإلهي مما يلغي العبث والفوضى والموت دليل على العوالم الاخرى ويقيناً بالخلود .
ونعود للعلامة العاملي ( فهو يتساءل في السؤال الأول عن مبدأ الوجود . وجوابه بإثبات الخالق ووحدانيته . ويتساءل في الثاني عن الغاية من خلقه . وجوابه بإثبات حكمة الخالق ، وبعث الرسل بالتكاليف والشرائع . ويتساءل في الثالث عن النهاية التي يؤول إليها بعد موته . وجوابه بإثبات المعّاد والعالم الأخروي )(19) .
التفكير في الأسماء والصفات
الأسماء القدسية والصفات الإلهية ليست هي عين الذات القدسية حصراً في ظاهرها بل دلالات قدسية عليها كي نستطيع أن نخاطب ونذكر الذات المقدسة بواسطتها لابعينها . ولهذا كان أسم (هو) كما مر بنا يقتصر لنا ما صعب علينا ويكون سبيلاً لإعلان عجزنا ويطلب إبقاء كل المقاصد المنفردة التي نريدها في تفكرنا وإذكارنا . ويقول صدر المتألهين في هذا المقصد . ( قال بعض أهل الله : الوجود الحق هو الله خاصّة من حيث ذاته وعينه ، لا من حيث أسمائه ، لأن الأسماء لها مدلولان أحدهما : عينه ، وهو عين المسمّى والآخر : ما يدل عليه مما ينفصل الإسم به عن أسم آخر ويتميّز في العقل ، فقد بان لك بما هو كلّ اسم عين الآخر وبما هو غيره ، فبما هو عينه ، هو الحق . وبما هو غيره ، هو الحق المتخيَّل الذي كنا بصدده ، فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ، ولايثبت كونه إلا بعينه )(20) .
الأسماء القدسية فوق معاني الاسماء المتنوعة ورغم ذلك لا تفي كل عينية الذات المقدسة إلا بما توحي إلينا . أي إنها تسد بكامل عظمة معانيها وخصوصياتها حاجتنا للمخاطبة والذكر للذات القدسية وليست تسر عين الذات. كونها وسيلتنا إلى ذلك لقطع حيرتنا بما أمرنا الله تعالى بدعائه بها . ومثلما لا يمكن إيجاد تصور أو تخيل لكيفية كنة الذات القدسية كذلك لا يمكن إعتبار الأسماء القدسية أدت بكل عظمة خصوص معانيها ودلالاتها عين الذات رغم كل مايقوله الحكماء وأهل العرفان وعلم الكلام . لأن معرفة المخلوق مقتصرة محدودة مهما دقق واتسع بمداركه ووجدانه فيها لفضاً وإيحاء وتقديساً بغية سد ذلك المطلب الشريف لا يستطيع مهما أدعى المعرفة والدقة وغير مطلوب منه إلا بما يدرك وذات الله عزوجل فوق إدراك المخلوق أسماءً وصفاتاً (( يا من لا يكون عليه دليل سوى نفسه )) وما الأسماء الصفات إلى وسائلنا إليه وليس وسيلته إلينا تنزهت ذاته عن حاجة الوسائل والمقاصد . وخير ما أوجز لنا ذلك أمير المؤمنين علي (عليه السلام ) في أحدى خطبه حيث قال :
(( الحمد لله الذي يبلُغ مدحته القائلون . ولايُحص ِ نعماءهُ العادّون . ولا يؤدّي حقَّهُ المجتهدون ، الذي لا يدُركهُ بُعد الهم ولاينالهُ غَوص الفِطن .الذي ليس لصفتهِ حد محدود ولانعت موجود .ولا وقت معدود ولا أجل ممدود . فطر الخلائق بقدرتهِ ونشر الرياح برحمته . ووتَّد بالصخور ميدان أرضيهِ أول الدين معرفته وكمال معرفتهِ التصديق به . وكمال التصديق به توحيدهُ . وكمال توحيدهِ الإخلاصُ لهُ . وكمال الإخلاص لهُ نفي الصّفات عَنهُ لشهادة كل صفةٍ أنها غيُر الموصوفِ وشهادة كل موصوف أنه عيُر الصفةِ . فمن وصف الله سُبحانه فقد قرتَهُ . ومن قرنهُ فقد ثناهُ ومن ثناهُ فقد جزأه . ومن جزأهُ فقد جهلهُ . ومن جهلهُ فقد أشار إليهِ ومن أشار إليه فقد حدهُ . ومن حدهُ فقد عده. ومن قال فيمَ فقد ضمنهُ ... )) (21)
كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام ) هو أعلى معاني المعرفة وأستبطان الاستدلالال في المقصد إيجازاً وبيان . وهو دليل لذوي العقول المدركة وحجة لذوي القلوب النيرة بنور الإيمان والهداية المتوجهة نحو الله عز وجل ولا غير سواه . حتى يغنيها تحصنأ من الشبهات ويفتح لها باب وسائل التفكر والمناجاة بأمان المعرفة الحقة بالاسماء والصفات دونما جعلها حدوداً بمثل ما تستعمل لغير الله بما يبينه لنا ( عليه السلام ) بنقصان الصفة عن الموصوف (( وبشهادة كل موصوف أنه غير الصفة )) . وهذا تنبية لنا من ذلك بل عين لنا سلامة المناجاة والدعاء بتنزيه عين المقصود من معاجز الوسائل إليه ومن محدودية الأسماء والصفات وعجز الوسائل كلها عن صفة من لا يحده شيء إيما هي الوسيلة للمناجاة والدعاء مع التنزيه في إفرار بواطن العبد , فهي مناجاة بلا تحديد .
ونعود لصدد المتألهين وحكمته المتعالية حتى تنهي هذا المبحث . ( ويتخلص أن مسمى لفظ الله هو المنعوت بجميع الأوصاف الكمالية والنعوت الإلهية ، لما تقرر عندهم ، أنه ما من نعتٍ ألا وله ظل ومظهر في العالم ، وثبت أيضاً أن الإشتراك بين معنى كلّ اسم ومظهره ليس بمجرد اللفظ فقط ، حتى تكون الألفاظ العلم والقدرة وغيرهما موضوعة في الخالق لمعنى وفي المخلوق لمعنى آخر , وإلا لم تكن ـ هذه المعاني فينا دلائل وشواهد على تحققها في الباري على وجه أعلى وأشرف ، والمتحقق خلافه ، فبطل كون الإشتراك لفظياً فقط ، بل يكون معنوياً ، ألا ان هذه المعاني تكون هنا في غاية القصور والنقص ، وهناك في غاية العظمة والجلالة ) (22)
يعطينا هذا المقطع من تنزيه الاسماء الإلهية عن مجرد المعاني التي فينا بدليل ما ذكره صدر المتألهين من ألفاظ العالم والقدرة , بلا حدود ما نطلق على غير الله عز وجل من الناس ذو العلم والقدرة المحدودة بما مكنهم الله فيه ولطف بهم . بل تجرد الاسماء الإلهية من المعاني التي موضوعة فينا حتى نستخلصها لمعاني الله المنعوت بجميع الأوصاف الكمالية والنعوت الآلهية كما جاء في المقطع المذكور وهذا المعنى إيضاح دقيق لأزاحة الإشكال والإزدواج لدى ضعيفي الومضة التفكرية والإضائة المعرفية الحقة .
( يتبع في الجزء الثاني )
سعد عطية الساعدي
نشر في مجلة النهج الفصلية العلمية / العدد الخامس / 2008
الجزء الأول
المبحث الأول
المسموح من التفكر
( تفكروا في خلق الله ولاتتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره )(11)
هذا الحديث الشريف حدد لنا المسموح من التفكر حفاظاً علينا من نقص الإدراك والتقدير .
فبسبب قصور تحقيق المعرفة وكذلك خوفاً علينا من الضلال كما ضل بعض فرق المسلمين الذين تصوروا لله عز وجل الجسم والأطراف والعياذ بالله من ذلك والناتج من التأويل الخاطيء للنصوص القرآنية والتفكر الجامح المهدود العنان . في تفكر ذات الله وكيفيتها . فيضعون في تصورهم الوهم في كيفية ذات الله سبحانه الأدوات والوسائل والأشكال بما فيه التجسيم . وسنتناول المسموح على ما بان لنا في التفكر من خلال الحديث الشريف ونترك مانهى عنه الحديث في الفصل القادم ـ أي إننا قسَّمنا ذلك الحديث الشريف الذي تناولناه في مقام التفكر إلى غرضين كانا هدفنا في هذا البحث أصلاً كما هو حال أسم البحث .
( لابد أن تعرف أن قولنا (( التفكر في الذات والأسماء والصفات )) قد يحمل الجاهل على الظن بأن التفكر في ذات الله ممنوع بحسب الروايات دون أن يعلم أن التفكر الممنوع هو التفكر في اكتناه الذات وكيفيتها ، حسب ما يستفاد من الأحاديث الشريفة ، وقد يمنع غير المؤهل ، من النظر في بعض المعارف ذات المقدمات الدقيقة ، وهذان المقامان يتفق بشأنهما الحكماء أيضاً . إلاَّ أن استحالة اكتناه الذات الإلهية مبرهنة في كتبهم ومنع التفكر فيها مسلم به عند الجميع )(12) .
لقد علمنا المقصود بالمسموح في التفكر كما هي الإشارة إلى الممنوع كما هو الحال فيما ذكرناه سابقاً إذاً فالتفكر في الذات والأسماء والصفات فيه تحديد وليس مطلق لكل من أراد أن يتفكر لأن الأطلاق دون المحاذير يوقع في الشبهة والضلال مادام الإنسان قاصراً على إدراك ما لايستطيع . فالذات القدسية وما يتعلق بها من تلك الأسماء القدسية والصفات الإلهية هي فوق إدراك المخلوق القاصر . وسنأخذ بعض آراء العلماء ومقالاتهم إحياءً للفكرة وإغناءً للموضوع .
( اعلم إن نسبة أسم ((هو)) إلى اسم ((الله)) كنسبة الوجود إلى المهيّة في الممكن إلا أن الواجب تعالى لامهيّة له سوى الإنيّة وقد مرّ أنّ مفهوم اسم الله مما له حدّ حقيقي إلا أنّ العقول قاصرة عن الإحاطة بجميع المعاني الداخلة في حدّه لأنه إنّما عرفت صورة حدّه إذا عرفت صور حدود جميع الموجودات . وإذ ليس فليس وأما إسم ((هو)) فلا حدّ له ولا إشارة إليه ، فيكون أجل مقاماً وأعلى مرتبة ، ولهذا يختص بمداومة هذا الذكر الشريف الكمل الواصلون .)(13) .
الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين في هذا المقطع يبين لنا أسم ((هو)) بدلالته المطلقة وبخصوص الذات القدسية المطلقة ونسب ذلك المقام في مداومة ذكر الكمّل الواصلون في تفكيرهم وسلوك عبوديتهم وعبادتهم . وعندما نكمل مقالة صدر المتألهين نلمس خصوصية هذا الإسم الإلهي العظيم لما له من إنفرادية جامعة إطلاق المعاني عن التحديد والغاية في طلب العبد عند المناجاة في بعض الاسماء .
بما يعني إن باقي الأسماء تدل على دلالة إلهية كـ (( الرزاق )) و (( العفو )) فعندما ينادي بها العبد فقد رجا فيها من الله تبارك وتعالى مايرجوه لنفسه فيها من الرزق والعفو عن الذنوب ولكن ((هو)) جمع كل هذه الأسماء وقصد به الذات القدسية بمطلقية الدلالة والمعنى بما لاحدود مطلبية عينية للعبد بل نداء العاجز القاصر للكل المطلق . وعندما يحتار العبد أزاء ذلك في تفكره فإن لجوئه لأسم ((هو)) هو المعبر المنقذ وقد خاطب بكل الأسماء والصفات القدسية به حتماً لأن قصد الذات تكفي باقي الأسماء والصفات .
( والنكتة فيه ) أنّ العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته ، لم يكن مستغرقاً في معرفة الله ، لأنه إذا قال (( يارحمن )) فحينئذ يتذكّر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها ، فيكون طالباً لحظّه . وكذا إذا قال: ياكريم يامحسن ياغفّار ياوهاب يامنتقم . وإذا قال : ياملك ، فحينئذ يتذكر ملكه وملكوته ومافيه من أقسام النعم ولطائف القيَم ، فيميل طبعُه إليها ويطلب شيئاً منها ، وقس عليه سائر الأسماء )(14) .
الحكمة المتعالية في فلسفة الملاصدرا تقتصر لنا السبل في التفكير وتعطينا الدلالات الأكثر إبقاءً للطلب عبر أحساس التوجه الباطني الدقيق إلى الذات القدسية المطلقة وفي المقطع الآتي يعطينا الملاصدرا هذا المعنى إختصاراً لكل المطالب التفكرية للعبد المتوجه إلى الله عز وجل .
( كأنه يقول : حضرتُك أجلّ من أن أمدحكَ بشيء غيرك ، فلا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي، ولا أخاطبك بلفظ أنتَ ، لأنّه يفيد الفخر والكِبر ، حيث تقول الروح : إنّي قد بلغت مبلغاً صرتُ كالحاضر في حضرة واجب الوجود ولكنّي لا أزيد على قولي : هو ، ليكون إقراراً بأنّه هو الممدوح لذاته في ذاته ، وإقراراً بأن حضرته أعلى وأجلّ من أن يناسبه حضور المخلوقات ، ولو فرض عند حضرته حضور عبدٍ أو ملك مقرّب أو نبيّ مرسَل ، فحيث يمتنع له الإحاطة والإكتناه به تعالى إذ بقدر قوّة وجوده يشاهد ذاته تعالى ، وذاته في شدة النوريّة فوق مالايتناهى بما لايتناهى، فما غاب عنه من ذاته أكثر بما لايتناهى مّما هو مشهودٌ له . فهو سبحانه غائب بحقيقته التامّة البسيطة عن الكل ، مع فرض شهودها إيّاه ، فلماذا يكون هذا الذكر أشرف الأذكار ، لاحتوائه على هذه الأسرار لكن بشرط التنبّه لها )(15) .
ولكن لايمكن لجميع الناس أيكونوا على مستوى واحد من التفكير رغم أن الفطرة الإنسانية فطرة توحيدية تثير معاني الحاجة الى فيض رحمة الخالق وتأكيد حاجة عبودية العبد إلى عبادته . ونحن نستفيد عند الإطلاع على تلك المعاني العالية من أجل حصر تفكرنا بالأسم الإلهي الجامع للمعاني القدسية كلها لأنه مخصوص الهوية القدسية كي تتوجه بقوة التفكر نحو الذات بمدلول العجز عن الإحاطة بتلك الأسماء بل جمعها بدلالة معنى ومطلقية الذات القدسية بأسم ((هو)) بمعنى (( يامن لاهو إلا هو )) فيكون شفيعنا تفكرنا في ذلك . وهذا لايعني توقفنا عن التفكر في باقي الأسماء والصفات الإلهية القدسية والذكر بها . وعين ذلك بما ذكرها لنا الله عز وجل في محكم كتابه إنها في مطلب واحد أدلنا سبحانه عليه وهدانا إليه هو إغناء الحاح حاجة العبد المحتاج بالضرورة التكوينية والوجودية باطنها وظاهرها في كل شيء للمطلق الخالق لكل شيء والمنعم كل شيء على كل شيء لا أحد سواه . بل كل سواه لايحتاج لغير سواه لأنه ((هو)) لا أحد سواه .
عجز العبد وعدمية إستطاعته على الاستغناء عن سيده ومولاه فيض الرحمة والخلق والعطاء يجعله دائماً لاجئاً إليه في كل تلك الحاجيات الأساسية الوجودية والعامة الضرورية في متطلبات ديمومة ذلك الوجود من خلال الحياة . وكذلك من تلك الحاجيات المقلقة حاجة العبد المقلوق للإطمئنان الحقيقي وذلك لايتحقق إلا بالجوء إلى الله ذكراً وتفكيراً (( إلا بذكر الله تطمئن القلوب)).
والتفكر هو عين تلمس وتمعن العبد في طلب أصل حاجياته اللامنتهية لا بغرض الفتات الدنيوي بل في عين قبول التوسل والتوجه والهداية فهي أصل كل الحاجيات ومطلب كل الغايات إن كان علمها العبد أم جهلها . ومثلما هذه الحاجيات وإلحاحها ملازمة للعبد كذلك التفكر طالما يوصل العبد إلى كل حاجياته من خلال التفكر والذكر لكل الأسماء والصفات الإلهية القدسية بحدود وإدراك العبد ومدى تعلقه بسيده ومولاه وكفيلة الفطرة بذلك طالما فطر الله تعالى الإنسان على التوحيد دون تلوث المحيط الخارجي إن وجد أثره إلى باطن العبد سبيلاً . وتلازم حاجيات العبد تفكره لأنهما متلازمان من أجل تحقيق طموح عبودية العبد نحو فيض الرحمة والهداية والإطمئنان الحقيقي الدائم عبر مراحل العوالم والخلود . ولهذا نحن لانجد ضرورة لدعوى فرض تأطير التفكر العام في تلك الأطر الفلسفية والتي قد لايدركها العوام على مافيها من معاني ودلالات دقيقة تصب في اتجاه فهم عالي من التركيز رغم مافيه من تشعب يفيض على سعة إدراك العامة من الناس ورغم ما فيه من التنبيه والتوسع .
والعلة في ذلك كأننا نعطل أو نلغي عامة التفكر على مافيه من سعة وتوفر لدى عامة مستويات الناس لأنه ليس أبتكاراً فلسفياًَ بل إرتباط فطري . وبما أن الفطرة والوجدان كفيلان في إيجاد مساحة واسعة لتفكر العبد لفيض الربوبية المطلقة وعمق الارتباط وجدانياً أجدى من إقحام آراء الآخرين .
وتحديد تفكر العبد لايعني في الحكمة إغلاق منافذ إدراكه بل إغنائه بالمعرفة والدقة حتى يكون العبد متنقي في تفكره عارفاً من خلال التركيز كيف يتفكر ويذكر .
لقد اشرنا هنا إلى الفائدة المعرفية في التركيز الفلسفي الخاص في التفكر في حدود جمع تفكر الإنسان بأتجاه واضح ودقيق نحو الله تبارك ( تعالى ) مع مطلقية التفكر كمتسع لكل الناس ومن خلال طاقاتهم وإدراكهم ، ولايعني هذا الأطلاق في التصورات الباطنية لتشمل العشوائية فتنتج التحديد للذات القدسية والتجسيم . بل مطلقية مايستطيع أن يعبروا الناس عن أرتباطهم بالخالق الواجد كلاً حسب إدراكه وفهمه الوجداني . مادام الإنسان ليس نموذجاً نمطياً يمكن إيقاف قدراته المتنوعة بالإملآت والتوجيهات والمعارف المكتسبة وكأنه غير متفاعل وجدانياً وروحياً مع معالم الوجود اللامحدود . وعليه فالمعرفة غير محدودة أيضاً ولكن ما يؤثر منها بأتفاق العقول يكون نافعاً للجميع .
حدود التفكر :
يقول السيد الخميني في هذا الصدد ( يتضح من مجموع هذه الإخبار أن التفكر في ذات الله ممنوع إذا كان ذلك في مرتبة التفكر في كنه ذات الله وكيفيته ، كما جاء في حديث ((الكافي)) : (( من نظر في الله كيفَ هو هَلك )) أو أن الجميع بين الأخبار الناهية والآمرة يستدعي منع فريق من الناس الذين لاتطيق قلوبهم الاستماع إلى البرهان وليس لهم الاستعداد للدخول في مثل هذه البحوث والدليل على مدى الجمع موجود في الأخبار نفسها )(16) .
فالممنوع ليس حداً جامداً لايتسع إدراك الإنسان في مساحة المسموح من أجل إحياء التفكر ومداومته . وذلك مع مدى فهم الناس للمقدمات لتفكر عميق . مع ممنوعية التفكر في الكيفية والمتى والأين للذات المقدسة . لأنه وجود إلهي منزه عن تلك المحدوديات لأنه هلاك للعبد كما جاء في حديث الكافي . فأين يبدأ وينتهي التفكر في مساحة المسموح هل في الأطر الفلسفية أم في فهم المقدمات وطاقة إدراك العبد وعياً ووجداناً .
( من مراتب التفكر ، التفكر في روائع الصنع واتقانه ودقائق الخلق ، بما يتناسب وقدرة الإنسان من طاقة للتفكر . ونتيجة هذا التفكر هي معرفة المبدء الكامل والصانع الحكيم ، وهذا على العكس من (( برهان الصدّيقين )) إذ أن مبدأ البرهان في ذاك المقام هو الحق تعالى عزَّ أسمه ، ومنه يحصل العلم بالتجليات والمظاهر والآيات ، وأما في هذا المقام فمبدأ البرهان هو (( المخلوقات التي عن طريقها يتم العلم بالمبدأ والصانع )) . وهذا البرهان يكون للعامة من الناس الذين لاحظ لهم من برهان الصدّيقين . ولهذا قد ينكر الكثيرون أن يصبح التفكر في الحق مبدأ العلم به ، وأن يؤدي العلم بالمبدأ إلى العلم بالمخلوق )(17) .
هذا من أساسيات مراتب تفكر الآفاق والتي تعطي كل دلائل المصنوعات والمخلوقات على وحدانية الخالق الصانع تبارك وتعالى . وهذه مساحة تفكرية لعامة الناس وكما مر في البحث ذكره هو ماحث عليه الرسل والقرآن الكريم الإنسان على التفكر في بديع الخلق ، خلق السماوات وما يشاهد فيها وكذلك الأرض وما يشاهد عليها . وهذه المخلوقات تعطينا براهين كاملة على عظمة الواجد الخالق .
والتفكر في الأنفس كما عبر الذكر الحكيم في الآية الكريمة التي ذكرناها سابقاً (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ... )) هو التفكر فيما خلق الله تعالى النفس من العدم وجعل فيها قوى باطنية متعددة تتمتع من خلالها النفس بنعمة الحياة مع الدقة والإنسجام فيما بين تلك القوى وفيما بين النفس والجسم الذي أودعها الله تعالى فيه وعلى سبيل الذكر لا الحصر كل ماهو متعلق بالجسم دقيق وعجيب ومعجز في نمائه وتمام أجزائه وتناسقه بما يلائم كل حجم وشكل وملامح . وكذلك النفس ودقة حواسها ومشاعرها وشهواتها بما فيها العقل وما أنتظمت فيه من طاقات إبداعية ووضائف دقيقة وسريعة الاستجابة والأداء لايعلم حصرها وكيفيتها إلى خالقها سبحانه . وبالأساس صبورة .
هذا الإنسان جسماً ونفساً من الماء المهين وتدرجه في مراحل نمائه الجسمانية الغرائزية من خلال النفس والعقلية الإدراكية من خلال الوعي . كلها آيات تدل وتبرهن تفكراً على عظمة الخالق الواجد والصانع الحكيم سبحانه . هذا التفكر يغور في أعماق هذه الحقائق الوجودية ـ الآفاقية والأنفسية حسب سعة مدارك الإنسان المتفكر دون حدود أو ممانعات أو خشية بما لاينتهي إليه أحد مهما جد وتمعن فإعجاز وإبداع الخلق المطلق لايلم بمعرفته العاجز المخلوق . ولهذا لاينتهي العلم من إيجاد الجديد والمستجد في مجال واحد من مجالات أي من التفكيرين .
( إن في هذا الكون ، وهذه الحياة التي يحياها الإنسان ، ظواهر طبيعية مختلفة : ففي السماء نجوم وكواكب ونيازك ، وفي الجو سحاب ورعد وبرق ومطر . وعلى الأرض جبال وأدغال وأنهار وبحار . وفيها الطيور والسباع والحيتان والبشر ، والجميع في حالة تغير وتبدّل ، ونمو وفناء . ومن بين جميع هذه الموجودات يبرُز الإنسان كموجود متميز ، ذي قوة عاقلة مُفكرة ، يعمل ويكدح ويناضل لأجل البقاء ، ويموت ويولد مثله . وعندما يبدأ الإنسان بوعي ذاته ووجوده . ويجد نفسه واقعاً بين جميع هذه المتغيرات الكونيّة تختلج في باطن نفسه أسئلة تطالبه بإلحاح شديد بالجواب عنها ، بحيث لايمكنه أن يمر عليها بلا أكتراث ، وهي : من أين أتيت ؟ ولماذا أتيت ؟ وإلى أين أذهب ؟ )(18) .
هذه الاسئلة بادئة التفكر لكل إنسان . ومنه بدأت الأفكار والفلسفات شاغلة للإنسان منذ عصوره الاولى مع أن الله سبحانه لم يجعل الإنسان منذ خلقه تائهاً دون هداية وتوعيظ فجعل أبو البشرية آدم نبيّ هادي إلى الله تعالى بادأ بأسرته ومنها إلى أمتداد أنسالهم . مع شواهد الوجود وبراهين الحكمة والوحدانية . ولكن الإنسان ظل عن سبيل الهداية عقب عصوره وأجياله مما أستدعى سيل من الانبياء والرسل فكانت الحجج والمواعظ بما تكفي أمتداد الإنسان كله . والتفكر من تلك الأسئلة أنشق بها البعض فأخذوا إتجاهاً فكرياً منحرفاً لأنهم أتخذوها مقدمات فاسدة وانتهوا إلى فلسفة ونتيجة فاسدة بحكم التوالد . وظهرت من ذلك الوجودية والعبث والتحلل الفكر والاخلاقي لدى المجتمع المادي الغربي . والبعض الآخر كانت تلك الاسئلة مقدمات صائبة وصالحة فتوصلوا إلى فكر ونتيجة صائبة كان مقومها الإيمان واليقين فأصبحت تلك الأسئلة دليلاً عقلياً وبرهاناًَ بالناتج على وجود الله تعالى ووحدانيته وحكمته ويستدل منها على أن الخالق الحكيم لايخلق شيء عبث بل تتنزه إرادته وصفاته وأفعاله عن ذلك . فالسؤال من أين أتيت ؟ يكون جوابه يقيناً من عالم الخلق والمشيئة الإلهية والتي أوجدتني من العدم وهذا الوجود دليلاً على الواجد . والمقتضى الآخر أن العدم بالنسبة إلى إدراكنا هو عدماً ولكن في المشيئة والقدرة الإلهية لاشيء أسمه عدماً أو مجهولاً لذات الله تبارك تعالى . ولانقول لعلمه وكأن الأشياء خارج مشيئة فَعِلمَها بل جعل كل شيء خلقه علماً لنا نستدل به إليه وليس علماً له سبحانه وهو لايحتاج لعلم الاشياء مادام قد أوجد كل شيء من عدمية الاشياء لتكون علماً لذاتها وبدليل الأسم القدسي ((العليم)) و ((قد أحاط بكل شيء علماً)) لا بدليل مقصد طلب العلم وحاجته والعياذ بالله ـ بل أن الاشياء جعلها علماً لخلقه فالإحاطة بعدم نسيان شيء والعياذ بالله في التقدير والتدبير وجوده وزواله نمائه وحركته سكونه واضطرابه فكل الخلق حاضراً في مشيئته وحكمته وتقديره . فهو العليم ببواطن خلقه وحاجاتهم وهذا فوق مقاصد العلم بالشيء . والذي لاعدم أو مستحيل في أرادته محضراً كل شيء موجود أو غير موجود في مشيئته والذي أمره ((كن فيكون)) . مما ينفي إستحالة الأشياء أو عدميتها في مشيئته .
والسؤال : لماذا أتيت . جوابه عين الأثبات لأنّعمَ في الحياة والتي لاعدم بعدها وأعيش الوجود في كنف فيض العطاء والرحمة الإلهية . والسؤال الثالث : إلى أين ذاهب : إلى عالم البقاء والخلود كي تتجلى لي كل الحقائق وأكون شاهداً عليها من نفسي مع ما وجدت في الحياة الدنيا من ثوابت الخلق الدلالات والبراهين والتي تكفيني جواباً وإيماناً لأسألتي كما دعاني وهداني إليها ربي عبر رسله وكتبه وآياته لطفاً بي ورحمة . وقد بين لي الحق ونورني إلى الحقيقة حتى لايكون وجودي هذا وتسائلاتي تلك فيما يحدث من وسوسة شيطانية وشك مقدمات فاسدة تولد في فكري وتفكيري الظلال والعبث والنكران .
فالخلق دليل على الخالق والنظام دليل على الحكمة والتقدير الإلهي مما يلغي العبث والفوضى والموت دليل على العوالم الاخرى ويقيناً بالخلود .
ونعود للعلامة العاملي ( فهو يتساءل في السؤال الأول عن مبدأ الوجود . وجوابه بإثبات الخالق ووحدانيته . ويتساءل في الثاني عن الغاية من خلقه . وجوابه بإثبات حكمة الخالق ، وبعث الرسل بالتكاليف والشرائع . ويتساءل في الثالث عن النهاية التي يؤول إليها بعد موته . وجوابه بإثبات المعّاد والعالم الأخروي )(19) .
التفكير في الأسماء والصفات
الأسماء القدسية والصفات الإلهية ليست هي عين الذات القدسية حصراً في ظاهرها بل دلالات قدسية عليها كي نستطيع أن نخاطب ونذكر الذات المقدسة بواسطتها لابعينها . ولهذا كان أسم (هو) كما مر بنا يقتصر لنا ما صعب علينا ويكون سبيلاً لإعلان عجزنا ويطلب إبقاء كل المقاصد المنفردة التي نريدها في تفكرنا وإذكارنا . ويقول صدر المتألهين في هذا المقصد . ( قال بعض أهل الله : الوجود الحق هو الله خاصّة من حيث ذاته وعينه ، لا من حيث أسمائه ، لأن الأسماء لها مدلولان أحدهما : عينه ، وهو عين المسمّى والآخر : ما يدل عليه مما ينفصل الإسم به عن أسم آخر ويتميّز في العقل ، فقد بان لك بما هو كلّ اسم عين الآخر وبما هو غيره ، فبما هو عينه ، هو الحق . وبما هو غيره ، هو الحق المتخيَّل الذي كنا بصدده ، فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ، ولايثبت كونه إلا بعينه )(20) .
الأسماء القدسية فوق معاني الاسماء المتنوعة ورغم ذلك لا تفي كل عينية الذات المقدسة إلا بما توحي إلينا . أي إنها تسد بكامل عظمة معانيها وخصوصياتها حاجتنا للمخاطبة والذكر للذات القدسية وليست تسر عين الذات. كونها وسيلتنا إلى ذلك لقطع حيرتنا بما أمرنا الله تعالى بدعائه بها . ومثلما لا يمكن إيجاد تصور أو تخيل لكيفية كنة الذات القدسية كذلك لا يمكن إعتبار الأسماء القدسية أدت بكل عظمة خصوص معانيها ودلالاتها عين الذات رغم كل مايقوله الحكماء وأهل العرفان وعلم الكلام . لأن معرفة المخلوق مقتصرة محدودة مهما دقق واتسع بمداركه ووجدانه فيها لفضاً وإيحاء وتقديساً بغية سد ذلك المطلب الشريف لا يستطيع مهما أدعى المعرفة والدقة وغير مطلوب منه إلا بما يدرك وذات الله عزوجل فوق إدراك المخلوق أسماءً وصفاتاً (( يا من لا يكون عليه دليل سوى نفسه )) وما الأسماء الصفات إلى وسائلنا إليه وليس وسيلته إلينا تنزهت ذاته عن حاجة الوسائل والمقاصد . وخير ما أوجز لنا ذلك أمير المؤمنين علي (عليه السلام ) في أحدى خطبه حيث قال :
(( الحمد لله الذي يبلُغ مدحته القائلون . ولايُحص ِ نعماءهُ العادّون . ولا يؤدّي حقَّهُ المجتهدون ، الذي لا يدُركهُ بُعد الهم ولاينالهُ غَوص الفِطن .الذي ليس لصفتهِ حد محدود ولانعت موجود .ولا وقت معدود ولا أجل ممدود . فطر الخلائق بقدرتهِ ونشر الرياح برحمته . ووتَّد بالصخور ميدان أرضيهِ أول الدين معرفته وكمال معرفتهِ التصديق به . وكمال التصديق به توحيدهُ . وكمال توحيدهِ الإخلاصُ لهُ . وكمال الإخلاص لهُ نفي الصّفات عَنهُ لشهادة كل صفةٍ أنها غيُر الموصوفِ وشهادة كل موصوف أنه عيُر الصفةِ . فمن وصف الله سُبحانه فقد قرتَهُ . ومن قرنهُ فقد ثناهُ ومن ثناهُ فقد جزأه . ومن جزأهُ فقد جهلهُ . ومن جهلهُ فقد أشار إليهِ ومن أشار إليه فقد حدهُ . ومن حدهُ فقد عده. ومن قال فيمَ فقد ضمنهُ ... )) (21)
كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام ) هو أعلى معاني المعرفة وأستبطان الاستدلالال في المقصد إيجازاً وبيان . وهو دليل لذوي العقول المدركة وحجة لذوي القلوب النيرة بنور الإيمان والهداية المتوجهة نحو الله عز وجل ولا غير سواه . حتى يغنيها تحصنأ من الشبهات ويفتح لها باب وسائل التفكر والمناجاة بأمان المعرفة الحقة بالاسماء والصفات دونما جعلها حدوداً بمثل ما تستعمل لغير الله بما يبينه لنا ( عليه السلام ) بنقصان الصفة عن الموصوف (( وبشهادة كل موصوف أنه غير الصفة )) . وهذا تنبية لنا من ذلك بل عين لنا سلامة المناجاة والدعاء بتنزيه عين المقصود من معاجز الوسائل إليه ومن محدودية الأسماء والصفات وعجز الوسائل كلها عن صفة من لا يحده شيء إيما هي الوسيلة للمناجاة والدعاء مع التنزيه في إفرار بواطن العبد , فهي مناجاة بلا تحديد .
ونعود لصدد المتألهين وحكمته المتعالية حتى تنهي هذا المبحث . ( ويتخلص أن مسمى لفظ الله هو المنعوت بجميع الأوصاف الكمالية والنعوت الإلهية ، لما تقرر عندهم ، أنه ما من نعتٍ ألا وله ظل ومظهر في العالم ، وثبت أيضاً أن الإشتراك بين معنى كلّ اسم ومظهره ليس بمجرد اللفظ فقط ، حتى تكون الألفاظ العلم والقدرة وغيرهما موضوعة في الخالق لمعنى وفي المخلوق لمعنى آخر , وإلا لم تكن ـ هذه المعاني فينا دلائل وشواهد على تحققها في الباري على وجه أعلى وأشرف ، والمتحقق خلافه ، فبطل كون الإشتراك لفظياً فقط ، بل يكون معنوياً ، ألا ان هذه المعاني تكون هنا في غاية القصور والنقص ، وهناك في غاية العظمة والجلالة ) (22)
يعطينا هذا المقطع من تنزيه الاسماء الإلهية عن مجرد المعاني التي فينا بدليل ما ذكره صدر المتألهين من ألفاظ العالم والقدرة , بلا حدود ما نطلق على غير الله عز وجل من الناس ذو العلم والقدرة المحدودة بما مكنهم الله فيه ولطف بهم . بل تجرد الاسماء الإلهية من المعاني التي موضوعة فينا حتى نستخلصها لمعاني الله المنعوت بجميع الأوصاف الكمالية والنعوت الآلهية كما جاء في المقطع المذكور وهذا المعنى إيضاح دقيق لأزاحة الإشكال والإزدواج لدى ضعيفي الومضة التفكرية والإضائة المعرفية الحقة .
( يتبع في الجزء الثاني )