تويت
إن مقولة الاديب الفرنسي ( بيفون ) بأن : ( الرجل هو الاسلوب ) قد تكون كفيلة بالتعريف بـ ( علي حسين الخباز ) من خلال اسلوبه الكتابي ، غير ان الاسلوب الشعري يختلف هو الاخر عن الاساليب الاخرى ، كونه يقضي بمقدرة الشاعر على الربط بين مفردات النص ومفاهيمه من اجل تكوين كيان واحد في اطار قصيدة واحدة ، و تعد اللغة الشعرية منطاد الشاعر في التحليق والسمو ، وان كان اختيار المفردة هو ريش القوادم لجناحي الشاعر ، لكنه الفنان حتما في تسويق المفردة وفق خلجات ذاته وانثيالات بوحه ، وعندما يكون المعنى ثابتا في الرؤية الاعتيادية لبناء المفردة لكن الشاعر يجد في ذلك خلاف النظرة السائدة ، اذ كونه يكتشف في دنيا المفردة العديد من المعاني وهو ما يجلعه قادرا على توظيفها ضمن اطارات مختلفة لصور مختلفة ضمن ثيمة واحدة في نص واحد ، وللمفردة الشعرية خصوصيتها في الاستخدام سوى مقدرة الشاعر على اللعب بها لتحقيق حضور الشعرية عن طريق الانزياحات اللغوية والاستعارات والصور لاجل انتاج بناء شعري متميز ..
وتعد لغة الاشارة قديمة جدا ولكن الحاجة اليها ولا سيما في عالم الصم جعل الكثير من الباحثين يهتمون بتصنيف الاشارات في قواميس خاصة ، ولعل " دولابي " او من وضع قاموسا خاصا بتلك الاشارات ، ثم عزز هذه المدرسة " غالدويه " ببعض تصنيفاته التي اعتمدها في مدرسة الصم التي ادارها . .
ووفق هذه النظرة للاصابع وما تجيده من ابتكارات استغل علي حسين الخباز لغتها الشاملة في اقتناص صوره الشعرية ، وان كانت الاصابع تشير باتجاه حسي وملموس كسياق عام ، غير انها في الشعر تختلف باشاراتها تبعا لمراد الشاعر ..فهو لديه اصابع في نصه " اصابع " وهو يشير بقلبه الى مساحات فذة ضمن اختلاجات ذاته الشعرية مبتدئا بسقوط الحلم من بين الاصابع
ما بين أصابعي
خلسة حلم موحش
وعطش ... يشرب حيرة الفرات
لا اعتقد ان يستقر الماء بين اصابع منفرجة عن بعضها ، كانت تلك صورة الحلم الموحش ، وحين تسمح الاصابع بخروج الماء من خلال بواباتها يأتي بطريقين اما خيانة الحلم رغبة في الماء ، او يكون وفاء يواكب القلب ، تلك هي الصورة التي ابدع فيها علي حسين الخباز في تجسيد شخصية ( سيدنا العباس علية السلام ) الصورة التي حيرت الفرات ذاته ، في ان تشارك الاصابع تخلل الماء من خلالها لهفة العطش وتيبس الفؤاد .. في ترويض بعبارة " يانفس بعد الحسين هوني "
كانت اللقطة الافتراضية الاولى في النص لتجسيد لغة الاصابع ، والتي ستتبعها حتما لغات اخرى ولكنه - الشاعر - ابتدأ في تلك الصورة ليؤشر حالة للتاريخ قبل ان تكون حالة شعرية ..
وحينما تكون المفردة ذات شعرية لابد لها من جرس وايقاع ، وان تتضمن دلالة او رمز ولها صدى انفعالي او توحي عن ترادف او تضاد او خيال ، وللاصابع في نص علي حسين الخباز تكرار غير مملول ، لانه جاء بهتافات حسية تحمل صور شتى ، ووردت هذه المفردة بصيغة الجمع او المفرد ثماني عشرة مرة ، كل منها كان يشير الى غاية معينة ويعبر عن حالة مقصودة .
وان كان قد اوحى باشارة النصر والانتكاسة العسكرية المقرونة بالتهريج البشري المعتاد لكنها هنا ارتكزت كإشارة براقة لمقاومة الوجع وعدم الانجراف لكتمان الحق في اصابع مستوردة لا تقدر ان تشير ، ثم يشخصها - الاصابع - باطار كائن فاني ( وتروح الاصابع وتجيء الاصابع ) كناية عن مرور الزمن وتوارد الايام ، ورغم ذلك تتحجر بعضها في علامات استفهام تبحث عن اجابات تحملها اياد ٍ نسيتها الايام .
ويسترسل النص بارادة شاعره ، وهو يجمع مزيدا من اصابع في إناء عطاءه ، حتى يصف التناسل البشري للآجيال الجائعة بطلوع اصابع في اصابع ، تتوالى تحمل ذات الهم وتلك مأساة ، ضمن اطار مقارنة عملها في الاستجداء بطرقها الابواب او انها تتزكى بخواتمها وهو الوصول الى قمة الثيمة الشعرية في اشارة الى ( علي بن ابي طالب ع ) .. بينما هناك اصابع منشغلة في البحث عن المعاني تبرز اخرى تستغل الانشغال لتفقأ العيون ، وهكذا تجيء معاناة البشرية مما تجنيه الاصابع ، اللهاث ، والاسى ، والجوع ، يقابلها في الجانب الاخر أصابع ترتدي الخواتم زينة وغرورا وتفردا بالحضوة .. ثم يختتم الشاعر نصه بأبشع جناية ارتكبتها الاصابع حين يقول :
ايتها الاصابع الغا درة
أبعدي عن الرضيع
قوسك ونبلك الوضيع
لقد كان الشاعر موفقا في توظيف مفردة الاصابع لتصبح عنوان ( نصه ) من خلال تكرار هيكلها وتعدد معانيها ، وان حملت بصفتها تكوين الاصبع البشري ، لكنها احتملت عدة توظيفات بنائية ارتكزت على عدة معاني جلية ، جميعها تصب في مجرى المقارنة والتمييز بين الاصابع السامية وتلك التي اكلها التراب ..
عدنان النجم