إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

آيات الصبر رجاء محمد بيطار

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • آيات الصبر رجاء محمد بيطار


    لم تكن السماء يومًا أكثر اكفهرارًا منها في ذلك اليوم. ولم تسطع الشمس بنورٍ أكثر صفرةً، ولا بدفءٍ أكثر قرّا، حتى النسيم الصحراوي الرقراق الذي ما برح يلامس وجهها الطفوليّ المفعم نضرة، لم يكن يومًا أكثر صمتًا وحسرة، ينفذ إلى عمق النظرة البريئة فيوسعها دمعًا، ويبلغ سويداء القلب الملكوتيّ فيحرّكه روعاً.
    وهي، فاطمة الزهراء الزكية، بنت محمد الصادق الأمين وخديجة الطاهرة النقيّة، بضعته المصطفاة ووحيدته المجتباة، خير الناس أصلًا وفرعا، لم تكد تبلغ من السنوات أربعاً، حتى عرفت ظلم الأهل والعشيرة وتهافت الناس على الدنيا وانفضاضهم عن أهل الآخرة، وأدركت أن الحق أطهر من أن تلامسه قلوب أهل الرجس، ولذا فهو يحلّق في النفوس المطهّرة بالتوحيد المغمّسة برحيق الإيمان، ويحملها إلى عليين، حتى وإن كانت لا تزال تعيش على أديم الأرض بين بني الإنسان.
    ولكن، أنى للحزن أن يمسّ تلك النفس، وهي محوطةٌ برعاية الرحمن قد كلأتها عين الرب منذ ولادتها، وحفظتها من كل سوء ودنس، ومن شر الجنّ والإنس؟!
    حتى سنوات القهر والحرمان التي حفرت عميقًا في وجدان أهل الحق، وشعب أبي طالبٍ تحتضن صلاتهم وصيامهم، وتربّت على همومهم وآلامهم، لم تكن قادرةً على محو تلك البسمة المشرقة التي طالما أضاءت محياها الأزهر، وكشفت الكرب عن وجه الرسول الأطهر، وقد تبدّت له رحمة الباري به، إذ أعطاه الكوثر، ولم يذره فردًا وهو خير الوارثين، ولم يشأ أن ينعته الشامتون بالأبتر..!
    إذن، أي حدثٍ هذا الذي أشحب شمعتها وأسكب دمعتها، وبدّد بسمتها، وأطلق زفرتها وحسرتها، وهي بعد برعمٌ غضٌّ لم يكد يتفتّح حتى قطفت يد الهم والغمّ وردتها؟!
    بل هو اليتم، مزدوجًا أتاها، عاصفًا قد لبّاها، فأدركت أن مصيرها في الكون يشابه أباها، فاليتم في الصغر شيمة من أراده الباري له خالصًا، لا يتعلّق إلا بحبال عشقه، ولا يلتجئ إلا لكهف شوقه، فواهًا ليتيمة محمدٍ من بلواها..!
    بلى، لقد كان يتمها مزدوجًا، لا لأنها فقدت والدها ووالدتها معًا، فأبوها النبي الخاتم لم يزل يظلّل على دوحتها الطريّة، ويمخر بسفينة النجاة عباب الحياة ليحمل الرحمة إلى كل البرية، وقد حباه الخالق بأبوّة سخية، ليس في الكون ما يضاهيها سخاءً وعطاء، ولكنه كافل والدها، وشيخ البطحاء، ومانع النبي في السرّاء والضرّاء، ونصيره إذا ما اشتدّ البلاء، قد قبضه الله إليه قبضًا رفيقا، فغدا والدها بعده بلا ناصرٍ ولا معين، سوى الله رب العالمين.
    ولم تكد عبرته عليه تجفّ، حتى تخطّف الموت صفيته وحليلته، وحبيبته ونصيرته، زوجته التي رزقه الله حبها، فاجتمعت المصائب عليه، وزادت وطأة الحزن لديه، ولكن طفلته المصطفاة كانت هي الأدنى إليه، فأقبلت تمسح دمعه الهاطل، وتواسي قلبه الثاكل، وتذرف يتمها فوق يتمه، وتتلو عليه آيات الصبر المستتمة، فإذا الكوثر هو ينبوع محبته، وإذا بضعته هي تفاحة جنته، وكأني بها وهي أم أبيها، تجلس في حجره، وتأنس بشمّةٍ من نحره، تعوّضها عن فقدها لعمّها وأمها، فتزهر الأنوار في طلّتها وطلّته، ويرجّع قلبها وجيب قلبه، وتهمس نبرتها بصدى نبرته، وتردّد على مسامعه القدسية بهينماتٍ ملكوتية، آيات الذكر الحكيم الذي أنزله جبريل الأمين عليه من ربه، تذكّره بنعمته:
    «ألم يجدك يتيمًا فآوى، ووجدك ضالًّا فهدى، ووجدك عائلًا فأغنى، فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدّث».​
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X