المكان: مكة أم القرى
الزمان: الأول من شوال سنة ستين للهجرة
اليوم عيد !...
كذا انتشر في جوار الحرم، وانصرف الناس يعايد بعضهم بعضاً...، وازدحم مجلس والدي بالغادين والرائحين...، يهنئونه بحلول العيد، ويهنئون أنفسهم بحلوله بينهم في الحرم المكي في هذه الأيام المباركة، على غير العادة من أيام عيد الفطر من كل عام، حيث تعودنا أن نقضيها بجوار قبر جدنا في المدينة، حيث كنا نصوم ونفطر.
ولكنها سنة غريبة، كل ما فيها غريب، صيامها، فطرها...، حتى عيدها ليس كالأعياد..!
لقد خصّنا والدي بالطيّب من الطعام والجديد من اللباس، جرياً على عادته في كل عيد، وبعد أن خصّ فقراء مكة بهذا وأكثر، إذ كان لا يدخل بيتنا شيئاً في أيام الصيام وغيرها، إلا كان آخر مطافه في العطاء، وقدوته في كل ذلك جدنا أمير المؤمنين..، الذي اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، بل إنه كان لا يشبع من طعام قط، حتى إذا سئل في ذلك أجاب: ((أأشبع وربما كان في بعض الأقفار من لا عهد له بالشبع؟!))
تلك أخبار حدثتني بها سكينة، فروت بها بعض ما يعتريني في كل حين، من ظمأ لا يرتوي، إلى أخبار جدي وجدتي الطاهرين...، ذينك النورين اللذين كانت إحدى ثمارهما وأزكاها وأنداها، ثمرة والدي الحسين..!
لله درك يا أبتاه، ما أرقّ قلبك وأحنّ فؤادك...، أنت أبو الأرامل واليتامى والمساكين...، إنك بحق وريث أخيك الحسن وأبيك علي، وجدك المصطفى وأمك الزهراء...، أنت أحد الذين ((يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا))
لست أدري لِمَ يزداد شوقي إليهم جميعاً حين أذكرهم، رغم أني لم أعرف أشخاصهم في هذه الدنيا، ولكني عرفت أنوارهم وأرواحهم، وقرأت عشقهم في سفرك المكنون...، ورأيت آثارهم في حركاتك وسكناتك، وخصالك وصفاتك...
ولكن...، ترى، لِمَ لم أر في وجهك فرحة العيد..؟!
إنك تتحفنا وتحادثنا، تريد أن تبهج قلوبنا...، ولكن أنى للبهجة أن تعرف سبيلها إليّ، وهي عنك في منأى..؟
أعلم أنه قد كتب علينا منذ زمن، منذ بداية المصائب والهموم، مع مصابنا بجدنا المصطفى وأمنا البتول، أن تكون أفراحنا أتراحاً، حتى وإن ألبسناها لبوس العيد...، ولكني أعلم أيضأ، أن لهذا العيد اليوم موقعاً مختلفاً عن كل عيد آخر!...
وسمعت همساً في زاوية الدار...، أظنها كانت عمتي زينب تخاطب أبي وتناجيه، أو ربما تناجي أباها أمير المؤمنين، على عادتها كلما اشتدّ بها إليه الحنين:
((أهو العيد الأخير؟!... هل قضي الأمر وأُقِرّ المصير؟!.. إذا كان الأمر كذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير..!))
همست الكلمات في أذني...، وعزفت على أوتار قلبي المشدودة، فدفعت في جوارحي دفقاً من الأسى العميق.
إن هذا العيد، لولا اضطراري فيه لإظهار السرور، مراعاةً لعزيزتي حميدة، ووفاءً بوعدي لأخي الحبيب عبد الله الرضيع، لما كان فيه من ((العيد)) إلا اسمه، وتبقى عينه وداله، (دمعاً)) على خدي أخفيه ولا أبديه، لكيلا يحزن والدي ويغتمّ، إذا رآني غير مبتهجة كما يحبّ لي أن أكون..!
(مقتطف من رواية "يوميات طفلة من كربلاء" للكاتبة رجاء محمد بيطار)