لقد عامل الكثير من المؤرخين التاريخ بشكله المَتحَفي، ونزع الروح الفاعلة منه، وأية قراءة متأملة في حيثيات التاريخ، تعني البحث في روح التأريخ، في ابجديات الهوية الاسلامية، في مفاهيم القيم التي كانت تعامل بوعي وارادة، ومنها الاحداث التاريخية المهمة واقعة الخندق التي تعرضت للتسطيح والتهميش من قبل الباحثين، وهتك الدقة من اجل عدم فسح المجال لأي درس وعبرة من هذا الماضي العتيد؛ كي لا يعيش فينا الماضي حيا بقيم مكوناته التي حققت معنى وجود الدين الحقيقي، خشية ان نستثمر هذه العبر لبناء الانسان والأمة..!
***
المؤامرة:
معنى حقيقي افرزته واقعة الخندق هو بقاء روح (المؤامرة) عند اليهود وقريش وجميع المناوئين، نقرأ الوهم الكبير الذي سيطر على عقليات الشر، ومحاولات قتل النبي (ص) ونكث العهد، ارسل ابو سفيان حي بن اخطب الى بني قريظة؛ كي ينقضون عهدهم مع النبي..! خرج حتى أتى كعب بن اسد كبير بني قريظة، فلما سمع كعب صوت اخطب اغلق دونه حصنه، صاح: ويحك، افتح لي جئتك بعز الدهر، بقريش على ساداتها، قال: إني عاهدت النبي ولست بناقض، ولم أرَ منه إلا وفاء وصدقا، هذا يعطينا شيئا كبيرا عن الواقع العربي قبل الاسلام بأن العربي كان يبحث عن ذاته العربية في خضم المؤامرات والتحزبات ونقض العهود وعدم الالتزام بوعد من قبل الزمر المتسلطة التي لا يعنيها سوى مصالحها، وهي التي استفحلت اليوم لتصل حد الابادة.
التحريض:
كبر الوهم عند قريش بعد واقعة أُحُد، وجعلهم يسعون الى استغلال الظروف وتحريض عدة قبائل لمهاجمة المدينة، لتبدأ آلية اخرى بالاشتغال وهي آلية التحزب، اذ حزبت قريشاً لقتال المسلمين.
التحزب:
ذهب عشرون نفرا من كبار اليهود الى ابي سفيان، وخمسون نفرا من صناديد قريش في مكة، ليلتحق بهم الف رجل من قبائل اسلم واشجع وكنانة وفزارة وغطفان حتى بلغوا عشرة آلاف، واقع صلف ورث العرب منه التحزبات المريضة منطلقين من هذا المفهوم نفسه الى قتال الحسين (عليه السلام) في طف كربلاء والى التحزبات الموجودة اليوم ضد العراق، نقرأ آليات المواجهة لنعرف ماذا تركت لنا الخندق من دروس وعبر.
الاستشارة:
نبي مرسل مدعوم بمقدرة السماء، قاد الأمة الى الرشاد، يجلس امام اصحابه للتشاور في استراتيجية مناسبة لصد العدوان المحتمل على المدينة، صدر عن هذا الاجتماع قرارا بالبقاء في المدينة والدفاع عنها من الداخل بعكس ما حصل في معركة أُحُد.
تقدم سلمان المحمدي (رضوان الله عليه) باقتراح حفر خندق عميق حول المدينة لمنع عبور الاعداء الى الداخل، الى جانب ذلك تقرر اقامة ابراج لمراقبة الخندق منها، بذلك يصعب على الاعداء اختراق الخندق وعبوره، والمتأمل في مسألة حفر الخندق بهذا الحجم سيدرك تماماً أن الأمر ليس سهلاً، وخاصة ان المسلمين لم تكن لديهم خبرة في حفر الخنادق وبوسائل بدائية، وانقطاع موارد ارزاقهم، وعانوا من متاعب كثيرة.
مشاركة القائد:
عبرة رسخها النبي (ص) في ذاكرة الأمة؛ لتكون هذه المشاركة ترسيخاً لفعل قيادي يساهم في خلق وعي معنوي عند الناس، فكان (ص) يشارك بضرب المعول، والغرض بالمسحاة، وتارة بحمل التراب، فكان يرتجز لهم بنفسه ليقوّي عزيمتهم في حفر الخندق: والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا...
المرتكزات الاعلامية:
المرتكزات الاعلامية للواقعة باعتبارها اضاءة لمعطيات اعلامية نفسية، فوجود هذا التفاوت بين الجيشين من حيث العدد والعدة هي مسألة قد تكون مرعبة للجيش الاعتيادي، ثمانية عشر الف مقاتل متحزب من فرق عديدة امام ثلاثة آلاف مسلم مقاتل..!
وهناك أمر لافت للانتباه، فوجود عمرو بن ود العامري في هذا الجيش، ارعب الكثيرين وخالق للانتباه، فوجود عمرو بن عبد ود العامري في هذا الجيش ارعب الكثيرين وخلق حالة من التوتر والخوف والقلق، حتى اصبح الموقف ينذر بالعويل، وإلا ما معنى ان يقف مبارز يتحدى كل هذه الآلاف ومعه مقاتلون بجرأة ابن ود مثل: نوفل بن عبد الله بن المغيرة، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن ابي وهب، وعكرمة بن أبي جهل، ومروان الفهري جميعهم اقتحمت خيولهم الحتف، وجعلوا يجولون تحديا في الميدان، وعمرو بن عبد ود ينادي:ـ
ولقد بححت من النداء * بجمعكم هل من مبارز
كان الاعلام العربي يقدم ابن عبد ود للمسلمين بألف فارس، ويطلق عليه لقب فارس يليل، وإذا بكبار القوم يقدمون خذلانهم علانية والمتحدي ابن عبد ود يصيح:ـ ألا رجل... اين جنتكم التي تزعمون ان من قتل منكم دخلها..؟ ولما لم يجبه احد، نهض علي بن ابي طالب (عليه السلام) وهو ينادي:ـ
لا تعجلن فقد أتا* ك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيةٍ وبصيرةٍ * والصدق منجي كلّ فائز
إني لأرجو أن تقوم * عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى * ذكرها عند الهزائز
الروح المعنوية:
قدم النبي (ص) صفحات مشرقة ليبث العزيمة في قلب المقاتلين، قرّب علياً (عليه السلام) اليه، ألبسه درع النبوة، وكان اسمها (ذات الفضول) وألبسه عمته التي كانت تسمى بـ(السحاب) فقدمه ودعا له، وقدم النبي (ص) هذا الدعاء حرزا لحفظ المقاتلين لأجل ان لا ننسى يوما اهمية الدعاء في المواجهات، وكشف القائد حجم المواجهة حين شخّص حجم الحدث التاريخي، فقال (ص): (برز الإيمان كله إلى الشرك كله). (شجرة طوبى - الشيخ محمد مهدي الحائري: ج2/ ص103).
الثقة العالية:
قالوا:ـ انه عمرو بن عبد ود العامري..؟ فأجاب: وأنا علي بن ابي طالب، وهذه الثقة ارعبت هذا الفارس المنفوخ اعلاميا، فقرر السخرية بإمكانية المبارز الرسالي الذي قدم امورا كثيرة لا تغيب عن الاذهان، لتنشط في ارواحنا القيم وروح المواجهة والانتماء.