إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رؤية نقدية ولغوية عن قصة قصيرة (الجسد )

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رؤية نقدية ولغوية عن قصة قصيرة (الجسد )

    رؤية نقدية ولغوية عن قصة قصيرة (الجسد )
    تقديم: الاستاذة الاديبة رجاء حسين (مصر)
    القصة القصيرة بعنوان (الجسد ) بقلم الكاتب : مجاهد منعثر منشد (العراق) , مستوحاة من بطولات الحشد الشعبي , ومنشورة في عدة وسائل اعلامية عراقية وعربية وعالمية (جرائد وصحف ومجلات ومواقع الالكترونية ).
    مقدمة
    عندما قرأت قصة { الجسد } للمرة الأولى، مرت عليّ بعض النقاط التي اعتبرتها غامضة بعض الشيء؛ واعتبرت هذا تقصيرا مني لحد ما؛ فبرغم تقديري الكبير للحركة الثقافية بالعراق الشقيق، إلا أن هناك بعض المصطلحات المتعارف عليها ثقافيا هناك والتي قد تبدو غامضة لنا، ولكن بقليل من البحث والسؤال بدا الأمر جليا بعد أن اتضحت تلك النقاط.
    وربما كان هذا من الأسباب التي دفعتني لإعادة القراءة مرة بعد مرة؛ مما شجعني على اختيارها كمادة للتحليل النقدي واللغوي، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية وجدتها فرصة ملائمة للاطلاع ولو قليلا على ثقافة بلد شقيق ومدى مواكبة الحركة الثقافية لمجريات الأحداث؛ لربما توضح لنا أقلام الأدباء والشعراء ما عجزت أبواق الإعلام عن تقديمه لنا، أو قدمته ولكن بشكل مشوه لأغراض كثيرة.
    بالقراءة المتأنية للقصة التي بين أيدينا، سنرى معا إلى أي حدٍ عكست القصة العناصر الأساسية للفن القصصي، وأهم الوسائل الفنية التي اعتمدها الكاتب في قصته، مراعاته لحيثيات الزمان والمكان، أسلوب معالجة موضوع القصة الخ
    فهيا معا نجوب في أرجاء عالم الشهادة
    الجسد
    يتضح لنا من الجمل الأولى في بداية القصة براعة الاستهلال والتي تمثلت في لهفة الشاب لمعرفة ما يريده، حتى ولو اضطره الأمر إلى التوجه بسؤاله لشخص غريب عنه، ولا تربطه به أيّة علاقة، مما يعكس رغبته كفلاح بسيط في المعرفة، وعلى الجانب الآخر كان اختياره للشخص المناسب ليوجه له سؤاله؛ دليلا على ذكاء فطري وهبه الله لأولئك البسطاء الذين نسيء الظن بهم أحيانا، ويتخيل البعض منا أنهم قليلو الفهم أو ضيقو الأفق.
    - ثم تتجلى سرعة البديهة لدى الكاتب في سرعة استنتاجه لحاجة الشاب إلى المعرفة، وتحريه لاختيار أفضل الطرق للرد عليه وتوصيل الإجابة له بالشكل المناسب.
    - كانت الإجابة رائعة، ومتضمنة الكثير من المعاني بكلمات بسيطة موجزة؛ وذلك عندما شبه له الشهيد بالشمعة التي تحترق وتفنى لتضيء للآخرين طريقهم، وهو رد يناسب كل الأفهام؛ ليوضح مدى تضحية الشهيد ومكانته في المجتمع، وبالتالي يأخذنا بسلاسة إلى واجب المجتمع من الجهة الأخرى تجاه الشهيد وأسرته، التي تركها أمانة في عنق الوطن، وهو واجب أخلاقي وإنساني، وكنت أفضل أن يعرضه الكاتب في قصته كجزء أصيل من نسيج القصة.
    - استخدم الكاتب مفردات اللغة الموحية تمامًا في مواضع متعددة؛ لتعبر لنا عما وراء الكلمات، وتأخذنا إلى عالم خيال الشاب الذي يتوق صادقا لنيل شرف الشهادة.
    - [استنشق الشاب نسيم القرية العذب بأنفه الطويل.. إلى: جسد الشهيد وكيف تأكله الأرض؟]
    استوقفتني كثيرًا هذه الفقرة المزدانة بالتعبيرات الرائعة والموحية: - استنشق نسيم القرية / والتي توحي بالراحة النفسية التي غمرت الشاب؛ والتي نشعر بها جميعًا لحظة توصلنا لقرار يريحنا نفسيًا، ويأتي هذا الإحساس دائمًا بعد فترة من القلق والتوتر بسبب أمر يشغل بالنا كثيرًا؛ وهذا ما كان يعانيه الشاب وقت سؤاله. – أنفه الطويل / توحي بالأنفة والرفعة والشموخ.
    - بريق عينيه / توحي بالثقة والعزم على القيام بأمر جلل.
    - ينظر في براءة الطيور / وكأنه خُلق طاهرا بريئا استعدادا لمصيره المشرف، ونهايته الطاهرة.
    - يبحث في ذهنه عن علة بقاء جسد الشهيد / توحي بانشغاله الصادق والنابع من أعماقه بحياة الشهيد ومصيره؛ وكأنه يريد معرفة مصيره هو شخصيًا في حال نيله شرف الشهادة.
    - ثم استرسال الكاتب بعد ذلك في تفسيره للشاب عن السر في سمو الشهيد وطهره، وأن هذا الطهر النابع من سمو روحه، ينعكس على كل ما يخصه من أمور مادية أيضًا؛ ليجعله في النهاية تجسيدًا حيًا للطهر والسمو الذي يصبو إليه كل إنسان عظيم النفس .
    - لخص الشاب كل المعاني التي وصلته في كلمتي: { طاهرة الروح } مما يدل على مدى تأثره بكل حرف سمعه.
    - مغادرة الشاب بعد ذلك صامتًا، وبدون أن يُكثر من الكلام مع محدثه، لربما كان عائدًا إلى عظم مشاعره في تلك اللحظة؛ حيث تعجز الحروف عن ملاحقة المشاعر السامية والتعبير عنها، وكل ما استطاع الكاتب فهمه هو ما التقطته أذناه، من دعوة الشاب لربه أن يرزقه شهادة خالصة لوجهه الكريم.
    - اختار الكاتب في وصفه لمشهد مغادرة الشاب للمكان الكثير من الألفاظ الموحية مثل: { يخترق / الأرض المزدحمة بالأشواك / ثوبه الأنيق يشبه لون الكفن / خطوات قدميه الثابتة / ينشب رجليه في الأرض } وكلها كلمات توحي بالعزيمة والفخر والقوة .
    - وما كانت مراقبة الكاتب للشاب تلك المراقبة الدقيقة والمتفحصة أثناء مغادرته إلا لسببين على ما أعتقد:
    - الأول: هو استحواذ الشاب على اهتمامه فعليًا؛ نظرًا لسؤاله عن أمر له قيمة سامية.
    - الثاني: هو توقعه أ ن الحديث لم يكتمل بعد، وأنه لابد وأن يعود؛ ليسأل سؤالًا كان الكاتب ينتظره.
    - توقُف الشاب فجأة دون حراك أثار رغبة الكاتب في معرفة السبب؛ مما دفعه إلى متابعته؛ ليفاجأ به ينظر إلى منزل الشهيد متابعًا أطفاله وهم يضحكون ويلعبون بكل سعادة.
    - وكأن الكاتب أراد أن يؤكد كلامه؛ فلو كانت الشهادة مبررا لحزن أقارب الشهيد؛ لكان هؤلاء الأطفال أولى بالحزن والألم والقهر؛ لفقدانهم أحب وأقرب إنسان لديهم في الدنيا وهو والدهم، ولكن رؤيتهم على تلك الحال هي الدليل الأكبر على إحساسهم بأن والدهم ما زال حيًا يُرزق، يشعر بهم ويشاركهم سعادتهم، كل ما في الأمر أنه في مكان آخر أروع.
    - تحقق توقُع الكاتب للسؤال المنتظَر من الشاب عن مكان الشهيد الآن؟
    وكأنه يريد أن يتأكد مما سمعه من سمو ورفعة شأن الشهيد، وأين ستأخذه تلك الشهادة المطهرة.
    - إلى هنا كانت الشهادة لا تزال ضربًا من الأمنيات يداعب خيال الشاب، ولكنه بدأ يخطو أولى خطواته لتحقيق أمنيته فعليًا.
    - ولأن الدعاء وحده لا يكفي بدون العمل الجاد لتحقيق الأمنيات؛ حيث يُعَّد هذا ضربًا من التواكل المكروه؛ كان قسمه على الكاتب أن يُلحقه بركب المتطوعين بالحشد الشعبي.
    - وكان ما كان من التفاعل السريع والاتصال بالقائد، ولم ينسَ الكاتب أن يزوده بالنصيحة وينبهه إلى أهمية السرية التامة لكل ما قد يُكلَّف به من مهام؛ وهذا من الأهمية بمكان في أي عمل خاص بالحرب والجهاد، وربما لا يلتفت الشاب البسيط لمثل هذا الأمر الخطير؛ لقلة خبرته في الحياة؛ بعكس الكاتب الذي كان يدرك تمامًا أهمية وخطورة ما يقوله للشاب.
    - --------------------------------
    لحظة الوداع
    .........
    - فرحة الكاتب بلقاء الشاب في معسكر التدريب، وسعادته عما سمعه عنه من القائد.
    - ملاحظة أن { الشهادة } كانت رد الشباب جميعًا على سؤال عن سبب تطوعهم للجهاد.
    - شرح الكاتب لقيمة الشهادة أمام الشباب، وأنها لابد وأن تكون لها ثمن غالٍ.
    - { كنت أتمنى أن أستشهد بملابسي الأولى } قالها الشاب وكأنه يتحدث عن تبديل ملابسه لمناسبة سعيدة ينوي حضورها؛ مما يعكس إحساسه العالي بما سيحدث له.
    - برع الكاتب في تصوير لحظة الاستعداد للهجوم على الأعداء، وتوجه الشاب إلى نقطة الرصد، ثم توديعه لأصدقائه في المعسكر بطريقة خاصة؛ عندما استودعهم الله الذي لا تضيع ودائعه؛ بها إيحاء بأن نفوسنا جميعا ما هي إلا وديعة لدينا يستردها خالقها في الوقت المحدد.
    - التعبير الرائع { ذهب وأخذ قلبي معه } يعكس إحساس الكاتب المرهف، ولوعته على فراق صاحبه، وهو يعبر بصدق عن معنى التقاء الأرواح؛ فبرغم معرفتهما القريبة زمنيا؛ إلا أن الرابط بينهما كان وثيقا؛ لدرجة إحساس الكاتب بهذا الشعور المؤلم لفراقه.
    - ثم براعته في تصوير تفاصيل لحظة الشهادة بالكلمات والتعبيرات الموحية { قلقه من عدم تناول الشاب لطعامه مثل الآخرين / طمأنة الطباخ له بأن الخير كثير، وأن حصته موجودة، وكأنه يوحي بأن حصته موجودة بالجنة إن لم يلحق بها في الدنيا.
    - انطلاق الشاب لاحتضان الانتحاري، لم تكن لحظة اختيار للموت؛ بل هي انطلاق إلى رحاب الشهادة المطهرة التي طالما راودت خياله وحلم بها، وها هي الآن تتحقق.
    - لم يكن الثمن زهيدا؛ كان غاليًا جدا؛ تمامًا كما أخبره الكاتب، عندما سأله في أول القصة عن مغزى الشهادة.
    ------------------------------------------
    الخاتمة
    -----------
    إن الكاتب القصصي الناجح هو الذي يستلهم مادته من واقع الحياة من حوله مع عمل نوع من الدمج بين الواقع والخيال، ورغم قلة ملامح الخيال في القصة إلا أن الكاتب قد جعلنا نحلق معه ومع بطل قصته في رحاب عالم الشهادة بكل ما فيه من طهر وسمو وترفع عن كل ماديات الحياة.
    - بالرغم من أن متابعة سير الأحداث توحي للقارئ بعض الشيء بنهاية القصة إلا أن ذلك لا يمنع من التأثر بما قام به الشاب من تضحية بروحه من أجل وطنه والآخرين.
    - { الشهادة } كانت هي الحدث الرئيس ومحور حياة البطل وقد استطاع الكاتب تجسيد ذلك من خلال اعتماده الألفاظ المعبرة؛ فقد استخدم الكاتب كلمات:
    - { شهيد } ( 10 ) مرات.
    - { جسد } ( 10 ) مرات .
    - { الشهادة } ( 7 ) مرات، منها مرتان كفعل.
    - { الروح } ( 3 ) مرات، منها مرة جمع.
    - { الأرض} ( 3 ) مرات.
    - { القسم بسيد الشهداء } مرتان.
    كما نرى الإسقاط النفسي الواضح في اختيار الكاتب لنوعية الشجر الذي يستريح تحت ظله، { شجرة الزيتون } وكأنه يستمد منها الراحة النفسية والمباركة لما يقومون به من مهام؛ حيث نجد أن:
    - { شجرة الزيتون } ذكرت مرتان.
    - { النخلة } ذكرت مرة.
    وبملاحظة النسبة العددية للكلمات المذكورة نجد أن كلمات { شهيد / الشهادة / والروح } قد ذكرت { 20 } مرة ، وبالمقابل ذكرت كلمتي { الأرض والجسد } { 13 } مرة، كأن المحصلة اللغوية تأخذنا في النهاية إلى ما أراد الكاتب توصيله إلينا من خلال الأحداث، وحياة البطل، ألا وهو: { قيمة الشهادة }.
    ----------------------------------------
    تقديم : رجاء حسين
    يليها القصة

  • #2
    (الجسد) قصة قصيرة

    (الجسد) قصة قصيرة
    بقلم:مجاهد منعثر منشد{ العراق }

    (1) كان غريبًا أن يسأل فلاح مثله إنساناً مثلي لا تربطه به صداقة ويحدثه عمَّا رآه في نقل جسد شهيد من قبر الى آخر ,وكان يظهر على وجهه الذي يتلألآ كالشمس وعينيه النجلاوين الواسعتين، أثر سؤال يحمل بين ثناياه تساؤلاتٍ، تحمل ندوب الشهقات ,فاستمات لمعرفة الجواب ,وكأنه يقول ذاك أنا . وطالت دهشتي وأنا أحدق في الفلاح الشاب , فأسرعت في الإجابة ، وتحسست سبلاً كثيرة لهدايته، وأنا أقول: رحمه الله , رائحة المسك تفوح من جسده، رغم دفنه منذ شهرين ! وأوضح الفرق بين الشهيد و بين من مات حتف أنفه ,فقلت: وكأنه مدفون منذ ساعة . ثم تناقشنا معا ,وكان يميل لمعرفة قيمة الشهادة, فشبهت له الشهيد بالشمعة التي تحترق وتفنى لتضيء الطريق للآخرين . استنشق نسيم هواء القرية العذب بأنفه الطويل، وأخذ يوزع نظراته ببريق عينيه السوداوين ما بين النخلة والزرع ,و ينظر الى براءة الطيور المحلقة .. يبحث في ذهنه عن علة بقاء جسد الشهيد وكيف تأكله الأرض ؟ ولكني نجحت أخيراً في قولي ,فذكرت بأن روح الشهيد بلغت درجة ومنزلة من السمو والطهارة حيث يترك هذا السمو والطهر آثاره على جسده و دمه، وعلى ما يرتديه من لباس , فجسد الشهيد ولباسه اكتسبا الشرف من طهر روحه وعلو فكره وسمو تضحيته . ـ رد قائلا: إنها طاهرة الروح. فقلت : نعم . استأذن , ولست أدري ما دار في عقله ,فما كنت أرى أفكاره وقد حجبها عظم ولحم الرأس . تبسم لي قليلا ليوحي بأنه وجد ضالته , ثم مضى وهو يدعو بكلمات لم تلتقط أذني منها إلا هذه الكلمات فأُطالبكَ ياربّ أن ترزقني شهادةً مُطَهِّرَةً أنا اخترتُها لنفسي كفارةً عن ذنبي. ولم يستدر نظري عنه وهو يخترق الأرض الزراعية المزدحمة بالأشواك ,ولا عن ثوبه الأنيق الذي يشبه لون الكفن ,او حتى عن قدميه اللتين كانتا تخطوان خطوات ثابتة من ذيل الثوب كطابوق صلب . وأراقبه في عجب وهو ينشب رجليه الطويلتين كساقي زرافة في الأرض ,ولا يهتز وهو يتحرك. راقبته طويلا حتى أتعبني كل دقيقة في مسيره , فقد كنت أتـوقع في كل ثانية أن يعود فيسأل ؟ وأخيراً استطاع الفلاح الشاب أن يخترق الأرض دون العودة بسؤال آخر . و استأنف سيره في بستان ,وقبل أن يختفي بين الأشجار، شاهدته يتوقف دون حراك . وكاد ثعبان يقتلني وأنا أسرع لمعرفة ماذا حدث ! وحين وصلت كان يقف ثابتاً على ما يرام يتفرج على منزل الشهيد ويتابع أطفاله , وهم يلعبون ويضحكون
    --------------------------------------
    بكل سعادة . ولم يلحظني، ولم يتوقف كثيراً، فمن جديد راحت ساقاه تمضيان به , وقبل أن ينحرف ,استدار الى الخلف على مهل ينظر لي بالفتحات الكبيرة الداكنة السوداء في وجهه ,وألقى نظرة طويلة على وجهي ,وحرك شفتيه العريضتين الحمراوين ,وقال :ـ أين هو الآن ؟ ـ كانت إجابتي بسؤال ... من؟ تلعثم الفلاح وأطرق هُنيئة ,وأجاب: الشهيد . ـ قلت:
    حسب الآية: (ولا تحسبن ) ...عند ربّه حيّ يرزق . ـ رفع كفيه وتلفظ: هنيئًا له ,اللهم اجعلني عندك . وأردف ... أسألك يا أخي .. وأُقسم عليك بدم سيد الشهداء، أن تلحقني بركب الحشد الشعبي . تأملت في قوله ,وقلت بإذن الله .واتصلت بالقائد ,فأمرني أن أزوّده برقم هاتفه . وأبلغت الفلاح بألا يحدثني عما يجري بينهما من حديث حول لقاء ,أو تكليف ,أو تدريب ! ـ استغرب الطلب بكلمة لماذا؟ قلت: هذا مبدأ ,فالمعرفة على قدر الحاجة , ولتقديس أسرار الجهاد . ودعته بشعور مفارق , جسد لا يرى جسد أخيه مرة أخرى ,وربما تلتقي الأرواح , فودعني بحرارة غامرة بالبهجة والسرور .
    (2) بعد شهرين وفي صباح سبت كنت في جبهة جرف الصخر ,فاستدعاني القائد ,وأبلغني بالتحاق المجموعة الجديدة التي ستكون بإمرتي . واصطحبني معه ليعرفنا على بعض. ونحن نتخطى إليهم ,فجأة رأيته معهم ... رفرف صدري كجناحي العصفور ,وزقزق قلبي فرحا ,وهفهف البطينان مرحباً. مستعيدًا لحظة اللقاء والحديث معه عن جسد الشهيد في شريط سريع وأنا أراه. ـ نظر القائد إليّ , وقال صاحبك الفلاح. قلت: لم أتوقع ذلك. وسألته كيف هو في التدريب؟ رد ...كالأسد الضاري عندما يقتل اسودا. نهض من بين المجموعة ,وأقدم يجري إليّ سريعا ,وأسرعت إليه ,فتعانقنا عناق أجساد .. كأخ لم يرَأخاه منذ سنين. وردّ يقول بعزة: ـ رأيت فيك رؤيا فجراليوم. ـ فنطقت .. ماذا ؟ ـ سالت قطرات من دموعه على خديه وهو يقول: جسدك يتذرى بالهواء. ـ تدخل القائد بأحسن القول: ذلك مصير كل من تربّى بحجر ثورة سيد الشهداء. ـ فدعوت ... أسال الله أن يكون ذلك . سار بنا القائد نمضي الى الأخوة بخطوات حتى وقفنا تحت شجرة الزيتون ,وقام بمهمة التعارف بيننا، وأمرهم بالطاعة ,ثم ذهب وتركني معهم . وبدا لي من أول الأمر إيمان وشجاعة المجموعة، واستهانتهم بالعدو ,وإصرارهم على النصر أوالشهادة. لا أعرف ما حدث لي عندما رأيت حماستهم وانفعالهم ,ولكن الشيء المؤكد أني قررت احتواء انفعالهم . طلبت منهم أن يجلسوا على حشائش الأرض؛ حيث ظل الشجرة التي أقف تحتها. بدأت اسأل كل فرد منهم عن سبب تطوعه؟ فأجمعوا على رأي واحد هو الشهادة . ـ فقلت : من يبحث عن لقاء المعشوق ,فأكيد يقدم الدم والروح كهدية . صاحبي يصغي ويحلل كلامي ,وبعد أن أكملت العبارة شعرت بأنه سيكملها بكلمة، وما لبث أن نطق: وجسده . ـ ذلك صحيح ,ولابد أن تكون الهدية ثمينة . ـ ثمينة ! ـ نعم ,نتعب العدو في وصوله إلينا, ونختار الموقف بدقة في تقديمها . قضيت ساعة معهم كأنها لحظات , واتفقنا على موعد الغداء بعد صلاة الظهر في ذلك المكان ,وذهبوا مجاميع حسب التقسيم: كل ثلاثة أفراد الى نقطة. طلبت من الفلاح الشاب أن يرافقني في رحلة الاستطلاع؛ لرصد مواقع العدو الذي يبعد عنا كيلو متر واحد في منطقة الفارسية.
    (3) رحلة ساعة ثم دخلنا الغرفة الصغيرة المتنقلة وخلعنا الملابس العسكرية لنرتدي ملابس سوداء تشبه ما يلبسه العدو. عرفت لمرافقي ما سنقوم به خلال وقت محدد، وضحت له أثناء لبس الملابس الجديدة بأن الحذر مهما بلغ أوجه لا يمنع القدر. ـ ردّ صديقي بقوله: كنت أتمنى أن استشهد بملابسي الأولى. ـ رأيت من واجبي تذكيره برؤياه بي فجر هذا اليوم ,فقلت: بالنسبة لي لا يفرق معي لأن جسدي سيتذرى بالهواء. ـ تبسم وهو يقول: عندك يا أخي لكل سؤال جواب. كانت الأفكار مركزة في ذهني عن هذه الرحلة, وأنتظر سؤال صديقي عن الهدف منها. وحين خروجنا من الغرفة تفوّه مستفهماً ؟ ـ هل استطلاعنا دفاعي؟ ـ تأملت قليلا , وقلت: كلا، بعده سيكون هجوميّاً. غمرته الفرحة ونهض بهمّة،آخذاً دوره؛ لتبليغ النقاط كافة بأننا سننطلق. وبعد نصف ساعة من السير في البساتين وصلنا بالقرب من تجمعات الإرهاب أخذنا نراقب تحركاتهم وأعدادهم. عدنا بعد انجاز المهمة الاستطلاعية ,وأبلغت القيادة باحتياجات مجموعتي من أجل الهجوم .
    (4) اللقاء الأخير: اجتمعنا في الموعد المحدد... ذاك يدعو، وآخر يصلي .
    صديقي صلى بملابسه العسكرية بعد أن اغتسل بماء النهر. وبعد أن أتممت صلاتي رحت أستلقي تحت
    ظل شجرة الزيتون. حضر الغداء .. ـ التفت الفلاح إليّ: سأذهب الى نقطة الرصد , وفقال: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه. ذهب وأخذ قلبي معه, كنت أشعر بأن أمراً سيحدث, لكن لا أعرف ما هو؟ تبعد نقطة الرصد مسافة خمسين متراً . آكل وأنظر إليه .
    قال أحد الأخوة: سيدي هل هناك شيء ؟ ـ لا ، فقط هو لم يأكل . رد الطباخ : سيدي، الخير كثير ,وحصته موجودة . فجأة صاح صاحبي وهو ينطلق كالسهم: تفرقوا... تفرقوا .... انتحاري قادم. نهضنا نحمل السلاح مسرعين إليه. لا جدوى؛ كان يبتعد عنا كلما اقتربنا منه. احتضن العدو وهرول به. في لحظة ... أصبح ومضة. وشّحت الشظايا أجسادنا. دوي الشهادة تعالت أصواته. خرجت روحه ,ورأيت جسده يتناثر, بل يتذرى في الهواء كقطرات الندى . إنّه...... جسد شهيد.

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X