إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سوء الظن بالله واليأس من روحه

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سوء الظن بالله واليأس من روحه

    سوء الظن بالله واليأس من روحه
    أهداف الدرس:
    - التعرُّف على معنى سوءِ الظنِّ بالله عزّ وجلّ وحقيقة اليأس من روحه تعالى.
    - التعرّف على حقيقة البلاءِ وعلاقته بتربية المجاهد.
    - التعرُّف على آثار حُسن الظنِّ بالله تعالى، ودوره في توجيه حقيقة البلاء.


    159

    مدخل:
    الجهاد في سبيل الله طريق ذات الشوكة الذي لا يُعدم فيه الإنسان المشقّات والشدائد والآلام التي تحيط به من كل جانب. فظروف الجهاد صعبة وليست بالأمر السهل، وإذا لم يكن المجاهد ذا ثقة بالله تعالى، وبأنه لا تصدر أحكامه وتكاليفه الشرعية إلا عن حكمة ومصلحة، لأنه الودود العطوف الرحيم بخلقه الذين خلقهم لكي يصلوا إلى كمالهم الإنساني فإنه سوف يحرم من بركات الجهاد وثماره الطيّبة. أما لو تسلّل اليأس وسوء الظن بالله وبأحكامه الشرعية إلى قلب المجاهد والعياذ بالله فإنه يخشى عليه من الوقوع فيما لا تحمد عقباه...


    161

    الحكمة والعدالة في الخلق والإيجاد:
    خلق الله سبحانه وتعالى الدنيا وأطبق عليها بسلطانه وأحكامه، وجعل ذلك كلّه مبنّياً على تقدير وحكمة إلهية تراعي مبدأ النظام والعدالة في كل شيء، بحيث وضع كل شيء في مكانه المناسب والصحيح بحسب قابلياته واستعداداته المودعة:
    ﴿وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ1, فإن الله عزّ وجلّ يعطي كل موجود بحسب لسان استعداده وسؤاله ولا يظلم أحداً: ﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْديكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيدِ2.

    والله أجرى الأمور بأسبابها، والتغيير الفردي والاجتماعي نحو الأفضل لا بدّ أن ينطلق من إصلاح ما في النفس، لأنه سبحانه وتعالى يقول:
    ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِم3, وهذه قاعدة أساسية في البناء العقائدي والأخلاقي في الإسلام، فالله هو: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ4 وهو: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا5.

    فهذا الكون المبنيّ بأفضل طريقة وأحسن صورة، هو نظام كامل لا يمكن أن تجد فيه عيباً ولا عوجاً، أو تدعي فيه نقصاً، وهو يمثل في الواقع أفضل عدّة وضعها الله تعالى للإنسان في مرحلته الانتقالية، كي يستفيد منها في صقل طاقاته وتنميتها لكي يصل إلى الهدف الحقيقي من خلقه وإيجاده. فالخلق له هدفٌ وليس أمراً عبثياً:
    ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ6, وهذا الهدف

    162

    ليس سوى أن يكون الإنسان خليفة الله في أرضه كما تبيّن الآية الشريفة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً7. وهذا الهدف السامي للحياة بدوره لن يكون أمراً قابلاً للتحقّق إلا من خلال أمر واحد وهو العبودية الحقّة والمطلقة لله سبحانه، وهو عزَّ اسمُه القائل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ8.

    وعليه فأيَّة ذرّة شكّ وريب تحصل لدى الإنسان بأنّ بعض الأمور التي تحدث معه هي خارجة عن هذا النظام الكوني العام المسخر لخدمته وتحقيق كماله، هي إشارات لخلل في اعتقاده الذي يمكن أن يكون فيما بعد سبباً في ظهور مرض خطير اسمه سوء الظنّ بالله واليأس من روحه، وهو أمر خطير لأن عاقبته قد تكون الكفر والعياذ بالله، يقول الله تعالى
    ﴿وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا9, ﴿وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني‏ مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً10, وفي النهاية يأتي التحذير الإلهي ﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ11.

    لذا ينبغي على الإنسان المؤمن والمجاهد الصادق أن يحسن الظن دائماً بالله سبحانه وتعالى، وأن يكون على يقين
    ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ12, وأن كل ما يجري ويحصل هو لخيره وصلاحه. وأنّ الظلم إن وقع فالمسؤول عنه هو الإنسان نفسه لا الله عزّ وجلّ ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ

    163

    أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ13, و﴿ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ14.

    القاعدة الأساسية في العلاقة مع الله:

    إن المجاهد في ميدان المعركة لا بدّ وأن يحقق في ذاته علاقة صافية مع الله تعالى وخالية من أية شائبة، وعمدة هذه العلاقة هو اليقين بأنّ حضوره في ساحة المعركة هو أمرٌ لا يمكن أن يحمل له إلا كل منفعة وبركة، لأنّه - أي المجاهد - إنّما يقوم بعمله الجهادي أداءً للتكليف وانتصاراً لله تعالى، فلا يمكن أن يجازيه الله تعالى إلا بأفضل جزاء
    ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ15.

    هذه هي القاعدة الأساسية في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، أي أن يحسن الإنسان الظنّ بالله تعالى في كل ما يحصل معه وأن يثق به وبوعده وفيما يأمر به في جميع الأمور وأن لا يتجرّأ على الله فيما يظنّ أن فيه صلاحه، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " قال الله جلّ جلاله يا ابن آدم أطعني فيما أمرتك ولا تعلّمني ما يُصلِحك"16.

    ففي ميدان الجهاد وأثناء أداء المجاهد للتكاليف والواجبات الشرعية الموكلة إليه، من الطبيعي أن يكون المجاهد عرضة للإصابات الجسدية أو الضرر المادي الذي يلحق بممتلكاته، أو للجوع والعطش والخوف والقلق وغيرها من البلاءات، والتي هي كلّها أمورٌ تصيب المجاهد دوماً بل هي من أهم سمات الجهاد في سبيل الله. ولكن كل هذه البلاءات والمنغّصات والآلام يجب أن لا تثني من عزيمة المجاهد ولا أن تكون سبباً في تزلزله أو شكّه


    164

    لا سمح الله، في حين أنَّ كلّ ما شرّعه الله وأمر به إنما هو لأجل خيره وصلاحه. ولو تبدّلت هذه القناعة في نفسه أو تغيّرت أو ضعفت في أي لحظة فإن الخسارة المادية والمعنوية هي التي ستكون الحاضر الأكبر في حياة هذا المجاهد. يقول تعالى ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ17.

    وفي قوله تعالى
    ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ الَّذينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ18, تصريح واضح بأن الله تعالى سوف يفتتن عباده الصالحين بأنواع الفتن والبلاءات لكي يرى صدق الإيمان في نفوسهم، ولا ضير ولا بأس في ذلك طالما أن العوض هو حياة الخلد في جنان الله الفسيحة.

    لذا يقول الله تعالى في آية أخرى
    ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرينَ19. فالامتحان والفتنة من السمات والسنن الإلهية في هذه الحياة الدنيا، بل إن الله تعالى لم يخلق الناس إلا لأجل أن يمتحن إيمانهم وصدقهم. والآية الكريمة تشير بوضوح إلى أنّ الهدف من الفتن والبلاءات في الحياة والحوادث المؤلمة إنما هو لأجل:
    - تمييز المؤمنين حقاً عن أولئك الذين يدّعون الإيمان.
    - تخليص إيمان الناس من شائبة الشرك والنفاق والكذب.
    - تمييز المجاهدين والصابرين على الضرّاء والبأساء عن غيرهم.


    165

    وينبغي أن نعرف أنه لولا البلاءات والحوادث المؤلمة في الحياة لما تبيّن الخبيث فيها من الطيّب، فالنعم الدائمة والانتصارات لوحدها مثلاً قد تخدع الإنسان وتغريه وتصيبه بالغفلة فيكون مصداقاً لقوله تعالى ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً20. من هنا يكون للشدائد والبلاءات في بعض الأحيان أو حتى للهزائم والنّكسات الجزئية الأثر البالغ في تربية النفوس وإصلاحها، وصياغة المجتمعات الإنسانية وتصحيح مسار بما يفوق أثر الانتصارات الظاهرية. وبعد مرحلة التمييز بين المؤمنين وغيرهم لا بد من اختبارهم مجدداً لتمحيصهم وتخليصهم من العيوب والشوائب التي يمكن أن تطرأ على إيمانهم من حيث لا يعلمون، ليروا ما هم مبتلون به من نقاط ضعف. فالنعم الإلهية والانتصارات الكبرى لا يمكن أن تتحقّق في المستقبل ما لم يدخل المؤمنون في بوتقة الاختبارات ليقيّموا أنفسهم على أساسها، لتكون منطلقاً لتطهير النفوس وبناء المجتمعات الإنسانية الصالحة بشكل أفضل، فهناك علاقة متقابلة بين طهارة النفس وطهارة المجتمع. فالمؤمنون إذا امتازوا عن غير المؤمنين، وعُرِف المجاهد منهم والصابر، وطهّروا نفوسهم وبواطنهم من الشوائب والخبائث، فسوف يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر والإلحاد، وتطهير مجتمعهم من الفساد والظلم، وهذا يعني أنه لا بدّ أولاً من تطهير النفوس ثم تطهير الغير. وعليه فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وارتقائهم في مدارج الخلوص والطهر ومراتب الصفاء والتقوى وبين زوال الكفر والشرك واندثار معالمهما وآثارهما من ساحة الحياة الاجتماعية. وإن ساحة الجهاد المقدسة والقتال هي التي ستقوم فيها عملية التمييز والتمحيص بشكل أساسيٍّ لما لهذه الساحة من قدرة تغييرية جذرية

    166

    فاعلة ومؤثّرة. هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخّصها القرآن لنا ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبينَ21, لتكون النتيجة والثمرة العملية الطيبة لهذه الفتنة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴿مِنَ الْمُؤْمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْديلاً22.

    آثار حسن الظنّ وعدمه وثماره:

    على المجاهد في سبيل الله أن يحافظ على يقينه الكامل بالله سبحانه وحسن الظن به، ولو لم يقدّر أحدٌ على وجه الدنيا كلها جهده وتعبه، ولو بقي كل ما فعله في الحرب مجهولاً، ينبغي أن يبقى يقينه بحسن جزاء الله موجوداً. وإذا ما عاودت الحرب أدراجها مجدّداً، وكان هذا اليقين موجوداً، فإنه سيبقيه نشيطاً وفاعلاً ومدافعاً عن ساحة حرمة الله ومقدّساته. وذلك بعكس ما لو سيطر اليأس وسوء الظن عليه، فإنه سيجبن ويضعف ويبخل على الله ببذل أي شيء ولو بمقدار فلسٍ من طين، وهذه حقيقة يقرّرها الإمام علي عليه السلام حين يقول: "البخل بالموجود سوء الظنّ بالمعبود"23.

    ويقول عليه السلام في مورد آخر: "الجبن والحرص والبخل غرائز سوء يجمعها سوء الظنّ بالله سبحانه"24.
    وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "والذي لا إله إلا هو، لا يحسن ظنّ عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده


    167

    الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنّ ثم يخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظنّ وارغبوا إليه"25.

    من خفايا ودقائق حسن الظنّ بالله تعالى، أن الذي يحسن الظنّ به لا يخاف غيره ولا يرجو إلا إياه، لأنه يعلم علم اليقين ويعرف معرفة علمية وعملية أن تعلقه بالله القادر والعظيم مالك السماوات والأرضين هو تعلّق لن يكسره عدوّ ولا جبّار ولن يؤثّر عليه فاقة ولا فقر، ولا جهالة ولا ظلم من الناس، وهذا المعنى من المعاني التي يُفسَّرُ بها قوله تعالى
    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ26. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "حسن الظن بالله أن لا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا ذنبك"27.

    إنَّ مقتل المجاهد وموضع هلاكه الأكبر، هو عندما يتعلّق قلبه وطموحه وتفكيره بما سيقوله الناس عنه، وبمنزلته عندهم، وبما سيربحه من نوالهم وعطاياهم، وطريقة تقييمهم وتقديرهم لجهوده وجهاده. فهذا التوجّه وهذا التفكير متى ما حصل عند المجاهد، عليه أن يعلم أنّ بوصلة قلبه ووجدانه ووجوده قد انحرفت عن الله سبحانه وتعالى، فالمعبود والمطلوب هو غيره، وشاغل القلب لم يعد ربه، وهذا هو مكمن الشرك وآية عدم الإخلاص، فعن الإمام علي عليه السلام: "أوّل الإخلاص اليأس مما في أيدي الناس"28.

    وقد يحصل كثيراً أن يشعر المجاهد بالحاجة الملحّة للظهور أمام الناس بمظهر أنه الرجل الذي ضحّى وقدَّم وجاهد و...إلخ، وهذا أمر ربما يتماشى مع الطبع، لأن من طبع الإنسان وميوله حب الظهور، وأن يبدو عزيزاً وذا شأنٍ أمام


    168

    الناس. غير أن المنهج الإلهي يقوم على خلاف هذا المنطق الشيطاني المغلوط والخاطئ، فالأمر في الحقيقة معاكس تماماً كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال العزّ قلقاً حتى يأتي داراً قد استشعر أهلها اليأسَ ممَّا في أيدي النَّاس فيوطنها"29.

    المنافقون وسوء الظن بالله تعالى:

    إنّ الآية الكريمة
    ﴿بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا30, تحوي درساً عملياً من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول مخاطر سوء الظن وآثاره.

    إذ تتحدّث الآية عن المنافقين من موقع الذمّ والتوبيخ، وهم الذين امتنعوا من السير في ركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخروج معه في واقعة الحديبية، بل وتوهّموا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين انطلقوا إلى مكة سوف لا يعودون إلى أهليهم أبداً، بل سيقتلون عن آخرهم بأيدي المشركين من قريش في حين أنّ القضية انعكست تماماً وعاد المسلمون بذلك النَّصر الباهر في صُلح الحديبية وهم سالمون لم يُصب أحدٌ منهم بأذىً.

    ومفردة (بور) في الأصل بمعنى شدّة الكساد، وبما أنّ شدّة الكساد باعثة على فساد الشيء كما في المثل المعروف لدى العرب (كسد حتى فسد) فإنّ هذه الكلمة تأتي بمعنى الفساد، ثم أطلقت على معنى يتضمّن الهلكة والاندثار، وأطلقت على الأرض الخالية من الشجر والنبات فيقال (بائر) لأنّها في الحقيقة فاسدة وميتة.

    وهكذا نجد أنَّ هذه الفئة من المنافقين الذين عاشوا هذا الظنّ السيءّ في


    169

    واقعة صلح الحديبية لم يكونوا قلّة، ومن المعلوم أنّه لم يصبهم الهلاك بمعنى الموت بل هلاكٌ خاصٌّ وهو الهلاك المعنوي والمحروميَّة من الثواب، ذلك لأنّ (بور) إما هي بمعنى الهلاك المعنوي والمحرومية من الثواب الإلهي وخلوّ أرض قلوبهم من أشجار الفضائل الأخلاقية والشجرة الطيّبة للإيمان، أو يكون المراد بها الهلاك الأخروي بسبب العذاب الإلهي، والهلاك الدنيوي بسبب الفضيحة، وعلى أيّة حال فالآية الشريفة تدلّ بوضوح على النهي عن سوء الظنّ بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه المعصومين عليهم السلام وقادة الأمة العظماء فكيف الحال إذاً مع الله عزّ وجل31.

    170

    المفاهيم الرئيسية
    1- حسن الظنّ بالله عبارة عن الاعتقاد بأن الله تعالى قد خلق النظام الكوني بأفضل صورة تحقّق صالح الإنسان والإنسانية.
    2- إن أدنى شكّ بأنّ بعض الأمور التي تحدث مع الإنسان هي خارجة عن هذا النظام الكوني العام، مؤشر سلبي لخللٍ في اعتقاده والذي يمكن أن يكون فيما بعد سبباً في ظهور مرض خطير اسمه سوء الظنّ بالله تعالى.

    3- يقول الله تعالى في بيان خطورة سوء الظنّ به
    ﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.
    4- المجاهد في ميدان المعركة لا بدَّ وأن يتيقَّنَ بأنَّ حضوره في ساحة المعركة هو أمرٌ لا يمكن أن يحملَ له إلا كلَّ منفعةٍ وبركة، لأنّه إنما يقوم بعمله الجهادي أداءً للتكليف وانتصاراً لله تعالى ولدينه وهو عزّ اسمه القائل
    ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ.

    5- من الطبيعي أن يكون المجاهد عرضة للإصابات الجسدية أو الضرر المادي، أو غيرها من البلاءات، لكن رُغم ذلك يجب أن لا تنثني عزيمة المجاهد ويسوء ظنه بأداء الجهاد كتكليف شرعي، لأن ما شرّعه الله وأمر به إنما هو لأجل خيره وصلاحه.

    6- لولا البلاءات والحوادث المؤلمة في الحياة لما تبيّن الخبيث فيها من الطيّب، فالنعم الدائمة والانتصارات لوحدها قد تخدع الإنسان وتغريه وتصيبه بالغفلة، فيكون مصداقاً لقوله تعالى
    ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.

    7- الذي يحسن الظنّ بالله لا يخاف غيره ولا يرجو إلا إياه، لأنه يعلم أن تعلّقه بالله هو تعلّق لن يكسره عدوّ ولا جبّار ولن يؤثّر عليه فاقة ولا فقر.
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X