إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

عواقب الفرار من الزحف

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عواقب الفرار من الزحف

    عواقب الفرار من الزحف _ 1
    أهداف الدرس:
    - بيان معنى الفرار من الزحف وأهم ضوابطه الشرعية.
    - التعرّف على بعض الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لترك الجهاد.

    175

    معنى الفرار من الزحف وضوابطه:
    تعرّفنا في الدّروس السابقة على أهمية الجهاد في سبيل الله وآثاره على الفرد والمجتمع، وبيّنّا أهمّ الموانع التي تمنع الإنسان وتحول بينه وبين أداء هذا الواجب المقدس. ولو فرضنا أن أحداً ما وقع في شرك هذه الموانع التي تصدّ عن ساحات الوغى، وبالتالي صار عرضة للحرمان من هذا التوفيق العظيم، في هذه الحالة قد تسوّل له نفسه بترك الجهاد والقعود مع زمرة القاعدين، هذا القعود والترك الذي يصطلح عليه في الإسلام بالفرار من الزحف. "والفرار من الزحف هو الهروب من المعركة، وهو من أكبر الكبائر وإن لم يكن له داع شرعي"1. قال الله تعالى
    ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ

    177

    الْأَدْبارَ2. وبيّن وليّ أمر المسلمين السيد علي الخامنئي دام ظلّه الضابطة الفقهية في الفرار من الزحف بالقول:
    - "لا يجوز الفرار من جبهة القتال في أي حال من الأحوال"3.
    - "لا يجوز الانسحاب من أرض المعركة على خلاف الأوامر الصادرة من القيادة، إلا في بعض الموارد الاستثنائية التي تقتضيها الضرورة وكان الانسحاب من أرض المعركة من صلاحيات الإخوة المجاهدين"4.

    وللفرار من الزحف آثار سلبية وعواقب وخيمة جداً وردت في الآيات الكريمة والروايات الشريفة نذكر منها:

    العذاب الأليم:

    الفرار من الزحف من الكبائر التي وعد الله تعالى أصحابها سوء العاقبة في الدنيا والآخرة. في الدنيا عاقبة المتخلّفين عن ركب المجاهدين والشهداء الخزي والعار والفضيحة، وفي الآخرة العذاب الأليم ونار الجحيم. لأنهم خالفوا أمر الله ورسوله وركنوا إلى الملذّات الفانية والشهوات الزائلة. ولم يكتف الفارّون الذين وصفهم الحق تعالى بالمنافقين بالهروب والتنصّل من الواجب، بل عملوا على إعانة الأعداء من خلال بثّ اليأس والخوف في قلوب المؤمنين لمنعهم عن أداء واجبهم، علّهم يجدون بذلك من يشاركهم قعودهم وتخلّفهم فترتاح نفوسهم قليلاً من عذاب الوحدة الموحشة ونظرات الناس المؤلمة إليهم. وهو ما كان يصبّ في مصلحة العدو، حيث وجد له أعواناً من داخل صفوف المسلمين يثبّطون العزائم ويبثّون الشائعات المفرّقة والمشتّتة للصفوف، لذا كان عذابهم أليماً وعاقبتهم

    178

    سيّئة جداً.

    قال الله تعالى في كتابه العزيز
    ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى‏ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ5.

    تستمرّ هذه السلسلة من الآيات في الحديث عن الأعمال الشيطانية للمنافقين، وتزيح الستار عنها الواحد تلو الآخر، وتحذّر المسلمين من الانخداع بريائهم أو الوقوع تحت تأثير كلماتهم المعسولة. وهذه الآيات نزلت في جماعة من المنافقين يبلغ عددهم ثمانين رجلاً، أمر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك أن لا يجالسهم أحد ولا يكلّمهم. فلمّا رأى هؤلاء هذه المقاطعة الاجتماعيّة الشديدة بدأوا يعتذرون عمّا بدر منهم، فنزلت هذه الآيات لتبيّن حال هؤلاء وحقيقتهم، وتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يقبل اعتذارهم ولا يصدّقهم، لأنّ الله تعالى قد فضح أمرهم وأخبر عن كذبهم ونفاقهم فيما يعتذرون منه، وأن الله ورسوله يشاهدان ما يعملون ولا يخفى عليهما شيء، وأنهم سوف يردّون إلى الله الذي يعلم الغيب والشهادة في يوم القيامة فيخبرهم بحقائق أعمالهم ونيّاتهم.

    ثم تبيّن الآية الكريمة إيمان المنافقين الكاذب وتنبّه المسلمين إلى أن هؤلاء لن يتورّعوا عن اليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم وتعرضوا عما فعلوه، ثم تخاطب المؤمنين بلسان الحال: عليكم في هذه الحالة أن تعرضوا عنهم، ولا تعاتبوهم أو توبّخوهم لأنهم أرجاس لا ينفع فيهم التأنيب ولا يقبلون الطهارة. ومصيرهم النار لأنها المكان الطبيعي لهم الذي سوف يتكفّل بأمرهم، وكل ما سيلقونه هناك هو نتيجة ما كسبوه بأيديهم في الحياة الدنيا. ولشدّة

    179

    نفاقهم فإنهم سيحلفون لكم لكي يجلبوا رضاكم بدل أن يكون همّهم كسب رضا الحق تعالى.

    وفي آية أخرى يقول الله تعالى مبيّناً بشكل صريح عاقبة من يتولّى عن الجهاد
    ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ... وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا6.

    الاستبدال:

    يحذّر الله تعالى أن من يرتدّ عن دينه والإيمان الصادق به ويكفر بتعاليمه وبأنبيائه ورسله، ولا يطيعه في أمره ولا يلتزم بأحكامه الجهادية وغيرها ولا يعمل بإرادته، بل يستغني ويتولّى معرضاً عن الدين الحنيف والملّة الحقّة، فسوف يستبدل الله به من هو أحقّ منه بهذه المكرمة.

    إن الله يستبدل بهؤلاء من يحبّون الله ويحبّون أن يعبد في أرضه، ولا يرتدّون عن دينه، ولا يتخلّفون عن الجهاد والتضحية بكل ما يملكون في سبيله، بل يقبلون على الجهاد بصدر رحب وقلب مستبشر بلقاء الله ورضوانه، لا يخافون من لوم الناس والمنافقين عند أدائهم لواجباتهم والدفاع عن الحق.

    إن هؤلاء المستبدل بهم على ثقة بالله وبدينه الحق. وعليه فإن المستبدَلين لن يضرّوا الله شيئاً بل هم المتضرّرون لأنهم حرموا من هذا الفضل العظيم والنعمة الكبرى. يقول عزّ وجلّ في كتابه الكريم:
    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ7.

    180

    المقت الإلهي:
    الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى. فالمؤمن التقيّ على بصيرة من جهة وجوب الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، فلا يتثاقل ولا يستأذن في القعود. أمّا المنافق الفاقد للإيمان والتقوى فقلبه مرتاب ومتردّد يبحث دائماً عن المعاذير للتخلّف والقعود عن الجهاد كما قال تعالى:
    ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ8.

    إنَّ عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للأسف، بل هو مدعاة للسرور، لأنّهم لن يكونوا ذوي نفع، بل سيكونون بنفاقهم ومعنويّاتهم المتزلزلة وانحرافهم الفكريّ والخلقيّ مصدراً للكثير من المشاكل. هذا مع فرض نية مشاركتهم، ولكنهم لم يوفقوا لمثل هذه النية ولو قرّروا الخروج لتأهّبوا واستعدّوا له وأعدّوا السلاح والمركب كما قال الله تعالى:
    ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكمُ مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكمُ‏ْ سَمَّاعُونَ لهَمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّلِمِينَ9.

    نعم كره الله تعالى خروجهم مع المؤمنين ولم يوفّقهم لذلك لمعرفته بنفاقهم وبأنهم سيكونون عيوناً للمشركين على المسلمين، فضررهم أعظم من فائدتهم، فثبَّطهم (أي قلّل عزيمتهم على الخروج) لما علمه من فساد نيتهم نتيجة كفرهم

    181

    وتباطئهم عن المشاركة وميلهم للنميمة وكرههم للمؤمنين وزرع الشكّ والفتنة بين صفوف المقاتلين، وخصوصاً لدى ضعاف العقيدة والإيمان.

    إنّ الآية في الحقيقة تعطي درساً مهمّاً جداً للمسلمين؛ بأن لا يكترثوا لكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكمّيّتهم وعددهم، بل عليهم أن يفكّروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قلّة ويعملوا من أجل تربية الجيل المخلص، إن هذا درس بالغ الأهمية لمسلمي الحاضر والمستقبل.

    الفضيحة في الدنيا:

    من أهمّ آثار الحرب تمييز المؤمنين عن المنافقين، فقبل معركة أحد مثلاً لم يكن المنافقون مكشوفين عند الناس، ولا متميّزين عن المؤمنين، فجاءت واقعة أحد لتكشف زيف إيمانهم وتفضح حقيقة نواياهم السيّئة. إن الله تعالى يريد أن يميّز الخبيث من الطيّب، والمؤمن من المنافق فأمر بالخروج مع الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لملاقاة المشركين في أحد، إلّا أن فئة من الذين خرجوا مع رسول عادوا أدراجهم أثناء الطريق، ولما سُئلوا عن سبب انكفائهم وقيل لهم أنه إن لم تريدوا القتال في سبيل الله فبالحدّ الأدنى دافعوا عن أنفسكم وحرمكم وأموالكم، إلا أن المنافقين تذرّعوا بأن الأمر بين المسلمين والمشركين لا يتعدّى المناورة وعرض العضلات، ولن يصل الأمر إلى حدّ الحرب والقتال لقلّة عدد المسلمين، وكان لسان حالهم في الجواب لو تأكّدنا من أن الحرب واقعة لا محالة لحاربنا معكم، وهذا الواقع للمنافقين يحكيه قوله تعالى:
    ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئذٍ أَقْرَبُ مِنهْمْ لِلْايمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فىِ قُلُوبهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بمِا يَكْتُمُونَ10.

    182

    إن المنافقين أرادوا أن يوحوا بجوابهم هذا، أن مجابهة المسلمين للمشركين ليست من نوع القتال والحرب في شي‏ء، وإنما هي عملية انتحار، لتفوّق العدوّ عدّة وعدداً. وأرادوا بقولهم هذا أن يخفوا نفاقهم، ولكن ما حصل فضَحهم، لأن كلامهم كان أقرب إلى نصرة الأعداء منه إلى نصرة المؤمنين، وإلى تثبيط العزائم عن الحرب مع الرسول، لذا كانوا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فضلاً عن أنّ كلامهم يُستشمّ منه الاستهزاء بالزحف والاستهتار بما يمضي إليه المسلمون، فانخذالهم عن القتال إمارة تؤذن بكفرهم وفساد باطنهم وقلوبهم. فهم في الواقع كانوا يظهرون الإيمان عبر ألسنتهم ويسرّون الكفر في قلوبهم، فسرّهم غير متطابق مع جهرهم والله تعالى يعلم ما يخفونه من كفر وما يبدونه من إيمان كاذب، لأنه عالم لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء والأرض وهو بكلّ شيء محيط. إذاً، من عواقب التخلّف عن الجهاد وعدم المشاركة فيه هو الافتضاح في الدنيا قبل الآخرة.

    الطرد والإبعاد:

    يتحدّث القرآن الكريم عن المنافقين الذين يتذرّعون دائماً بالحجج والأعذار الواهية لأجل الفرار من ساحات القتال:
    ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ11.

    ويخاطب الله تعالى نبيّه إنك لو دعوتهم إلى عرض أيّ إلى غنيمة أو مال دنيويّ زائل، أو إلى سفر قصير هيّن قريب المسافة قليل الجهد لاتّبعوك دون تأخّر أو تردّد طمعاً في الكسب. ولكن صعب عليهم الأمر لما يحتاجه من تضحية بالنفس

    183

    والمال، وبعدت عليهم المسافة لما فيها من مشقّة وتعب، فتشبّثوا بالباطل وراحوا يحلفون كذباً: "لو استطعنا لخرجنا معكم"!
    وسيعتذرون عن خروجهم بعدم استطاعتهم، وسيقسمون الأيمان على عدم قدرتهم، ولكنهم يهلكونَ أَنفسهم ويخسرونها لما أضمروه حين أقسموا بالأيمان الكاذبة واعتذروا بالباطل الذي لا حقيقة له، واللَّه يعلم إنهم كاذبون وغير صادقين في اعتذارهم وفي أيمانهم.

    وهذا هو حال المنافقين دائماً، ففي كلّ مجتمع فئة على غرار المنافقين من الكسالى والطامعين والانتهازيّين الذين ينتظرون لحظات الانتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأولى، ويصرخوا بأعلى الصوت أنّهم كانوا مع المجاهدين الأوائل والمخلصين البواسل، لينالوا ثمرات جهود الآخرين دون أن يبذلوا أيّ جهد يذكر!! والمطلوب من القادة والصفوة من النّاس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر، وإن لم يكن لديهم قابليّة الإصلاح فينبغي إخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين.

    وفي آية أخرى يقول الله تعالى:
    ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ12.

    في هذه الآية التي هي محلّ البحث إشارة إلى طريقة أخرى دقيقة وخطرة من طرق المنافقين، وهي أنّهم عندما يخالفون القانون الإسلامي، يقومون بأعمال مدمجة بالمراوغة والشيطنة فيحاولون من خلالها جبران ما صدر منهم، وتبرئة ساحتهم ممّا يستحقّون من العقوبة، كأن يطلبوا الإذن بالجهاد من جديد للإيحاء

    184

    بأنهم مع المجاهدين، وبهذه الأعمال المتناقضة والمخالفة لمراد الحق وأوامره، فإنّهم يخفون وجوههم الحقيقيّة. لكن الله تعالى أظهر طردهم وإبعادهم عن رحمته وأمر نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يعطيهم الإذن ولا يسمح لهم بالخروج معه للقتال لأنّ أمرهم قد افتضح وحيلتهم هذه لن تنطلي على أحد ولن ينخدع بها أحد. فهم رضوا بالتخلّف عن الجهاد والقعود في المرّة الأولى ولو كانوا قد ندموا على تخلّفهم وتابوا منه وأرادوا الجهاد حقّاً في ميدان آخر لقبل الله تعالى منهم ذلك ولما ردعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    إن طردهم وإبعادهم لم يقف عند حدّ حرمانهم من المشاركة في القتال وافتضاح أمرهم بين الناس، بل تعدّاه إلى أمرٍ أشدّ وأصعب، فصدر الأمر الإلهي صراحة بعدم الصلاة على أحد منهم إن مات، وعدم الوقوف على قبره للدعاء له والترحّم عليه، لكي يعلم المنافقون أنه لا مكان لهم في المجتمع الإسلامي، لأن حرمان أحدهم من هذه المراسم الخاصّة بالدفن يعني طرده من المجتمع الإسلامي، وإذا كان الطارد هو النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ الصدمة وأثرها على نفسيّة المنافقين ووجودهم سيكون شديداً جداً.

    الحرمان من الهداية الإلهية:

    قال الله تعالى في كتابه الكريم:
    ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ13.

    تخاطب الآية الكريمة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعنّف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين بسبب تعلّقهم وحبّهم لأرحامهم وأموالهم ومساكنهم. لأن ترجيح

    185

    مثل هذه الأمور على رضا اللّه تعالى والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن. فمن تشبّث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية اللّه كما يقول تعالى في الختام.

    فهذه الآية ترسم بشكل واضح خطوط الإيمان الأصيل وتميّزها عن الإيمان المشوب بالشرك والنفاق. وتقول بشكلٍ صريح أن كلّ من يقدّم الحياة المادية ومتعلّقات هذه الحياة المادية من الأرحام والأقارب، والعشيرة، والمال، والاكتساب والتجارة، والمساكن، على الجهاد في سبيل الله، بمعنى أنها كانت أعزّ على قلبه وأغلى على نفسه من الله ورسوله وامتثال أمره بالجهاد في سبيله، ولم يكن مستعدّاً للتضحية بها من أجل الله ورسوله والجهاد، فإيمانه الواقعي لم يكتمل بعد، لأن حقيقة الإيمان وروحه وجوهره تتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون أدنى تردّد. ومن لا يرغب بالتضحية بها، فسوف يظلم نفسه ومجتمعه، لأن الأمّة التي تتلكّأ في اللحظات الحسّاسة من تأريخها المصيري، وفي المآزق الحاسمة، فلا يضحّي أبناؤها، فستواجه الهزيمة عاجلاً أو آجلاً، ومن ثمّ ستكون هذه الأمور المادية التي تعلّقت القلوب بها عرضة لخطر الضياع والتلف بيد الأعداء.

    وفي ختام الآية تهديد صريح لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضّلونها على رضا اللّه، ويطلب الحق منهم الانتظار ليروا عاقبة أفعالهم
    ﴿فَترَبَّصُواْ حَتىَ‏ يَأْتىِ‏َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يهَْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، لأن كل من يخرج من زيّ العبودية لله تعالى والطاعة له فاسق عن أمر الله، ولا يستحقّ منه الهداية. وأي عاقبة أسوء من أن يحرم المرء من هداية الحق له؟ ولمّا كان هذا التهديد مجملاً "فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره" كان أثره أشدّ وحشة، وهذا التعبير يشبه قول القائل: إذا لم تفعل ما آمرك، فسأقوم بما ينبغي عليّ القيام به.

    186

    المفاهيم الرئيسية
    1- يعتبر الفرار من الزحف من الكبائر التي وعد الله تعالى أصحابها سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
    2- لقد حصل في صدر الإسلام أن تخلّى بعض الناس من المنافقين عن الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عن الإسلام، فنزلت آيات قرآنية عديدة تفضحهم وتلزم النبي والمسلمين بمقاطعتهم وعدم قبول ما يدّعونه من توبة وندم، وذلك عقاباً لهم وتأديباً لغيرهم ممن تسوّل له نفسه ترك الجهاد.

    3- يحذّر الله تعالى من يرتدّ عن الدين والإيمان الصادق به، ولا يلتزم بالجهاد، إذ سوف يستبدل الله به من هو أحقّ منه بهذه المكرمة.
    4- إنّ الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى.

    5- إن المنافق الفاقد للإيمان والتقوى قلبه مرتاب ومتردّد يبحث دائماً عن المعاذير للتخلّف والقعود عن الجهاد، قال تعالى:
    ﴿إنَّمَا يَسْتَأذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخر وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَترَدَّدُونَ.

    6- من أهمّ آثار الحرب التَّمييز بين المؤمنين والمنافقين، فقبلَ معركة أحُد مثلاً لم يكن المنافقون مكشوفين عند الناس، ولا متميّزين عن المؤمنين، فجاءت واقعة أحد لتكشف زيف إيمانهم وتفضح حقيقة نواياهم السيّئة.

    7- من عواقب الفرار من الزحف الحرمان من الهداية الإلهية، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم:
    ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، فترجيح المال والولد والزوجة على رضا اللّه تعالى والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن، ومن يتشبّث قلبه بتلك الأمور هو غير جدير بهداية اللّه تعالى.


  • #2
    عواقب الفرار من الزحف _ 2
    أهداف الدرس:
    - التعرّف على الآثار السلبية الأخرى الناجمة عن ترك الجهاد.
    - بيان أنّ الفرار من الزحف سببٌ أساسيٌّ في الهزيمة وتسلُّط الظَّالمين على المؤمنين.
    - التّعرّف على العاقبة السيئة للفرار من الزحف.


    190

    من العواقب الوخيمة والآثار السلبية الأخرى لترك الجهاد والقعود عنه:
    خراب دُور التوحيد ومحالّ العبادة:
    من التبعات المضرّة لترك الجهاد، هو زوال دور التوحيد ومَحَالُّ عبادة الإنسان لله. فقد حذّر القرآن المجيد من أنّ الناس ما لم يقوموا بتكليفهم في الدفاع، فسوف تتهدّم دور عبادة المسلمين، بل جميع دور عبادة الأديان التوحيدية الأخرى، قال تعالى:
    ï´؟وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌï´¾1. ومن الممكن أن يكون ذكر المساجد

    191

    والمعابد في الآية قد ورد على سبيل المثال، وعليه فهي تتعدّاها لتشمل المراكز الثقافية الواعية والأصيلة، وتلك المسؤولة عن تقدّم الأفراد والمجتمع ونضجهما.

    إن وخامة ترك الجهاد وإهماله، والفرار من الزحف، والتي هي من معاني فلسفة "دفع الله الناس بعضهم ببعض" لسوف تظهر في هدم بيوت العبادة وأماكن التوحيد والتي لها المردود الخطير على تطوّر الناس وتكاملهم المعنوي والفكري.

    الذلّة والمهانة:

    من العواقب الملموسة للإعراض والتخلِّي عن الجهاد، عاقبةُ الذلَّة والمهانة، في الدُّنيا والآخرة، والتي تشملُ كلَّ أمّةٍ تركت الجهاد في سبيل الله. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الجهاد ألبسه الله ذلّاً في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إنّ الله تبارك وتعالى أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"2.

    ونرى أيضاً أن أمير المؤمنين عليه السلام وبعد تشجيعه على الجهاد وبيان فضله في خطبته المشهورة حول الجهاد، فإنه يشير إلى تبعات التهاون والقعود عن القيام بالجهاد، حيث يقول: "فمن تركَهُ رغبةً عنهُ ألبسَهُ اللهُ ثوبَ الذلِّ وشمْلَةَ البلاءِ ودُيِّثَ بالصَّغارِ والقَماءَة"3.

    ومن المشكلات الكبيرة التي واجهت أمير المؤمنين عليه السلام طوال مدّة حكمه، عدم استعداد الناس للدفاع عن دين الله، وخلوّ عزائمهم من القوة والعزم على القيام لله تعالى. وقد بيّن الإمام علي عليه السلام في العديد من الكلمات والخطب عدم رضاه عن أصحابه وموقفِهم من مسألة الجهاد، موجّهاً انتقاداته لهم،


    192

    وموضّحاً عواقب الضعف عن القيام بهذا الواجب في السياق.

    وفي أحد هذه الموارد، يشير الإمام عليه السلام إلى أنّ القعود عن الجهاد يؤدّي إلى انتصار العدو وانفلات زمام إدارة المجتمع من يد الحكّام، حيث يقول عليه السلام: "فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنّت عليكم الغاراتُ ومُلكتْ عليكمُ الأوطان"4.

    ومن مظاهر هذه الذلّة التي تشملهم نتيجة ترك الجهاد، أنّهم يعجزون عن أن يكونوا قوّة يُنتقم بها من الباطل، أو يستفاد منها في تحقيق أيّ من أهداف الإسلام، حيث يقول عليه السلام: "فما يدركُ بكم ثارٌ ولا يُبلغُ بكم مُرام"5. وفي مثل هكذا مجتمع لا يتوقّع حدوث التوفيق والتقدّم، ويوماً بعد يومٍ يزدادُ الضَّعفُ وتقلُّ الاستفادة من المعارف الإلهية، ويُبتلى هذا المجتمعُ بسقوط القِيَمِ والانحطاطِ، بل يكون أكلة سائغة في فم الأعداء.

    وتشهدُ تجاربُ التاريخ على أنّ المجتمعَ الذي كان أمير المؤمنين عليه السلام يعيشُ فيه، والذي كان قد تركَ الجهاد، عانى من عواقب وخيمة وظلمٍ شديد، إلى الحدّ الذي تسلّط عليه - وخلال مدّة قصيرة - أشخاص خنقوا كلّ صوت يرتفع مطالباً بالحقّ، وقتلوا وسجنوا وعذّبوا المؤمنين وقادتهم!

    وقد أشار القرآن الكريم في أحد المواطن، وبشكل صريح، إلى عاقبة الذلّة في الدنيا عند ترك الجهاد، حيث ذكر أنّ بني إسرائيل قد عوقبوا بالتيه أربعين سنة على أثر عصيان هذا الأمر الإلهي:
    ï´؟قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَï´¾6. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الإعراض عن الجهاد والانشغال بالدنيا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لئن أنتم

    193

    اتّبعتم أذناب البقر وتبايعتم بالعِينَة وتركتم الجهادَ في سبيل الله، ليلزمنّكُم الله مذلّة في أعناقكم ثمّ لا تُنزعُ منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه أو تتوبوا إلى الله"7.

    تسلّط الظالمين وفقدان القوّة والعزّة:

    إنّ الأثر الكبير الذي يظهر مباشرةً جرَّاء ترك الإنسان للجهاد وتقاعسه عنه، هو خذلانه لأولياء الله تعالى وقادة المؤمنين وتركه لهم وحيدين في ميدان المواجهة والصراع, وبالتالي خذلانه للمبادئ والأسس التي قام من أجلها هؤلاء الناس.

    إنّ التاريخ مملوء بأمثال هؤلاء، ومنهم المنافقون والفاسقون الذين كانوا يعرفون أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي حقّ ونور، لكنهم خذلوه وقت الشدة، ومنهم من قاتله وصارعه، محبةً منهم وولاية للكفّار والمشركين وطمعاً بالحفاظ على المال والأولاد والأملاك من بطش قريش. فهؤلاء رأوا بأم العين كيف انقلب عليهم ظهر المجن، وذاقوا طعم الفضيحة والخسران في الدنيا
    ï´؟أُوْلئِكَ الَّذينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِï´¾8 ويقول الله تعالى عنهم ï´؟وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَï´¾9.

    ثم حصل هذا الأمر مع الإمام علي عليه السلام، حيث أصاب جيشه الإحباط في الهمم والفتور عن القتال والجهاد ضد معاوية وجيشه الظالم، ولذلك كان الأمير عليه السلام يعاني الأمرّين في شحذ هممهم وبث روح الشجاعة والحميَّة في نفوسهم، رغم أنّه عيَّرهم بتفوّق الأعداء عليهم وانتهاكهم أعراض المسلمين، فيقول عليه السلام


    194

    في خطبته المشهورة في الجهاد "ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا. فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنّت الغارات عليكم وملكت عليكم الأوطان. وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان ابن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها. ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلمٌ ولا أُريق لهم دم"10, ولك أن تلاحظ أن أمير المؤمنين عليه السلام يلوم المتخاذلين بما فعله العدو بهم ويذكّرهم بأولئك الضحايا الذين قتلوا نتيجة تخاذلهم، وهو بالتالي كأنه يقول لهم أن هذه الحالة ستكون حالتهم أيضاً فيما لو تركوا الجهاد مرَّةً أخرى، بل هو يترقّى في تهديده لهم بقوله: "فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى يغار عليكم ولا تغيرون"11, إنها نتيجة الخذلان والتقاعس، حيث يصبح المجتمع بلا هيبة ولا قوة ولا منعة ولا عزة!

    ومن الأمثلة التي تضرب على تسلّط الظالمين كنتيجة لترك الجهاد في سبيل الله مع الإمام العادل أو وليّه، هو ما حصل لأهل المدينة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء حيث وفدوا على يزيد بعد جريمته الكبرى، فوجدوه يعيش في حالات متطرّفة من الفسق والفجور فأبوا أن يقرّوا له بالبيعة. عندها


    195

    أرسل جيشه إلى المدينة وعلى رأسه مسلم بن عقبة الفاجر الكافر، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً، لكنهم هزموا، فدخل جيش يزيد المدينة ثلاثة أيام مستبيحاً لكل حرمة فيها، فقتل فيها سبعمائة من قرّاء القرآن، وأربعة من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق بعدها بدريٌّ على وجه الأرض، وافتَّضت من بنات أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف عذراء، وكثر فيها قتل للناس حتى بلغ القتلى عشرات الآلاف، ثم أُرغم الناس على مبايعة يزيد على أنهم عبيد عنده! هذه هي نتيجة خذلان الإمام الحسين عليه السلام وتركه غريباً في المدينة، فلو أنهم ناصروه وقاموا بوظيفتهم الجهادية بين يديه، لربما انقلب الحكم إلى أهله ولما حلّ ظلم على أحد على وجه الأرض وحتى قيام الساعة.

    إن هذه الحقيقة التي حصلت مع أهل المدينة هي عبرة لنا، فلو تركنا الجهاد وفررنا من الزحف في مواجهة العدو الإسرائيلي لأمعن في قرانا ومدننا القتل والأسر والانتهاك لكل الحقوق!

    إذاً، لا بد للمجاهدين المؤمنين أن يجعلوا هذه الحوادث والعبر عنواناً يظلّ ماثلاً أمام أعينهم، فلا يغفلوا عن نصرة الحق ولو أدّى ذلك إلى قتلهم وإبادتهم، وكما قال الأمير عليه السلام "الموت في حياتكم قاهرين، والحياة في موتكم مقهورين"12.

    العاقبة السيّئة:

    يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
    ï´؟فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يجُاهِدُواْ بِأَمْوَالهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فىِ الحْرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ

    196

    أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كاَنُواْ يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءَ بِمَا كاَنُواْ يَكْسِبُونï´¾13.

    تتحدّث الآية الكريمة عن حال المنافقين الذين تخلّفوا عن الجهاد في غزوة تبوك14 وخالفوا تكليفهم الشرعي وكرهوا الجهاد بأموالهم وأنفسهم، ثم اعتذروا بالأعذار الواهية، وفرحوا بالسلامة والجلوس في البيت بدل المخاطرة بأنفسهم والاشتراك في الحرب، بدل أن يضعوا كل وجودهم وإمكاناتهم في سبيل اللّه ليفوزوا بشرف الجهاد وعنوان المجاهدين.

    ولم يكتفوا بتخلّفهم وتركهم للواجب بل سعوا في بثّ وساوسهم الشيطانيّة بين المسلمين، محاولين إخماد جذوة الحماسة الملتهبة في صدورهم، وتشبّثوا بكل عذر يحقّق لهم هذا الهدف حتى لو كان العذر هو الحرّ!! فهم كانوا يطمعون من جهة في إضعاف إرادة المسلمين، ومن جهة أخرى كانوا يحاولون سحب أكبر عدد ممكن من المسلمين إلى صفوفهم حتى لا ينفردوا وحدهم بالجرم. فأمر الله تعالى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيبهم بلهجة شديدة وأسلوب قاطع أن نار جهنّم أشدّ حرّاً من الرمضاء، فشرارة واحدة من تلك النّار أشدّ حرارة من جميع نيران الدّنيا وأشدّ حرقة وألماً، ولكنهم وللأسف لضعف إيمانهم، ولقلّة إدراكهم لا يعلمون أيّة نار تنتظرهم!

    وهؤلاء ظنّوا أنّهم بتخلّفهم وتخذيلهم المسلمين وصرف أنظارهم عن الجهاد قد فازوا وحقّقوا نصراً، فضحكوا لذلك وقهقهوا بمل‏ء أفواههم، إلّا أنّ القرآن حذّرهم من عاقبة ما اجترحته أيديهم وحذّرهم من العذاب الشديد الذي ينتظرهم، وسيندمون على ما أنفقوا من قدراتهم وعمرهم الثّمين، وما اشتروا من


    197

    الخزي والفضيحة وسوء العاقبة إنّها النَّتيجة الطَّبيعيّة لما كسبوه بأيديهم في الحياة الدُّنيا.

    الحسرة والندامة:

    يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
    ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَï´¾15.

    الآية الكريمة توجّه الخطاب إلى المؤمنين وتحذّرهم من مغبّة الوقوع في شراك المنافقين وخداعهم وتدليسهم. فلا يقولوا بمقالة المنافقين الذين لا همّ لهم سوى النيل من روحيّة المسلمين وإضعاف معنويّاتهم وزعزعة أسس إيمانهم. لأنهم إذا وقعوا تحت تأثير هذه الكلمات المضلّة الغاوية، وكرّروا نظائرها فستضعف معنويّاتهم، وسيمتنعون عن الخروج إلى ميادين الجهاد في سبيل الله، وعندها سيتحقّق للمنافقين ما يصبون إليه. بل عليكم أن تتقدّموا إلى سوح الجهاد وميادين القتال بمعنويّات عالية، وعزم أكيد ودون تردّد ولا كلل، ليجعل اللّه ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذولين أبداً. والآية تردّ على خبث المنافقين وتسويلاتهم بثلاثة أجوبة منطقيّة:
    الأول: إن الموت والحياة بيد اللّه على كلّ حال، وإن الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغيّر من هذا الواقع شيئاً، وإن اللّه عالم بأعمال عباده جميعها وبصير بها.


    198

    الثاني: إنكم حتّى إذا متّم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجّل كما يظنّ المنافقون فإنّكم لن تخسروا شيئاً، لأن رحمة اللّه وغفرانه أعظم من كلّ ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون من مال وثروة. بل لا مجال للمقارنة بين الأمرين، لأن ما يحصل عليه المؤمنون عن طريق الشهادة أو الموت في سبيل اللّه، أفضل من كلّ ما يجمعه الكفّار والمنافقون عن طريق حياتهم الموبوءة، المليئة بالشهوات الرخيصة وعبادة المال والدنيا.

    ثالثا: بغضّ النظر عن كلّ ما قلنا فإن الموت لا يعني الفناء والعدم حتّى يُخشى منه هذه الخشية ويُخاف منه هذا الخوف، ويُستوحش منه هذا الاستيحاش، بل هو نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأفضل، حياة موصوفة بالبقاء والخلود. إذاً، في كل الأحوال المؤمنون هم المستفيدون رغم أنف المنافقين وهذا ما يزيد الحسرة لديهم ويضاعفها فيهم.

    الطبع على القلوب:

    يقول الله عزّ جل:
    ï´؟وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَï´¾16.

    الآية تتحدّث عن حال المنافقين إذا ما دعا الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الثبات على الإيمان، والجهاد في سبيل اللّه، فإنّهم رغم ما يتمتّعون به من طَوْلٍ أي من قدرات جسمانية ومالية، إلا أنّهم يطلبون العذر والإذن بعدم المشاركة والبقاء مع ذوي الأعذار الذين لا قدرة لديهم على الحضور والمشاركة في الجهاد. فهم على الرغم من توفّر كلّ الشروط فيهم، وامتلاك كلّ المستلزمات المطلوبة للجهاد، مع


    199

    ذلك يحاولون التملّص من أداء هذا الواجب الإلهيّ الحسّاس والخطير، فجاءوا إلى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلبون الإذن في الانصراف. فوبّخهم القرآن وقبّح فعلهم لأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف أي المعذورين عن المشاركة في الحرب بسبب ضعفهم وعجزهم. وهم لكثرة ذنوبهم ونفاقهم طبع الله تعالى على قلوبهم فسلبهم القدرة على التفكير والإدراك والمعرفة الصحيحة، فهم الجاهلون.

    200

    المفاهيم الرئيسية
    1- من التبعات المضرّة لترك الجهاد، زوال دور التوحيد ومَحَال عبادة الإنسان لله، قال تعالى: ï´؟وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌï´¾.

    2- من العواقب الملموسة للإعراض والتخلِّي عن الجهاد، عاقبةُ الذلَّة والمهانة، في الدُّنيا والآخرة، والتي تشملُ كلَّ أمّةٍ تركت الجهاد في سبيل الله، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الجهاد ألبسه الله ذلّاً في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه".

    3- من تبعات ترك الجهاد، خذلان الإنسان لأولياء الله تعالى وقادة المؤمنين وتركه لهم وحيدين في ميدان المواجهة والصراع, وبالتالي خذلانه للمبادئ والأسس التي قام من أجلها هؤلاء الناس.

    4- من علامات المنافق أنك إذا دعوته للجهاد في سبيل الله تذرّع لك بعدم القدرة وطلب الإذن والعذر بعدم المشاركة رغم ما يتمتّع به من قدرات جسمانية ومالية.، والقرآن قبّح فعل هذا الصنف من الناس بشدّة لأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف أي المعذورين عن المشاركة.

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X