الحديقة الثامنة
وفيها
* حُسن الخلُق
* الرحمة هي المدخل
* نظرة في النفس، والبيت
* دعاء اليوم الثامن
* صلاة الليلة التاسعة
في خطبة المصطفى حول شهر رمضان المبارك ورد قوله صلى الله عليه وآله:"من حسَّن منكم في هذا الشهر خُلُقه كان له جواز على الصراط يوم تزلُّ فيه الأقدام".
* حُسن الخلُق
كان محورالحديث السابق هو الرحمة، وبين الرحمة والخُلق علاقة وطيدة، إذ ينتج سوء الخُلق عادةً من قسوة القلب، التي تجعل القلب يضيق ذرعاً، وبالتالي مؤهلاً للحقد من خلال تصاعد الإستياء بسرعة قياسية ثم يصل الأمر إلى التعبير عن الإستياء بما يظهر على فلتات اللسان وقسمات الوجه، وحتى إذا لم يعبِّر الإنسان عما في داخله وغلت مراجل الحقد في قلبه فهو سيء الخُلق إلا أنه إذا سيطر على هذه الحالة فإنه يتمتع بكظم الغيظ، أي أنه يمتلك هذه القدرة الهائلة على عدم إظهار سوء الخلق.
وهذا يعني أن لحسن الخلُق مرتبتين:
الأولى: أن لايُستفز الإنسان في باطنه، بل يكون له من الحلم وسائر الأخلاق الحسنة مايحول بينه وبين ذلك.
الثانية: أن تعتمل في باطنه عوامل الإستثارة والإستفزاز، ولكنه يسيطر عليها فلا يدعها تتفجر لتنعكس على ظاهره، فضلاً عن أن يتصرف على أساسها، فيعامل الطرف الآخر بما ينسجم معها.
وبديهي أن حُسن الخُلُق بالمعنى الأول: أن لا يُثار في باطنه، أصعب بكثير من حُسن الخُلُق بالمعنى الثاني: أن لا يعبّرعما في داخله، أو لا يتصرف تصرفاً سيئاً مستجيباً لما يدور في باطنه من جرّاء سوء الخلق الكامن.
إلا أن من وصل إلى حسن الخلق بهذا المعنى الثاني، أي إلى مرحلة أنه يُستثار لكنه وإن أثير في داخله إلا أنه على مستوى الخارج لا يستجيب للإثارة، بل يتماسك ويتجلّد و يكظم غيظه، فهو في مرحلة متقدمة جداً من "حُسن الخُلُق" ومع أنها أقل مرتبة من الأولى، إلا أنها الطريق الحصري عادة للوصول إلى الأولى.
ولابد من التنبه إلى أن الهدف الذي ينبغي أن يكون نصب العين دائماً هو الأُولى، أي حسن الخلق بأعلى مراتبه، ولايصح أن تكون صعوبته الشديدة مانعاً من الحُلُم بتحققه لأمرين:
1- أن الوصول إلى أي مرتبة من الخلق الحسن، فرع الإصرارللوصول، والإلحاح في الطلب، ومن رأى الله تعالى صدقه أعطاه، ومادام هذا الوصول ليس بحولنا وقوتنا بل بحول الله سبحانه وقوته فلماذا لانطلب مانظنه مستحيلاً؟
2- أن مجرد بقاء آثار سوء الخلق في الداخل، يهدد أي إنجاز، بمعنى أن من وصل إلى مرتبة أنه يستثار في داخله، ولكنه يكظم غيظه، فقد ينفجر هذا الغيظ بعض المرات فيبدأ يضرى في نفسه ويقوى ثم يغلبه فيصبح عاجزاً عن كظمه.كما لابد من التنبه بعد ماسبق إلى أن الظاهر من حديث حسن الخلق عند كثير ممن تصدوا له وبشكل عام هو المعنى الثاني، أي السيطرة على الخارج ومنع الجوارح من الإنسياق أمام رغبة الباطن،إلا أن من الوضوح بمكان أن النصوص سواء الآيات أو الروايات تطرح المعنيين المتقدمين بشكل تراتبي، فالثاني هدف يتيح الوصول إلى الأول.
ويكفي لإثبات ذلك التأمل في النصوص التي تتحدث عن حسن السريرة، وطهارة الباطن، وسلامة القلب، وقلع الشر من الصدر وغيرها.
والفائدة العملية هي أن نحرص في التضرع والتوسل لِيَمُنَّ الله تعالى علينا بأعلى مراتب حسن الخلق وماذلك عليه بعزيز.
* الرحمة هي المدخل
تقدمت الإشارة إلى العلاقة بين الرحمة و حسن الخلق، وهي بحاجة إلى توضيح، فليس معنى ذلك أن كل من تصدر منه الرحمة فهو يتحلى بحسن الخلق، لأن مانشاهده وجداناً أن من الناس من يرحم ويعطف، إلا أنه سيء الخُلُق، يُستثار ويستجيب للإثارة، ويتصرف بما لا يليق ولا ينبغي.
إلا أن الفرق الجوهري بين من يمتلك الرحمة وتظهر في تصرفاته، وبين من لايمتلكها،هوأنه مؤهل للتحلي بالخلق الحسن، لأن الرحمة تكشف عن درجة مهمة من درجات حياة القلب التي قد نعبر عنها بأنه صاحب ضمير حي.
إن وجود الرحمة في القلب بأي مرتبة كانت، يعني وجود مرتبة من لين القلب والرقة، وهي مؤشر على إمكانية الوصول إلى مكارم الأخلاق، كما هي استجابة الجسد الذي يحتمل موته لبعض الإسعافات الأولية مؤشر على إمكانية الشفاء.
ومن المجالات التي يظهر فيها تأثير الرحمة ورِقّة القلب في حُسن الخُلُق أن الإنسان الذي يمتلك مرتبة من مراتب الرحمة إذا صدر منه تصرف غير سليم يكشف عن سوء خُلُق فإنه يشعر بوخز الضمير الذي يلاحقه إلى أن يعتذر- وإن لم يفعل لأن رحمته لم تصل بعد إلى هذه المرتبة- فإن هذه المعاناة تشكّل على الأقل دافعاً يعينه في المراحل التالية من حياته على الإقتراب من حُسن الخُلُق.
من هنا كانت الرحمة المدخل إلى التخلص من سوء الخلق والوصول إلى حسن الخلق ومكارم الأخلاق المحمدية.
وبمقدار التنبه إلى هذا الترابط بين مافي القلب من رحمة، واستثماره في مجال بناء النفس، تكون النتيجة أفضل وأسرع.
والترجمة العملية لذلك هي أن ينطلق كلٌّ منا من مخزون الرحمة الذي يكتشفه في قلبه للوصول إلى التحلّي بمكارم الأخلاق وذلك بالبيان التالي:
1- التأمّل في تعقيدات النفس: " إلهي أشكو إليك نفساً يالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك أهون هالك كثيرة العلل، طويلة الأمل..".
2- إدراك صعوبة التخلص من الصفات الراسخة في هذه النفس والتي هي الخُلُق، فالخُلُق هو الصفة الثابتة في النفس والراسخة فيها، فإذا أراد الإنسان أن يتخلص من صفة سيئة واحدة كسوء الظن أو حب السمعة والجاه، أوالرياء، أو العُجُب،أوالتكبُّر فكم يحتاج إلى بذل الجهد؟ يُنقل في هذا المجال أن تلامذة السيد بحر العلوم رضوان الله عليه رأوه ذات يوم فرحاً مسروراً، وسألوه عن السبب فقال: بعد جهد استمر عشرين سنة تمكنت هذا اليوم أن أتخلص من الرياء. إذا كانت خصلة واحدة سيئة تحتاج إلى كل هذا الجهاد الأكبر فكيف يستطيع الإنسان أن يتخلص من سائر الصفات السيئة فيه ليصبح حسَن الخُلُق.
3- هنا يأتي دور مخزون الرحمة الصغير أو الكبير الذي يجده أحدنا في قلبه، فاستثمار هذه الرحمة هو الطريق الأقصر للوصول إلى حُسن الخُلُق،وذلك على قاعدة: من أراد أن يُرحم فليرحَم، من أراد أن يتحنّن الله عليه فليتحنّن.
4- وهذا يستدعي ممن يريد الوصول بالرحمة إلى حسن الخلق، أن يحمل همَّ تهذيب نفسه من مساويء الأخلاق، ويبحث عن مواطن الرحمة ليرحم فلعله يُرحم، يبحث عن يتيم، أو فقير قد سحقه الفقر بكلكله وهو ممن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، أومريض لا سبيل له إلى العلاج، فيسدي إليه يداً ويخدمه بما يستطيع ولو بالإصغاء إليه والتخفيف عنه بكلمات هي فيض خزين الرحمة في قلبه، ويكون هدفه أنه يفعل ذلك لأنه حق، ونوع من حسن الخلق وهو يرجو من كرم الله تعالى أن يخلصه من سوء الخلق ويحلي قلبه بحُسنه.
5- التأمل دائماً في مخاطر سوء الخلق ليعزز في نفسه شدة الحب للتخلص منها، وليظهر ذلك في مدى مايستعد له من رحمة الآخرين، وليظهر أيضاً في حرارة التضرع إلى الله تعالى ليمن عليه بهذه النقلة الكبيرة من مهاوي سوء الخلق إلى قمم حسن الخلق.
6- وفي الوقت الذي يتعامل المؤمن مع مفردات سوء الخلق التي يريد الخلاص منها، فيذكر كلاً منها بخصوصه، ينبغي التركيز على الكليات والعناوين العامة من قبيل حب الدنيا، وغلبة الشقوة والهوى وغير ذلك، ولكل من الطريقتين فوائد كبيرة كما لايخفى.
وهكذا نكون أمام منهجية استثمار الرحمة التي نكتشف بقاءها في القلب رغم كل فتك الذنوب، لنتدرج بها ومعها في مدارج الكمال.
أيها العزيز: شهر الله تعالى مناخ لتحسين الخلق فلا نجعله مناخاً لتجذير سوء الخُلُق. إن الهمٌّ الكبيرالذي ينبغي أن نحمله طيلة هذا الشهرالعظّيم، هو كيف يمكننا أن نتخلص من الأخلاق السيئة، وإذا لم نلتفت لذلك وأرخينا لأنفسنا العنان فإننا تلقائياً وبسبب هذه الغفلة والصوم والجوع نصبح نستثار بسرعة أكبر، فنغضب ونكثر من التصرفات المنافية، وستكون النتيجة أننا بدل أن نستثمر شهر الله تعالى ونستفيد من الصيام لتحسين الخلق فإننا سنخرج من شهر رمضان وقد تجذَّر فينا سوء الخُلُق والعياذ بالله تعالى.
لذلك ينبغي الإنتباه والحذر وأن نلتزم عملياً في شهر الله تعالى بتحسين أخلاقنا ولو بحدود متدنّية، فإن أصل الإصرار على ذلك يفتح الباب أمام القلب على المراتب التالية.أشير هنا إلى أن المصطفى صلى الله عليه وآله يقول " من حسَّن منكم في هذا الشهر خُلُقه" وهو يشمل من لم يصبح حسَن الخُلُق مطلقاً، أي أن من تحسّنت أخلاقه نسبياً فهو أيضاً " له جواز على الصراط" وهذا منتهى الواقعية، بمعنى أن من لا يستطيع الوصول إلى حُسن الخُلُق التام فليحاول على الأقل أن تصبح أخلاقه أحسن مما هي عليه الآن.
* نظرة في النفس، والبيت
ويتوقف ذلك على إدراك أن من الأساسيات في هذا الشهر العمل على تحسين الخُلق.
ومن المفيد لحمل النفس على ذلك، التفكير في مضار سوء الخلق، من خلال طرح الأسئلة التالية على النفس:أيُّ نُبلٍ في سوء الخُلُق يا ترى؟
لقد غضبت في كثير من الموارد في ما مضى، فماذا كانت النتيجة؟
ما أسوأ موقف من يغضب فيُرغي ويُزبد ثم يتبيّن أنه لم يكن على حق؟
أيهما أفضل أن يتكلم الإنسان ما يريده بطريقة هادئة وهو مسيطر على أعصابه فيشعر بالسعادة لأنه تصرف بعقل وحكمة، ويُلقّن الآخرين درساً في حُسن الخُلُق، أو أن يسمح للشيطان بأن يستفِزّه فإذا هو خفيف لا قيمة له ولا وزن، ريشة في مهب ريح الشيطان، وكرة يتقاذفها؟
ولايمكن تصويب عملية التفكير هذه و ترشيد ها بمعزل عن الإكثار من التواصل مع الروايات، خصوصاً ماكان منها منصباً على مضار سوء الخلق، من قبيل:
1- "من ساء خُلُقُه عذّب نفسه".
2- "من ساء خُلُقُه مَلَّه أهله".
3- "من ساء خُلُقُه أعوزه الصديق والرفيق".
4- "سوء الخُلُق نَكَد العيش وعذاب النفس".
5- "إن سوء الخُلُق لَيفسد العمل كما يُفسد الخل العسل".
هل نحمل في شهر الله تعالى همَّ أن نصل إلى العيد و توزيع الجوائز، وإذا من بين الجوائز التي حصلنا عليها جائزة مكارم الأخلاق، أو جائزة التخلص من الرياء، أومن الغضب، أوالعُجُب، أو جائزة أن يكون هذا البيت محمدياً.
إن سوء الخُلُق يُسمّم جو البيت، ويجعله جحيماً لا يطاق، وقد يكون الأب وحده هو مصدر هذا الجحيم، وقد تكون الأم شريكة، وربما كان العكس.
ما ذنب الأولاد ليعيشوا في جحيم بسبب سوء أخلاق الأبوين، وهل من حق الولد على الوالد أن يحسن تسميته وليس من حقه عليه أن يحسن تربيته؟!
وأي سوء تربية يفوق أن يلقن الأبوان وهما القدوة سوء الخلق للولد؟
هل نفكر أيها الأعزاء في شهر الله تعالى أن نُطلََََّ على أولادنا بروح جديدة؟
فليفكر كلّ ٌمنا بما يعمر قلبه من الحب العارم، والحنان الطافح عندما يغيب عن أولاده أو عندما يغيب عنه أولاده، ليتصور نفسه أنه مات وبقي أولاده بعده؟
يساعدنا على تحسين الخلق، أن نعَمّق حب أولادنا في نفوسنا ونعمّق فيها كذلك خطورة سوء الخُلُق خصوصاً في شهر الله تعالى.
يجب أن نربأ ببيوتنا عن أن تشعر المرأة في البيت بإهانة خصوصاً في شهر رمضان، أو أن يشعر الأولاد بأن أباهم غاضب لأنه صائم.
ويجب على المرأة أن تحفظ حرمة الأب ومكانته في نفسها وأمام أولادها.
ومن اعتبر الصوم عذراً لسوء خلقه، فليتنبه ببساطة إلى أن الآخرين أيضاً صائمون، وهذه التصرفات لا تناسب المسلم.
هذا البيت المحمدي المبارك ينبغي أن يُعطَّر بحُسن الخُلُق المحمدي لاسيما في شهر الله تعالى، ومن لم يستطع أن يكون حسَن الخُلُق دائماً فليحاول في البدء أن ينشر شذا هذه الروح المحمدية المباركة "وإنك لعلى خُلُق عظيم" ولو لساعات، وهي كفيلة بالأخذ بيده وبمجامع القلب إلى أعتاب سيد المرسلين فإنه صلى الله عليه وآله "عزيز عليه ماعنتُّم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
* دعاء اليوم الثامن
"أللهم ارزقني فيه رحمة الأيتام وإطعام الطعام وإفشاء السلام وصحبة الكرام بطََوْلك يا ملجأ الآمنين".
لماذا يبدأ الدعاء بالتركيز على رحمة الأيتام؟
إن اليتيم منقطع لا ملجأ له من الناس، يقف وحيداً في مهب الأعاصير مكشوفاً، لا يُخدم عادةً لهدف مصلحي وإنما قربة إلى الله تعالى، ومن رُزِق رحمته فقد رُزِق إخلاصاً محضاً، وبهذه الرحمة المخلصة تتصل نية من خدم اليتيم بسائر ينابيع الحب- وهل الدين إلا الحب- فيُطعم الطعام لوجه الله لا يريد جزاءً ولا شكوراً ويُفشي السلام، وينشر المحبة والأمن والإحساس بالطمأنينة في بيته وبين جيرانه ومعارفه كذلك لوجه الله فينتظم في سرب الكرام البَررة- شبيه الشيء منجذبٌ إليه- ومن رُزِق صحبة الكرام فقد أقام الجسر الذي يعبر به من سوء الخلق إلى ديار الفضائل ومكارم الأخلاق، الذي تهفو إليه نفسه ويهوى الفؤاد فيردد: إلهي مُنَّ عليّ بذلك فأنت ذو الطَّول الغني المتفضل بطَوْلك يا ملجأ الآمنين.
* صلاة الليلة التاسعة
1- صلاة عشرين ركعة هي حصة كل ليلة إلى العشرين من الألف ركعة، ثمان منها بين المغرب والعشاء، والباقي بعد العشاء، كل ركعتين بتسليمة،يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد مرة أو ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو عشراً.
2- عن رسول الله صلى الله عليه وآله:ومن صلى في الليلة التاسعة من شهر رمضان قبل العشائين ست ركعات يقرأ في كل ركعة الحمد وآية الكرسي سبع مرات وصلى على النبي خمسين مرة صعدت الملائكة بعمله كعمل الصديقين والشهداء والصالحين.
3- قال الكفعمي: "ويستحب أن يصلي في كل ليلة من شهر رمضان ركعتين بالحمدمرة، والتوحيد ثلاثا، فإذا سلَّم قال: سبحان من هو حفيظ لايغفل، سبحان من هو رحيم لايعجل، سبحان من هو قائم لايسهو، سبحان من هو دائم لايلهو. ثم يقول التسبيحات الأربع سبعاً، ثم يقول: سبحانك سبحانك ياعظيم. إغفر لي الذنب العظيم. ثم تصلي على النبي عشراً. من صلاها غفر الله له سبعين ألف ذنب. ".
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله، صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين.
والحمد لله رب العالمين 1.
تعليق