إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قارون 3

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قارون 3

    ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةُ الدُّنْيا يَـلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَـرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـلِحاً وَلاَ يُلَقَّــهَآ إِلاَّ الصَّـبِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاَْرضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَة يَنْصُروُنَهُ مِنْ دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّواْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَـفِرُونَ (82)﴾

    التفسير
    جنون الثّروة:
    المعروف أَن أصحاب الثروة يبتلون بأنواع الجنون... وواحد منها "جنون عرض الثروة وإظهارها" فهؤلاء يشعرون باللذة عندما يعرضون ثروتهم على الآخرين، وحين يعبرون على مركب غال وثير ويمرّون بين حفاة الأقدام فيتصاعد الغبار والاتربة لينتشر على وجوههم، ويحقّرونهم بذلك، فحينئذيشعرون بالراحة النفسية والنشوة تدغدغ قلوبهم.. وبالرغم من أَن عرض الثروة هذا غالباً ما يكون سبباً للبلاء عليهم، لأنّه يربي الأحقاد في الصدور ويعبىء الحساسيّات ضده، وكثيراً ما ينهي هذا العمل الرديء حياة الإنسان، أو يزيل ثروته مع الريح!.

    ولعل هذا الجنون يحمل هدفاً من قبيل اغراء الطامعين وتسليم الأفراد المعاندين ولكن الأثرياء غالباً ما يقومون بهذا العمل دون هدف، لأنّه نوع من الهوى والهوس وليس خطة أو برنامجاً معيناً.

    وعلى كل حال فإن قارون لم يكن مستثنى من هذا القانون، بل كان يعدّ مثلا بارزاً له، والقرآن يتحدث عنه في جملة موجزة في بعض آياته فيقول: (فخرج على قومه في زينته).

    امام قومه من بني اسرائيل.

    والتعبير بـ "في زينته" ناطق عن هذه الحقيقة، وهي أنّه أظهر جميع قدرته وقوته ليبدي ما لديه من زينة وثروة.

    ومعلوم طبعاً إنّ رجلا بهذه المثابة من الثروة ماذا يستطيع أن يفعل!؟

    وينقل في التاريخ - في هذا الصدد قصص كثيرة - مقرونة بالأساطير أحياناً، فإنّ بعضهم يكتب أنّ قارون خرج في استعراض كبير، وقد أركب أربعة آلاف نفر على أربعة آلاف فرس حُمر "غالية القيمة" مغطاة بالقماش الفاخر، وقد ملأها زينة من الذهب والجواهر الأُخرى، فمرّ بهذا الإستعراض على بني إسرائيل.. وقد أثار هذا المنظر الناس، إذ رأوا أربعة آلاف من الخدم ابيض يلبسون ثياباً حُمراً مع زينتهم.

    وقال بعضهم: بل بلغ عدد هؤلاء "الخدم والحشم" سبعة آلاف نفر، وذكروا أخباراً أُخرى في هذا الصدد.

    ولو فرضنا أن كل ذلك مبالغ فيه، إلاّ أنّه لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، وهي أَن قارون لديه ثروات مهمّة أظهرها في زينته!

    هنا أصبح الناس طائفتين - بحسب العادة فطائفة وهم الأكثرية - من عبدة الدنيا - أثارهم هذا المشهد، فاهتزت قلوبهم وتأوهوا بالحسرات وتمنوا لو كانوا مكان قارون ولو يوماً واحداً ولو ساعة واحدة وحتى ولو لحظة! واحدة...
    فأيّة حياة عذبة جميلة هذه الحياة التي تهب اللذات والنشاط... (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنّه لذو حظ عظيم).

    هنيئاً لقارون ولثروته العظيمة!.. وما أعظم جلاله وعزّته.. ولا نظن في التاريخ أحداً أعطاه الله ما أعطى قارون.. وما إلى ذلك من الكلمات.

    وهنا جاء دور الامتحان الالهي العظيم فمن جانب نجد قارون عليه أن يؤدي امتحانه في غروره وطيشه! ومن جانب آخر من بهرهم مشهده الذين أحاطوا به - من بني إسرائيل -.

    وبالطبع فإنّ العقاب الأليم هو العقاب الذي سيقع بعد هذا العرض المثير، وهو أن يهوي قارون من أوج العظمة إلى قعر الأرض إذ تنخسف به الأرض على حين غرّة!.

    لكن أمام هذه الطائفة التي ذكرناها آنفاً طائفة أُخرى من العلماء والمتقين الورعين، سمت آفاقهم عن مثل هذه المسائل، وكانوا حاضرين حينئذ و"المشهد" يمرّ من أمامهم.

    هؤلاء الرجال لا يقوّمون الشخصية بالذهب والقوّة، ولا يبحثون عن القيم في الأُمور الماديّة.

    لا تبهرهم هذه المظاهر، بل يسخرون منها ويتبسمون تبسم استهزاء وازدراء! ويحقّرون هذه الرؤوس الفارغة.

    فهؤلاء كانوا هناك، وكان لهم موقف آخر من قارون، وكما يعبر عنهم القرآن (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً) ثمّ أردفوا مؤكّدين (ولا يلقّاها إلاّ الصابرون).

    أُولئك الذين لا تهزّهم زخارف الدنيا وزبارجها، ويقفون في استقامة -برجولة وشهامة - امام الحرمان، ولا يطأطئون رؤوسهم للاراذل ويقفون كالجبال الرواسي في الامتحان الإلهي - امتحان الثروة والمال والخوف والمصيبة... وهؤلاء هم الجديرون بثواب الله سبحانه!.

    ومن المسلم به أنّه المقصود بجملة (الذين أوتوا العلم) هم علماء بني إسرائيل، ومن بينهم "يوشع" وهو من كبار رجالهم.

    غير أنّ الطريف في الأمر أن القرآن عبّر عن الطائفة الأُولى بجملة (الذين يريدون الحياة الدنيا) لكنّه لم يعبر عن الطائفة الثّانية بأنّهم "الذين يريدون الحياة الاخرة" بل عبر عنهم بـ (الذين أوتوا العلم) فحسب، لأنّ العلم هو أساس كل شيء وجذر الإيمان والاستقامة والعشق للثواب الإلهي والدار الآخرة.. كما أن التعبير بـ (الذين أوتوا العلم) هو جواب دامغ - ضمناً - لقارون الذي يدّعي العلم، فالقرآن يريد أن يبيّن أن العلماء هم هؤلاء الذين لا يريدون الحياة الدنيا، أمّا أنت يا قارون فمغرور وطائش!.

    وهكذا نرى مرّة أُخرى أنّ أساس البركات والخيرات هو العلم الحقيقي.

    لقد أوصل قارون بعمله هذا طغيانه وعناده إلى الدرجة القصوى، غير أن ما ورد في التواريخ حكاية منقولة عن قارون تدل على منتهى الخسة وعدم الحياء! ننقلها هنا حسب تفصيلها!.

    فقال له موسى(ع) إنّ الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إنّ موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها اليه فترميه بأنّه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنّه فجر بك قالت نعم.

    فجاء قارون إلى موسى(ع) قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربّك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربّك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوابه شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم.

    قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم.

    قالوا: فإنّك قد زنيت، قال: أنا؟
    فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى(ع) أنشدتك بالله إلاّ ما صدقت.

    قالت: أمّا إذا نشدتني فإنّهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنّك بريء وأنّك رسول الله.

    فخرّ موسى(ع) ساجداً يبكي فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيّبتهم فأوحى الله: "يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم فوعزّتي لو أنّهم دعوني لأجبتهم".

    يقول القرآن الكريم في هذا الصدد (فخسفنا به وبداره الأرض).

    أجل حين يبلغ الطغيان والغرور وتحقير المؤمنين الأبرياء والمؤامرّة ضد نبي الله أوجها، تتجلى قدرة الله تعالى وتطوي حياة الطغاة... وتدمرهم تدميراً يكون عبرة للآخرين.

    مسألة "الخسف" هنا التي تعني انشقاق الأرض وابتلاع ما عليها، حدثت على مدى التاريخ عدّة مرات.. إذ تتزلزل الأرض ثمّ تنشقّ وتبتلع مدينة كاملة أو عمارات سكنية داخلها، لكن هذا الخسف الذي حدث لقارون يختلف عن تلك الموارد.. هذا الخسف كان طعمته قارون وخزائنه فحسب!.

    يا للعجب!.. ففرعون يهوي في ماء النيل!.. وقارون في أعماق الأرض!.

    الماء الذي هو سرّ الحياة وأساسها يكون مأموراً بهلاك فرعون.

    والأرض التي هي مهاد الإطمئنان والدعة تنقلب قبراً لقارون واتباعه! ومن البديهي أنّ قارون لم يكن لوحده في ذلك البيت فقد كان معه أعوانه وندماءه ومن أعانه على ظلمه وطغيانه، وهكذا توغلوا في اعماق الارض جميعاً.

    (فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)... فلم يخلصه أصدقاؤه، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض!

    أمّا آخر آية - محل البحث - فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون: ياليت لنا مثل ما أوتي قارون، وما شابه ذلك!.

    وإذا هم اليوم يقولون: واهاً له، فإنّ الرزق بيد الله (فأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الزرق لمن يشاء من عباده ويقدر).

    لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!.

    فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفراداً وأقواماً، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم.

    ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه، وأعطاهم الله هذا المال، ثمّ هووا كما هوى قارون، فماذا يكون قد نفعهم المال؟

    لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا: (لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنّه لا يفلح الكافرون).

    فالآن نرى الحقيقة بأعيننا، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!.

    ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.

    ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة - ضمناً - أنّ قارون المغرور مات كافراً غير مؤمن، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفاً بالتوراة قارئاً لها، وعالماً من بني إسرائيل ومن أقارب موسى.

    بحوث
    1- نماذج قارونية بالأمس واليوم!
    قصّة قارون - هذا الثري المغرور - التي ذكرها القرآن في سبع آيات بينات - بأسلوب جذّاب - تكشف الحجب عن حقاق كثيرة في حياة الناس!

    هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة، وهي أن غرور الثروة ونشوتها قد ينجر بهما الإنسان - أحياناً - إلى أنواع الجنون.. جنون إظهار الثروة وعرضها.. ولفت أنظار الآخرين.. إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين.

    كما أن هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب، قد تكون سبباً لأنّ يجرأ الإنسان أحياناً إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسها، كالإساءة إلى النّبي ومناهظة الحق والحقيقة.. واتهام أطهر الأفراد، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب.

    أن الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين، ويستجيب لمن يريد له الخير!.

    وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعاً، وفي اعتقادهم أن ثروتهم التي وقعت في أيديهم، وربّما تقع عن طريق الغصب أحياناً، هي دليل على عقلهم وذكائهم... وأن جميع الناس جهلة كما يظنون، وأنّهم - وحدهم - العلماء فحسب!.

    ويبلغ بهم الامر حدّاً أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق، وكأنّهم مستقلّون، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم، واستعدادهم وخلاّقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها!
    ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين، وكيف ينتهون، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعاً قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة.. وأحياناً تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكلآخر.. أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبداً.. وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض!... وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم.

    أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقاً لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القِيم الخيالية... وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية، والطوابع، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف، وهي لا تستحق أن توضع إلاّ في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار!

    أُولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم - وأحياناً في جيرانهم - من لا عهد له بالشبع، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم!.

    كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أن أناساً محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم، وربّما يرقدون في المستشفى، ويئنون ولا من مصرخ لهم، ولا من علاج لمرضهم!.

    جميع هذه البحوث تنطبق أحياناً على بعض الأفراد في مجتمع ما، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة، كما نلاحظ في العصر الحاضر في شأن الدول الإستكبارية كأمريكا وكثير من الدول الأوروبية.

    لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه - في أرقى صورها - باستثمار أبناء العالم الثّالث والدول الفقيرة العزلاء... بحيث أنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل، ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية.

    وما نقوله من أن بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولا فقيرة، بل هي دول مُنيت بسرقة خيراتها وأغير عليها... وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض، لكن هؤلاء المغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء.

    فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة.. وإذا لم يتّحد المستضعفون يداً بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فعل بقارون، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا.

    فأُولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين.

    2 - منْ أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟
    الطريف أنّنا نقرأ في الآيتين (23) و (24) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أنّ رسالة موسى(ع) كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! "فرعون"، ووزيره "هامان"، و"قارون" الثري المغرور.

    (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذّاب).

    ونستفيد من النصّ القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون، وكان على خطه; كما أنّنا نقرأ في التواريخ أنّه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة(1)، وأنّه كان أمين الصندوق عند فرعون، والمسؤول على خزائنه من جهة أُخرى(2).

    ومن هنا تتّضح هويّة قارون.. فإنّ فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار رجلا منافقاً منهم، وأودعه أزمّة أمورهم، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار، وليجعلهم حفاةً عراة، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم!.

    والقرائن تشير إلى أنّ مقداراً من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون، ولم يطلع موسى(ع) - إلى تلك الفترة - على مكان الأموال لينفقها على اتباعه الفقراء.

    وعلى كل حال، فسواءً كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون، أو حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه، أو كما يقول البعض قد حصل عليها عن طريق علم الكيمياء أو التجارة... أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين.

    مهما يكن الأمر فإنّ قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون، وبدّل وجهه بسرعة، وأصبح من قرّاء التوراة وعلماء بني إسرائيل... في حين أنّ من البعيد أن تدخل ذرة من الإيمان في مثل قلب هذا المنافق!.

    وأخيراً فحين أراد موسى(ع) أن يأخذ من قارون زكاة المال، خدع به الناس، وعرفنا كيف كانت عاقبته.

    3 - موقف الإسلام من الثّروة!
    لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفاً أنّ الإسلام يقف من الثروة موقفاً سلبياً، وأنّه يخالف خط الثراء، ولا ينبغي أن نتصور أنّ الإسلام يريد حياة الفقر والفقراء، ويعدّ حياة الفقر من الكلمات المعنوية!.

    بل على العكس من ذلك، فإنّ الإسلام يعد الثروة عاملا مهمّاً نحو الآخرة! وقد عبّر القرآن عن المال بالخير في الآية (180) من سورة البقرة (إن تركخيراً)أي مالا.

    ونقرأ في حديث عن الإمام الباقر(ع) في هذا الصدد "نعم العون الدنيا على طلب الآخرة" (3).

    بل حتى الآيات - محل البحث - التي تذم قارون أشدّ الذم، لأنّه اغتر بالمال، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع.. غاية ما في الأمر أنّ الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة، كما قال علماء بني إسرائيل لقارون (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة).

    والإسلام يرضى بالثروة التي نرى فيها "أحسن كمآ أحسن الله إليك" ولكن للجميع!.

    والإسلام يوافق على ثروة يتحقق فيه القول "لا تنس نصيبك من الدنيا" ويمدحها.

    وأخيراً فإنّ الإسلام لا يطلب ثروةً ينبغي بها الفساد في الأرض وتُنسى بها القيم الإنسانية.. وتكون نتيجتها الإبتلاء بمسابقة جنون التكاثر، أو أن ينفصل الإنسان عن ذاته ويحتقر الآخرين، وربّما تجرّه إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته لموسى(ع)!.

    يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الإقتصادي، وأن يستفيد منها الجميع، ولتكون ضماداً لجراح المحرومين، وللوصول بها إلى اشباع الحاجات الإجتماعية وحلّ مشاكل المستضعفين... فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدّسة ليست علاقة دنيوية، أو ارتباطاً بالدنيا، بل هي علاقة أخروية.

    كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق(ع) أن أحد أصحابه جاءه شاكياً أمره، وقال: والله إنّا لنطلي الدنيا ونُحبّ أن نؤتاها.

    فقال(ع): "تحبّ أن تصنع بها ماذا؟"قال: اعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الامام الصادق(ع): "ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة" (4).

    ومن هنا يتّضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال:
    طائفة من المسلمين، أو بتعبير أدق: ممن يتظاهرون بالإسلام، وبعيدون عن تعاليمه، فيعرّفون الإسلام على أنّه محام عن المستكبرين.

    وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام الأصيل، ويجعلوه معادياً للثروة، وأنّه يقف إلى جانب الفقراء فحسب.

    وأساساً فإنّ أُمّة فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرّة كريمة!.

    فالفقر وسيلة للإرتباط بالاجنبي والتبعية
    والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة!
    والفقر يدعو الإنسان إلى الإثم والخطيئة.

    كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد "غنىً يحجزك عن الظلم، خير من فقر يحملك على الإثم" (5).

    إنّ على المجتمعات الإسلامية أن تسعى - مهما استطاعت - نحو التقدم لتكون غنيّة غير محتاجة، ولتبلغ مرحلة الإكتفاء الذاتي، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحّي باستقلالها وعزّتها وشرفها من أجل الفقر المذلّ الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو هذا لا غير.

  • #2
    اللهم صل على محمد وال محمد
    احسنتم البحث القراني المبارك
    شكرالكم كثيرا

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X