انحراف الشباب
أسئلة ابتدائية
1- ما هو الانحراف؟
الانحراف هو الخروج عن الخطّ والميلان عنه.
فإذا خرج السائق عن خطّ السير نقول إنّه انحرف عن الطريق.
وإذا سار النهرُ باتجاه آخر غير مجراه الرئيس، نقول إنّ النهر انحرف عن مجراه.
وإذا خرجت المركبة الفضائية عن مدارها، قلنا إنّ المركبة انحرفت عن المدار.
وإذا خرج المسلمُ عن ضوابط الدين وقواعد الشريعة، نقول عنه كما نقول عن السائق أو النهر أو المركبة، إنّه خرج عن خطّ السير أو منهاج الشريعة.
2- هل خطّ السير قيد؟
ربّما كان في الظاهر كذلك.
لكنّنا يمكن أن نسمّيه بالقيد الايجابي الذي فيه مصلحة للإنسان المسلم، أي الذي يحفظ له سلامته البدنية والعقلية والنفسية، ويحميه من عدوانه على نفسه، أو عدوان الغير عليه.
الانحراف إذن خروج عن الحدّ.. فهو (شطط) و(شذوذ) و(تطرّف) والقرآن يعبّر عنه تارة بـ(الفسق) وهو خروج كل ذي قشر عن قشره، فيقال فسقت النواة أي خرجت عن التمرة، والمراد به اصطلاحاً العصيان وتجاوز حدود الشرع، فحينما يقال فسق عن أمر ربّه أي خرج عن طاعته.
فـ(الفسق) انحراف.
ويعبّر عنه تارة أخرى بـ(الزيغ) وهو الميل عن المقصد، أوالميل عن الطريق، أي الاعوجاج بعد الاستقامة.
فـ(الزيغ) انحراف.
ويعبّر عنه ثالثة بـ(الضلال) وضلَّ يعني تاه.
فـ(الضلال) انحراف أيضاً.
هناك إذن خط سير لكلّ شيء، وهو ما يعبّر عنه القرآن بكلمة (الهُدى): (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50)، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى/ 2-3)، وكما للسير أو المرور في الطريق قواعده وقوانينه التي تحمي السائق والمارّة من المخاطر، فكذلك لكلّ مخلوق وكائن حيّ قواعد وقوانين تنظّم له حياته.
هل بإمكانه أن يخرج عنها؟
نعم، فهو حرّ في السير عليها أو الانحراف عنها، لكنّ خروجه عن حدّ أو خطّ السير سيكلّفه ويكلّف الآخرين الكثير.
أما رأيتَ كيف أنّ خروج السائق أو انحرافه عن الجادّة يؤدي إلى حوادث مؤسفة؟ وإنّ خروج النهر عن مجراه – خاصّة في أيام الفيضانات – كيف يؤدي إلى ازهاق الأرواح وتدمير البيوت والمزارع والممتلكات؟
وكيف أنّ المسلم الفاسق الذي لا يراعي حرمة لشيء، ينتهك القوانين والمقدسات، ويضرب الضوابط والتعاليم عرض الجدار، فيعتدي على الأموال والأعراض والأرواح ولا يبالي؟
ماذا بعدَ الانحراف؟
إذا ازداد الانحراف أو تُرك من غير علاج، فلم يثب المنحرف إلى رشده، ولم يرجع إلى خط السير فإن انحرافه سيقوده إلى (الضياع). فالانحراف مقدمة أو خطوة على طريق الضياع.
هل حصل لك أن خرجت عن الطريق العام أو المعتاد، وسلكت طريقاً لم يسبق أن مشيت فيه، وإذا بك بعد شوط من المسير في الطريق غير المعهود تجد نفسك قد تهت وضللت الطريق ولابدّ أن تسأل العارفين به: أنا تائه أين الطريق؟!
المزيد من الانحراف يعني ضياعاً، وإذا كان بإمكان المنحرف أن يؤوب إلى الطريق، فإنّه كالسائق الذي انتبه سريعاً وعاود السير على الطريق العام، ليتفادى المخاطر المحتملة من قبل أن تودي بحياته.
أمّا المنحرف الذي ترك لنفسه الإنزلاق التام، والانحدار مع الانحراف يأخذه أين يشاء، فإنّه سوف يضيع، وليس كلّ مَن ضاع عاد إلى مكانه الصحيح، وليس كل مريض تماثل للشفاء، ولا كلّ منحرف رجع إلى خط الاستقامة.
- ما هي مواصفات المنحرف:
هل للشاب المنحرف أو الفتاة المنحرفة صفات معيّنة يُعرفان بها؟ ليس صعباً عليك أن تميّز المنحرف من غير المنحرف، إذا عرفت (خط السير). فأنت تنظر إلى الطريق العام فترى رتل السيارات يسير في طابور أو خط واحد، أو خطوط محدّدة متوازية، فإذا شذّت سيارة وخرجت عن الطريق لتسير إلى يمينه أو شماله مبتعدة شيئاً فشيئاً عن الطريق الذي يوصلها إلى هدفها، فالسير قد ينتهي بها إلى الاتجاه المعاكس.
أنتَ لكَ خط سير أيضاً.. حدّده لك القرآن الكريم في معالمه العامّة، ورسمته سنّة النبي (ص) بتفاصيله الخاصّة. فإذا كان القرآن قد دعا إلى الوحدة بين المسلمين، وترى بعض المسلمين يمزّق أوصالهم ويفرّق جمعهم ويبدّد شملهم، تقول عنه إنّه (منحرف).
وإذا كانت الجماعة المؤمنةُ تسير في اتجاه معين، وتتفق على منهاج عمل موحّد، وابتعدت عنهم لغرور ركبك، أو هوى استولى عليك، فإنّك بذلك (تنحرف) عن الجماعة، وفي الحديث: "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
والقرآن دعا إلى (الزواج) كطريق شرعي لتلبية نداء الغريزة الجنسية، وحرّم (الزنا) كطريق منحرف لذلك، فإذا رأيت مسلماً يزني، تقول عنه إنّه (منحرف).
والقرآن نهى عن الغيبة والتجسّس، فإذا رأيت في المسلمين مَن يقترف التجسس والغيبة، قلت عنه إنّه (منحرف).
وليس ضرورياً أن يكون الانحراف كلّياً حتى تقول عن شخص ما أنّه منحرف، فقد تكون للانحراف بدايات.. فالمغتاب يخرج عن خط السير في هذه النقطة، والزاني يخرج عن الخط في نقطة معيّنة، وربّما كان ملتزماً بالسير في غير ذلك.
هل الانحراف كفر؟
الانحراف ليس كفراً، وإنّما هو حالة من حالات التجاوز والانعطاف والعصيان والتمرّد والخروج على قواعد السير، وقد ينتبه المنحرف من (غفلته) ويعود إلى يقظته مجدداً، ولكنّه إذا تمادى في الانحراف وقع في الكفر.
هل المؤمن ينحرف؟
نعم، لكنّ الفرق بينه وبين غيره أنّه سرعان ما يعود إلى الطريق، أي قد يغفو أو يسهو أو ينزلق عن الطريق الصحيح لفترة ثمّ ينتبه من غفلته ويثوب لرشده (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201).
لماذا انحراف الشباب؟
ينحرف بعض الشبان وبعض الفتيات لأسباب كثيرة سنأتي عليها، لكنّ وقوع هؤلاء في الانحراف يعود بالدرجة الأساس إلى حداثة عهدهم بالحياة وتجاربهم الغضّّة الفتية، أي أن تجربتهم بحاجة إلى صقل ونضج أكبر، كما إنّهم بحاجة إلى ثقافة وتربية على ما هو الصحيح وما هو الخطأ، وما هي الاستقامة وما هو الانحراف.
ما هي خطورة الانحراف؟
تتجلّى خطورة انحراف الشباب في الآثار الذاتية والاجتماعية.
فأنت إذا انحرفت، أي خرجت عن خط الالتزام، فإنك سوف تضع قدمك على أوّل المنزلق، فإذا لم تتماسك وترجع عن الاسترسال مع خطوات الانحراف اللاحقة، قادكَ الانحراف الأولي إلى انحرافٍ ثانٍ وثالث وهكذا حتى تكون خطواتك الانحرافية الأخيرة هي (الضياع).
أمّا أثر انحرافك على الذين من حولك فهو في إساءتك لهم بشكل مباشر أو غير مباشر. فالشاب الذي يغتاب يسيء إلى الذي اغتابه، والمتبرّجة تسيء إلى جوّ الحشمة والعفاف، والسارق يسيء إلى الأمن والأمانة، والسكّير يسيء إلى نفسه وإلى غيره. وقد تلقى من ضعاف النفوس من الشبان والفتيات مَن يستهويهم انحرافك فيجارونك فيه، وبذلك تكون ضالاً مضلاً، فاسداً مفسداً.
هل الانحراف ممكن العلاج؟
نعم، فهو بداية المرض وليس المرض في مراحله المتطورة، أي لم يستفحل بعد ولم يتحول إلى مرضٍ مستعصٍ، وهذا هو الذي يجعلنا نتحرك سريعاً لمعالجته مخافة أن يتفاقم وتقع مضاعفات خطيرة يصعب علاجها.
أسباب انحراف الشباب
هناك جملة عوامل وأسباب تعمل منفردة ومتظافرة في حرف الشباب عن خطّ السير، أو منهج الإسلام الصحيح. وأهمية معرفة هذه الأسباب تنبع من أن ذلك يعدّ تمهيداً ومدخلاً لمعالجتها ومكافحتها والقضاء عليها. ومن بين هذه الأسباب.
1- تراجع دور الأُسرة:
كانت الأسرة وما تزال حجر الأساس في العملية التربوية، وإذا كان دورها قد تراجع[1] في الآونة الأخيرة، فلأنّها هي التي فسحت المجال لغيرها من الوسائل أن تأخذ مكانها، بدلاً من أن تكون بمثابة أيادٍ مساعدة لها في دورها الأساس.
"لقد قامت بعض الدول كالصين والاتحاد السوفيتي (قبل انهياره) بتكوين منظمات معلنة ومؤسسات غير معلنة لأداء دور الأسرة ليتمكنوا من نقل القيم التي يريدونها هم، لا الأبوان، إلى الأطفال، وأهم ما استند إليه هؤلاء في الإقدام على عملهم هذا أنّ المربين ذوي الخبرة والتجربة، هم أقدر على نقل هذه القيم إلى الأطفال من الوالدين الذين تعوزهم التجارب والخبرات وخاصة الأميّين منهم"[2].
التجربة أثبتت فشل هذه المحاولات حيث كان للفصل بين الأطفال والوالدين تبعاته الثقيلة وثماره المرّة، لكنّ المجتمعات المعاصرة راحت توكل جانباً أو جوانب من دورها المعهود إلى مؤسسات أخرى قد تكون منافسة لكنّها قطعاً ليست بديلة.
إنّ انشغال الأب أو الأبوين في العمل خارج المنزل طوال النهار سوف يؤثر على مستوى تربيتهما ومتابعتهما لأبنائهما وبناتهما، مما يفتح الباب لدخول الانحراف بلا صعوبات لا سيما إذا كانت خلفيات الأبناء والبنات هشّة، أي لم يبذل الوالدان الجهد المطلوب في إعدادهم وتربيتهم لتحمل مسؤولياتهم ووعيهم لمخاطر الانحراف وآثاره.
العديد من الدراسات الميدانية التي أجريت على شرائح وعينات من الشبان والفتيات أودعوا السجن بسبب انحرافهم وجرائمهم، أثبتت أن انصراف الأبوين أو انشغالهما كان أحد أهمّ، بل لعلّه أوّل الأسباب، التي جعلتهم يصلون إلى ما وصلوا إليه.
إنّ المشاكل التي تعصف بالأسرة، والنزاع الدائر بين الوالدين وعدم اتفاقهما على كلمة سواء في تربية الأبناء، أو ما يشهده البيت من التصدّع المستمر، يجعل الأبناء إمّا انطوائيين، وإمّا أن يهربوا من البيت ليرتموا بأحضان الأصدقاء قليلي التجربة، وربّما استغلّ هؤلاء الظروف البيتية التي يعاني منها هذا الشاب وتلك الفتاة لدفعهما في طريق الانحراف.
أمّا إذا كان الأبوان منفصلين ويعيش الأبناء إمّا تحت رحمة أمّ جديدة، أو في أجواء الطلاق النفسية التي تخيِّم بظلالها القاتمة على نفوس الأبناء والبنات، فإنّ ذلك يكون دافعاً آخر إلى الانحراف لانعدام الرعاية والمراقبة، والحرمان من العطف والحنان والتوجيه السليم.
وما ينبغي الالتفات إليه هنا، هو أنّ بعض الأسر تعمل – وبغير قصد في أكثر الأحيان – لدفع فلذات أكبادها للانحراف، إذا أساؤوا التصرف معهم فبدلاً من أن يكونوا الصدور المفتوحة، والعقول المفتوحة، والآذان المفتوحة التي يركن إليها الأبناء والبنات في الحادة إلى المشورة وبث الهموم والتعاون في حل المشكلات، يكونون غرباء عن أبنائهم، أو لا يشعرون بالمسؤولية إزاءهم سوى مسؤولية الإطعام والإكساء، حتى إذا وقع الابن أو البنت في مشكلة عويصة، أو انزلقا إلى منحدر خطير، صرخ الوالدان كمن أفاق من نومه فزعاً: ماذا هناك؟ لم نكن أبداً نتوقع ذلك!
وقد لا تكون الصدمة جرّاء انحراف أحد الأولاد، وإنّما جرّاء الحرج الشديد الذي يمكن أن يسبّبه انحرافه في الوسط الاجتماعي الذي سيطلع على ذلك.
إنّ تراجع دور الأسرة واضح وخطير، فالأُم التي كانت تتولى تربية ابنتها لتكون زوجة صالحة، وأمّاً صالحة، تترك لها اليوم أن تتلقى ذلك من الروايات والقصص والأفلام والمسلسلات التي تخرّج جيلاً أقل ما يقال عنه أنّه هجين.
2- تراجع دور المدرسة:
ينصبّ اهتمام المدارس اليوم على العلم والتعليم أكثر من التربية والتهذيب، وإذا كان ثمّة اهتمام بهذه الأمور فثانوي، أو يطرح بشكل أكاديمي أيضاً، أي ان دروس التربية والأخلاق شأنها شأن دروس الكيمياء والفيزياء تعطى للطالب للاختبار فقط.
المدرسة هي البيت الثاني والمحضن الآمن المهم بعد الأسرة، فإذا تراخت أو تراجعت عن أداء دورها ورسالتها فإنّ الكارثة محدقة. وإذا افتقد الطالب الشاب أو الطالبة الشابّة لدور الموجّه الحقيقي والمرشد الناصح والمسدّد الأمين، ولم يشعر ذاك أن معلمه أب وهذه بأن معلّمتها أمّ، فإنّ ساحة المدرسة تتحول من ساحة للبناء والتربية إلى ساحة للانحراف والضياع وتبادل الخبرات المتدنيّة والسيِّئة والمخلّة بالآداب.
وإذا كان المدرسة مختلطة فالسوء أعظم والخطر أكبر.
3- ضعف الوازع الدينيّ:
قد ينحدر الشاب أو الفتاة من أسر متديّنة لكنهم ينحرفون، لأنّ التديّن لدى بعض الأسرة المسلمة أوامر ونواهٍ وقواعد عسكرية صارمة، وليس طريقاً لبناء الشخصية القوية الملتزمة العاملة التي تقف بوجه الانحراف فلا تتداعى أمامه، بل تساهم في إزاحته عن الطريق.
ولذا قلنا ضعف الوازع الديني، فهؤلاء متدينون لكنّ انحرافهم وعدم شعورهم بالتأنيب يدلّل على أنّ الدين لم يرتكز في نفوسهم كوعي وطاقة ومناعة، وإنّما هو مجرد فرائض وواجبات وخطوط حمر وعقوبات.
ولو أنّك أجريت دراسة – والدراسات التي في هذا المجال كثيرة – بين عيّنات شبابية (فتيان وفتيات) لرأيت أنّ الانحراف بين أبناء وبنات الأسر غير المتديّنة أو غير الملتزمة دينياً أكبر بكثير، إذ مما لا شكّ فيه أنّ الدين عامل حيوي من عوامل التحصين وغرس الوازع الديني إذا أحسن الأبوان تقديمه إلى الأبناء ليس في المحتوى فقط وإنّما بأسلوب العرض أيضاً.
4- وسائل الإعلام:
وسائل الإعلام اليوم أكثر المؤسسات المهتمة في حرف الشباب عن طريق الإيمان والأخلاق. ويأتي في المقدمة من هذه الوسائل (التلفاز) الذي يمثّل – في حال عدم تقنين المشاهدة – الخطر اليومي الداهم الذي يعيش في البيت كفرد من أفراد الأسرة، والذي يحتل أحياناً موقع المعلّم للعادات الغريبة والسيِّئة التي يجتمع الصوت والصورة واللون على تشكيل رسالته.
إنّ رسالة الإعلام نزيهة – في الأعمّ الأغلب – لأنّها رسالة موجهة، وهي تختبئ في مكان ما في هذا البرنامج أو هذا الإعلان أو تلك المسلسلة أو هذا الفيلم، أو هذه الاستعراضات.
وقد تكون الرسالة واضحة صريحة لا تلبس قناعاً أو تتستر بشيء، والمشكل المريب أن أكثر البرامج المخصّصة للشباب تعمل على بلورة الشخصية الانحرافية لديه.
الدراسات الجنائية كشفت عن أنّ أحد أسباب السرقة والعنف هو مشاهدة الأفلام التي يتفنّن فيها السارقون باقتحام المنازل والبنوك، وأنّ أحد أسباب الدعارة والخلاعة هو الأفلام الهابطة وعرض الأزياء والحفلات الماجنة. وإن سبباً مهما من أسباب السكر والتدخين وتعاطي المخدرات هو ظهور ممثلين ونجوم سينمائيين يزاولون ذلك وهم في حالة انتشاء. وأنّ أحد دوافع الهجرة والتغرب هو ما يكشفه التلفاز من الفوارق طبقية صارخة بين الطبقات الدنيا والمتوسطة وبين الطبقة الثرية المرفهة التي تعيش البذخ والرفاهية وتحوز على أثمن المقتنيات من القصور والسيارات وتجتذب إليها أجمل نساء المجتمع.
تكرار أمثال هذه اللقطات – والتكرار أسلوب إعلامي – يعمل كمنبّه أو كجرس يقرع بشكل دوري لمخاطبة الغريزة أو ما يسمّى بالعواطف السفلية لدى الشبان والفتيات، فلم يبق شيء يرمز إلى الحياء والعفّة والالتزام إلا وهتك التلفاز أستاره.
خطورة المنحى الإعلامي تأتي بالدرجة الأولى من أسلوب العرض المشوّق والجذّاب والمغري للدرجة التي تنطلي فيها الرسالة الإعلامية على المشاهد فلا يلمسها أو يقتنصها لأنّه يسترخي ويسترسل أمام التلفاز فلا يحاكمه ولا ينتقده إلا نادراً، فالمشاهد – إلا ما رحم بي – يستقبل مواد البث التلفازي كمسلّمات، الأمر الذي يزرع في وعيه أو لا وعيه (ثقافة)[3] السرقة والعنف والغش والخداع والتهالك على المادة وشرب الخمر والدخان والمخدرات.
وما يقال عن التلفاز يقال عن وسائل الإعلام الأخرى بدرجة أقلّ، إذ يبقى التلفاز أشدّ خطورة من الصحف والمجلات والإذاعة وغير ذلك، لأنّها إما سمعية أو بصرية، أمّا التلفاز فسمعي بصري والسمع والبصر إذا اجتمعا كانا بوابتين للتلقي غير المحسوب.
وباختصار، فإن كلّ هذه الوسائل تسرّب وتشيع العديد من القيم الهابطة والدخيلة والمضلّلة وإن بدرجات متفاوتة.
5- الفراغ والبطالة:
ذلك الشاعر الذي اعتبر (الفراغ) أحد الأسباب المؤدية إلى الانحراف والفساد، كان قد وضع اصبعه على مشكلة أو مدخل مهم من مداخل الانحراف:
إنّ الشبابَ والفراغ والجدة **** مفسدة للمرء أيّ مفسدة
فالفراغ أو البطالة لا يتناسبان مع شريحة عمرية ممتلئة بالحيوية والشاط والاندفاع وحبّ الحياة. قد ينسجمان مع الشيوخ والمتقاعدين، أمّا الشاب مثلك الذي يحبّ أن يعمل ويبدع وينتج، فالفراغ قاتل بالنسبة له، ولذا فهو قد يملأُه بالسلبيّ إذا لم يُملأ بالإيجابي.
وبالدراسة أيضاً ثبت أنّ البطالة أو الفراغ كان سبباً للعديد من الجرائم والجُنح والجنايات والانحرافات خاصّة إذا لم يكن الشاب أو الفتاة من ذوي المهارات أو المواهب أو الاهتمامات الثقافية والعلمية والرياضية.
6- قرناء السُّوء:
وهم الأصحاب الذين يُمثّلون دور المزيّن للانحراف والمرغّب والمغري به، أي أنّهم شياطين يوسوسون بالمعصية وتجاوز الحدود وارتكاب الجرائم ويصوّرون ذلك على انّه متعة خاصّة، أو شجاعة نادرة أو مفخرة، وقد ينصّبون من أنفسهم (فقهاء) لزملائهم فيفتون بغير علم، ويقولون لك إنّ هذا أمر مقبول وكلّ الناس تفعله ولا حرمة فيه وأنّهم يتحمّلون خطاياك، بل ويتطوعون للردّ على إشكالاتك الشرعية التي تدور في ذهنك لتُقبل على العمل الشرير وأنت مرتاح الضمير!
إنّ دور قرناء السوء – في مجمل الانحرافات التي يتعرّض لها الشبان والفتيات – خطير جدّاً، وما لم ينتبه الشاب أو الفتاة إلى تسويلات وتزيينات قرناء السوء فإنّ سينخرط في الانحراف ليقوّيه، وبالتالي، فإنّه وأمثاله من المُستدرَجين يحولون الأفراد إلى (عصابة) وأعمالهم إلى (جرائم).
وكما يزينون السوء في الجريمة، يزينون الانحراف في العبادة، باهمال الطاعات والعبادات، فيأتون إلى المستحبات ويقولون لك إنّها ليست واجبة ويكفيك القيام بما هو واجب، حتى إذا تركت المستحبّات جاؤوا إلى الواجبات وقالوا لك إن تأخيرها ساعة أو ساعتين لا يضرّ، وهكذا بالتدريج حتى تضمحل روحك ويفتر اهتمامك ويبرد تعاطيك مع الصلاة ومع غيرها: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا) (الفرقان/ 28-29).
7- الكتابات المنحرفة:
دوافع الانحراف وأسبابه – كما قلنا – كثيرة، وقد لا يلعب عامل واحد دوراً متفرداً في انحراف الشباب، بل تلتقي عدّة عوامل لتخلق حالة الانحراف.
فالكتابات المنحرفة التي تنهج نهجاً خرافياً وتغريبياً أو تخريبياً في تصوير العلاقة بين الجنسين على أنّها الحرِّية الشخصية والتمتع بمباهج الحياة، والتي تطرح صورة الشاب العدواني العنيف على أنّه (البطل) الذي يهابه الآخرون، والشاب المسترسل مع شهواته ونزواته وأطماعه على أنّه الشاب العصري المثالي، والفتاة التي تنتقل بين الأحضان على أنّها منفتحة وتمارس حياتها كما يحلو لها من غير قيود..
هذه الكتابات فاسدة مفسدة، وضالّة مضلّة، أي أنّها منحرفة بذاتها وتشجّع على الانحراف أيضاً. فلقد ذكرنا في البداية أنّ لكلّ إنسان خط سير، وأنت كإنسان مسلم لك خط سيرك الخاصّ، وأمثال هذه الكتابات المنحرفة لا يهدأ لها بال حتى تجعلك تنحرف ثمّ تتوجه إلى غيرك.
وبعض الكتّاب يبعدك عن الدين بتصويره صوراً بشعة مقرفة مقزّزة ينبو عنها الذوق ويمجّها الطبع، فمنهم مَن يرى أنّه ترويج للخرافات والأساطير. ومنهم مَن يقول انّه مخدّر يغرّر به البسطاء والضعفاء، ومنه مَن يصف المتدينين والمتدينات بأنّهم مرضى نفسيّون، وإنّ علماء الدين تجّار وأصحاب مطامع ومصالح ذاتية، وإنّ الدين هو هذه القشور التي يدفعون من أجلها الأموال حتى يعشعش الجهل والتخلّف في صفوف الشباب.
كل ذلك لدقّ الأسفين بين أبناء الأُمذة من الشبان والفتيات وبين رموز الوعي، وعلماء الدين والشريعة، والشخصيات الهادية إلى الطريق، وتسأل: مَن المستفيد؟ فلا تجد إلا أعداء الأُمّة.
8- الجهل:
الجهلُ طامّة كبرى، والشابّ الجاهل الذي لا يعرف كيف يبدأ؟ وكيف يسير؟ وإلى أين ينتهي؟ كالأعمى يقوده جهله إلى المهالك والمزالق والانحرافات وهو لا يدري أنّه يسير سيراً عشوائياً، وأنّه يقع في المطبّ أو الحفرة ذاتها عدّة مرّات، وأنّه قابل للإغواء والاستدراج والتغرير والخداع ببساطة.
والجهل يأتي ليس من ضعف لجانب الثقافي فحسب، بل من هشاشة التجربة في الحياة، وأحياناً من عدم الاستفادة من التجارب، فقد يكون للجاهل تجاربه لكنّه يرتطم بالمشاكل المتماثلة مراراً لأنّه ساذج ومغفّل وسطحي جدّاً، وقد لا ينتبه إلى انحرافه إلا مؤخراً، أي بعد أن يكون قد دفع ضريبة جهله ثمناً باهضاً، سجناً، أو طرداً من البيت، أو هجراناً من قبل الأصدقاء، وبكلمة أخرى يصبح منبوذاً اجتماعياً يتبرّأ أهله وأصحابه منه.
9- الفقر الشديد والثراء الشديد:
وقد يبدو هذا العامل متناقضاً لأوّل وهلة، لكن هذه هي الحقيقة، فلكلّ من الفقير المدقع الفقر، والثري الفاحش الثراء انحرافاته. فإذا كان الفقر يدفع إلى السرقة والحسد والحقد والانتقام من المجتمع، فإنّ الثراء الشديد يدعو إلى الميوعة والمجون والاستغراق في اللهو والملذات والشهوات والتبذير.
إنّ استعجال بعض الشبان والفتيات الثراء قد يجعلهم ينحرفون في سبيل تحقيق أحلامهم، ويسلكون طرقاً معوجة لنيل مآربهم، وقد يحققون بعض ذلك لكنهم – إذا قدّر لهم أن يراجعوا أنفسهم وحساباتهم – فإنذهم سيجدون أن ما تكبّدوه من خسائر أكثر مما جنوه من أرباح، هذا إذا صحّت تسمية ما نالوه بالطرق المنحرفة أرباحاً!
10- الحرِّية اللامسؤولة:
تحت شعار الحرية هوى كثير من الشبان والفتيات في وديان الانحراف. لم يكن ثمّة تمييز بين الحرِّية المسؤولة وبين الحرِّية غير الملتزمة أو المنضبطة بضوابط معيّنة. فليس من الحرِّية في شيء أن أترك لشهواتي الحبل على الغارب، وليس من الحرِّية أن أبيع عزّتي وكرامتي أو أذلّ نفسي، وليس من الحرِّية أن أتكلّم بالسوء على مَن أشاء، ولا من الحرِّية أن أخرج كفتاة نصف عارية إلى المجتمع.
حرِّيّتنا في الإسلام تستبطن المسؤولية، فما دمت حرّاً أنت مسؤول وتتحمل تبعات أعمالك، وتراعي قانون الشريعة وخط السير، وإلا فأيّ انفلات أو انحراف أو خروج على ذلك يعني انتهاكاً للقانون وإساءة للحرِّية.
إنّ الشاب الذي يصمّ سمعه ولا يريد الاستماع إلى النقد أو النصيحة أو المحاسبة بحجّة أنّه حرّ، والفتاة التي لا تراعي ضوابط العفّة والاحتشام بذريعة أنّها حرّة، والشباب الذين يمارسون بعض المنكرات التي تسيء إلى العادات والتقاليد بدعوى أنّهم أحرار، هؤلاء يسيئون للحرِّية من حيث لا يشعرون، وكم جرف الانحراف شباناً وفتيات إلى أحضان الرذيلة والجريمة واللصوصية والإدمان والمسوّغ هو الحرِّية السائبة التي جنت على أبنائها من المسلمين يوم لم يتعظوا بما جرّته على أمثالهم من الشباب في الغرب.
يتبع
أسئلة ابتدائية
1- ما هو الانحراف؟
الانحراف هو الخروج عن الخطّ والميلان عنه.
فإذا خرج السائق عن خطّ السير نقول إنّه انحرف عن الطريق.
وإذا سار النهرُ باتجاه آخر غير مجراه الرئيس، نقول إنّ النهر انحرف عن مجراه.
وإذا خرجت المركبة الفضائية عن مدارها، قلنا إنّ المركبة انحرفت عن المدار.
وإذا خرج المسلمُ عن ضوابط الدين وقواعد الشريعة، نقول عنه كما نقول عن السائق أو النهر أو المركبة، إنّه خرج عن خطّ السير أو منهاج الشريعة.
2- هل خطّ السير قيد؟
ربّما كان في الظاهر كذلك.
لكنّنا يمكن أن نسمّيه بالقيد الايجابي الذي فيه مصلحة للإنسان المسلم، أي الذي يحفظ له سلامته البدنية والعقلية والنفسية، ويحميه من عدوانه على نفسه، أو عدوان الغير عليه.
الانحراف إذن خروج عن الحدّ.. فهو (شطط) و(شذوذ) و(تطرّف) والقرآن يعبّر عنه تارة بـ(الفسق) وهو خروج كل ذي قشر عن قشره، فيقال فسقت النواة أي خرجت عن التمرة، والمراد به اصطلاحاً العصيان وتجاوز حدود الشرع، فحينما يقال فسق عن أمر ربّه أي خرج عن طاعته.
فـ(الفسق) انحراف.
ويعبّر عنه تارة أخرى بـ(الزيغ) وهو الميل عن المقصد، أوالميل عن الطريق، أي الاعوجاج بعد الاستقامة.
فـ(الزيغ) انحراف.
ويعبّر عنه ثالثة بـ(الضلال) وضلَّ يعني تاه.
فـ(الضلال) انحراف أيضاً.
هناك إذن خط سير لكلّ شيء، وهو ما يعبّر عنه القرآن بكلمة (الهُدى): (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50)، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى/ 2-3)، وكما للسير أو المرور في الطريق قواعده وقوانينه التي تحمي السائق والمارّة من المخاطر، فكذلك لكلّ مخلوق وكائن حيّ قواعد وقوانين تنظّم له حياته.
هل بإمكانه أن يخرج عنها؟
نعم، فهو حرّ في السير عليها أو الانحراف عنها، لكنّ خروجه عن حدّ أو خطّ السير سيكلّفه ويكلّف الآخرين الكثير.
أما رأيتَ كيف أنّ خروج السائق أو انحرافه عن الجادّة يؤدي إلى حوادث مؤسفة؟ وإنّ خروج النهر عن مجراه – خاصّة في أيام الفيضانات – كيف يؤدي إلى ازهاق الأرواح وتدمير البيوت والمزارع والممتلكات؟
وكيف أنّ المسلم الفاسق الذي لا يراعي حرمة لشيء، ينتهك القوانين والمقدسات، ويضرب الضوابط والتعاليم عرض الجدار، فيعتدي على الأموال والأعراض والأرواح ولا يبالي؟
ماذا بعدَ الانحراف؟
إذا ازداد الانحراف أو تُرك من غير علاج، فلم يثب المنحرف إلى رشده، ولم يرجع إلى خط السير فإن انحرافه سيقوده إلى (الضياع). فالانحراف مقدمة أو خطوة على طريق الضياع.
هل حصل لك أن خرجت عن الطريق العام أو المعتاد، وسلكت طريقاً لم يسبق أن مشيت فيه، وإذا بك بعد شوط من المسير في الطريق غير المعهود تجد نفسك قد تهت وضللت الطريق ولابدّ أن تسأل العارفين به: أنا تائه أين الطريق؟!
المزيد من الانحراف يعني ضياعاً، وإذا كان بإمكان المنحرف أن يؤوب إلى الطريق، فإنّه كالسائق الذي انتبه سريعاً وعاود السير على الطريق العام، ليتفادى المخاطر المحتملة من قبل أن تودي بحياته.
أمّا المنحرف الذي ترك لنفسه الإنزلاق التام، والانحدار مع الانحراف يأخذه أين يشاء، فإنّه سوف يضيع، وليس كلّ مَن ضاع عاد إلى مكانه الصحيح، وليس كل مريض تماثل للشفاء، ولا كلّ منحرف رجع إلى خط الاستقامة.
- ما هي مواصفات المنحرف:
هل للشاب المنحرف أو الفتاة المنحرفة صفات معيّنة يُعرفان بها؟ ليس صعباً عليك أن تميّز المنحرف من غير المنحرف، إذا عرفت (خط السير). فأنت تنظر إلى الطريق العام فترى رتل السيارات يسير في طابور أو خط واحد، أو خطوط محدّدة متوازية، فإذا شذّت سيارة وخرجت عن الطريق لتسير إلى يمينه أو شماله مبتعدة شيئاً فشيئاً عن الطريق الذي يوصلها إلى هدفها، فالسير قد ينتهي بها إلى الاتجاه المعاكس.
أنتَ لكَ خط سير أيضاً.. حدّده لك القرآن الكريم في معالمه العامّة، ورسمته سنّة النبي (ص) بتفاصيله الخاصّة. فإذا كان القرآن قد دعا إلى الوحدة بين المسلمين، وترى بعض المسلمين يمزّق أوصالهم ويفرّق جمعهم ويبدّد شملهم، تقول عنه إنّه (منحرف).
وإذا كانت الجماعة المؤمنةُ تسير في اتجاه معين، وتتفق على منهاج عمل موحّد، وابتعدت عنهم لغرور ركبك، أو هوى استولى عليك، فإنّك بذلك (تنحرف) عن الجماعة، وفي الحديث: "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
والقرآن دعا إلى (الزواج) كطريق شرعي لتلبية نداء الغريزة الجنسية، وحرّم (الزنا) كطريق منحرف لذلك، فإذا رأيت مسلماً يزني، تقول عنه إنّه (منحرف).
والقرآن نهى عن الغيبة والتجسّس، فإذا رأيت في المسلمين مَن يقترف التجسس والغيبة، قلت عنه إنّه (منحرف).
وليس ضرورياً أن يكون الانحراف كلّياً حتى تقول عن شخص ما أنّه منحرف، فقد تكون للانحراف بدايات.. فالمغتاب يخرج عن خط السير في هذه النقطة، والزاني يخرج عن الخط في نقطة معيّنة، وربّما كان ملتزماً بالسير في غير ذلك.
هل الانحراف كفر؟
الانحراف ليس كفراً، وإنّما هو حالة من حالات التجاوز والانعطاف والعصيان والتمرّد والخروج على قواعد السير، وقد ينتبه المنحرف من (غفلته) ويعود إلى يقظته مجدداً، ولكنّه إذا تمادى في الانحراف وقع في الكفر.
هل المؤمن ينحرف؟
نعم، لكنّ الفرق بينه وبين غيره أنّه سرعان ما يعود إلى الطريق، أي قد يغفو أو يسهو أو ينزلق عن الطريق الصحيح لفترة ثمّ ينتبه من غفلته ويثوب لرشده (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201).
لماذا انحراف الشباب؟
ينحرف بعض الشبان وبعض الفتيات لأسباب كثيرة سنأتي عليها، لكنّ وقوع هؤلاء في الانحراف يعود بالدرجة الأساس إلى حداثة عهدهم بالحياة وتجاربهم الغضّّة الفتية، أي أن تجربتهم بحاجة إلى صقل ونضج أكبر، كما إنّهم بحاجة إلى ثقافة وتربية على ما هو الصحيح وما هو الخطأ، وما هي الاستقامة وما هو الانحراف.
ما هي خطورة الانحراف؟
تتجلّى خطورة انحراف الشباب في الآثار الذاتية والاجتماعية.
فأنت إذا انحرفت، أي خرجت عن خط الالتزام، فإنك سوف تضع قدمك على أوّل المنزلق، فإذا لم تتماسك وترجع عن الاسترسال مع خطوات الانحراف اللاحقة، قادكَ الانحراف الأولي إلى انحرافٍ ثانٍ وثالث وهكذا حتى تكون خطواتك الانحرافية الأخيرة هي (الضياع).
أمّا أثر انحرافك على الذين من حولك فهو في إساءتك لهم بشكل مباشر أو غير مباشر. فالشاب الذي يغتاب يسيء إلى الذي اغتابه، والمتبرّجة تسيء إلى جوّ الحشمة والعفاف، والسارق يسيء إلى الأمن والأمانة، والسكّير يسيء إلى نفسه وإلى غيره. وقد تلقى من ضعاف النفوس من الشبان والفتيات مَن يستهويهم انحرافك فيجارونك فيه، وبذلك تكون ضالاً مضلاً، فاسداً مفسداً.
هل الانحراف ممكن العلاج؟
نعم، فهو بداية المرض وليس المرض في مراحله المتطورة، أي لم يستفحل بعد ولم يتحول إلى مرضٍ مستعصٍ، وهذا هو الذي يجعلنا نتحرك سريعاً لمعالجته مخافة أن يتفاقم وتقع مضاعفات خطيرة يصعب علاجها.
أسباب انحراف الشباب
هناك جملة عوامل وأسباب تعمل منفردة ومتظافرة في حرف الشباب عن خطّ السير، أو منهج الإسلام الصحيح. وأهمية معرفة هذه الأسباب تنبع من أن ذلك يعدّ تمهيداً ومدخلاً لمعالجتها ومكافحتها والقضاء عليها. ومن بين هذه الأسباب.
1- تراجع دور الأُسرة:
كانت الأسرة وما تزال حجر الأساس في العملية التربوية، وإذا كان دورها قد تراجع[1] في الآونة الأخيرة، فلأنّها هي التي فسحت المجال لغيرها من الوسائل أن تأخذ مكانها، بدلاً من أن تكون بمثابة أيادٍ مساعدة لها في دورها الأساس.
"لقد قامت بعض الدول كالصين والاتحاد السوفيتي (قبل انهياره) بتكوين منظمات معلنة ومؤسسات غير معلنة لأداء دور الأسرة ليتمكنوا من نقل القيم التي يريدونها هم، لا الأبوان، إلى الأطفال، وأهم ما استند إليه هؤلاء في الإقدام على عملهم هذا أنّ المربين ذوي الخبرة والتجربة، هم أقدر على نقل هذه القيم إلى الأطفال من الوالدين الذين تعوزهم التجارب والخبرات وخاصة الأميّين منهم"[2].
التجربة أثبتت فشل هذه المحاولات حيث كان للفصل بين الأطفال والوالدين تبعاته الثقيلة وثماره المرّة، لكنّ المجتمعات المعاصرة راحت توكل جانباً أو جوانب من دورها المعهود إلى مؤسسات أخرى قد تكون منافسة لكنّها قطعاً ليست بديلة.
إنّ انشغال الأب أو الأبوين في العمل خارج المنزل طوال النهار سوف يؤثر على مستوى تربيتهما ومتابعتهما لأبنائهما وبناتهما، مما يفتح الباب لدخول الانحراف بلا صعوبات لا سيما إذا كانت خلفيات الأبناء والبنات هشّة، أي لم يبذل الوالدان الجهد المطلوب في إعدادهم وتربيتهم لتحمل مسؤولياتهم ووعيهم لمخاطر الانحراف وآثاره.
العديد من الدراسات الميدانية التي أجريت على شرائح وعينات من الشبان والفتيات أودعوا السجن بسبب انحرافهم وجرائمهم، أثبتت أن انصراف الأبوين أو انشغالهما كان أحد أهمّ، بل لعلّه أوّل الأسباب، التي جعلتهم يصلون إلى ما وصلوا إليه.
إنّ المشاكل التي تعصف بالأسرة، والنزاع الدائر بين الوالدين وعدم اتفاقهما على كلمة سواء في تربية الأبناء، أو ما يشهده البيت من التصدّع المستمر، يجعل الأبناء إمّا انطوائيين، وإمّا أن يهربوا من البيت ليرتموا بأحضان الأصدقاء قليلي التجربة، وربّما استغلّ هؤلاء الظروف البيتية التي يعاني منها هذا الشاب وتلك الفتاة لدفعهما في طريق الانحراف.
أمّا إذا كان الأبوان منفصلين ويعيش الأبناء إمّا تحت رحمة أمّ جديدة، أو في أجواء الطلاق النفسية التي تخيِّم بظلالها القاتمة على نفوس الأبناء والبنات، فإنّ ذلك يكون دافعاً آخر إلى الانحراف لانعدام الرعاية والمراقبة، والحرمان من العطف والحنان والتوجيه السليم.
وما ينبغي الالتفات إليه هنا، هو أنّ بعض الأسر تعمل – وبغير قصد في أكثر الأحيان – لدفع فلذات أكبادها للانحراف، إذا أساؤوا التصرف معهم فبدلاً من أن يكونوا الصدور المفتوحة، والعقول المفتوحة، والآذان المفتوحة التي يركن إليها الأبناء والبنات في الحادة إلى المشورة وبث الهموم والتعاون في حل المشكلات، يكونون غرباء عن أبنائهم، أو لا يشعرون بالمسؤولية إزاءهم سوى مسؤولية الإطعام والإكساء، حتى إذا وقع الابن أو البنت في مشكلة عويصة، أو انزلقا إلى منحدر خطير، صرخ الوالدان كمن أفاق من نومه فزعاً: ماذا هناك؟ لم نكن أبداً نتوقع ذلك!
وقد لا تكون الصدمة جرّاء انحراف أحد الأولاد، وإنّما جرّاء الحرج الشديد الذي يمكن أن يسبّبه انحرافه في الوسط الاجتماعي الذي سيطلع على ذلك.
إنّ تراجع دور الأسرة واضح وخطير، فالأُم التي كانت تتولى تربية ابنتها لتكون زوجة صالحة، وأمّاً صالحة، تترك لها اليوم أن تتلقى ذلك من الروايات والقصص والأفلام والمسلسلات التي تخرّج جيلاً أقل ما يقال عنه أنّه هجين.
2- تراجع دور المدرسة:
ينصبّ اهتمام المدارس اليوم على العلم والتعليم أكثر من التربية والتهذيب، وإذا كان ثمّة اهتمام بهذه الأمور فثانوي، أو يطرح بشكل أكاديمي أيضاً، أي ان دروس التربية والأخلاق شأنها شأن دروس الكيمياء والفيزياء تعطى للطالب للاختبار فقط.
المدرسة هي البيت الثاني والمحضن الآمن المهم بعد الأسرة، فإذا تراخت أو تراجعت عن أداء دورها ورسالتها فإنّ الكارثة محدقة. وإذا افتقد الطالب الشاب أو الطالبة الشابّة لدور الموجّه الحقيقي والمرشد الناصح والمسدّد الأمين، ولم يشعر ذاك أن معلمه أب وهذه بأن معلّمتها أمّ، فإنّ ساحة المدرسة تتحول من ساحة للبناء والتربية إلى ساحة للانحراف والضياع وتبادل الخبرات المتدنيّة والسيِّئة والمخلّة بالآداب.
وإذا كان المدرسة مختلطة فالسوء أعظم والخطر أكبر.
3- ضعف الوازع الدينيّ:
قد ينحدر الشاب أو الفتاة من أسر متديّنة لكنهم ينحرفون، لأنّ التديّن لدى بعض الأسرة المسلمة أوامر ونواهٍ وقواعد عسكرية صارمة، وليس طريقاً لبناء الشخصية القوية الملتزمة العاملة التي تقف بوجه الانحراف فلا تتداعى أمامه، بل تساهم في إزاحته عن الطريق.
ولذا قلنا ضعف الوازع الديني، فهؤلاء متدينون لكنّ انحرافهم وعدم شعورهم بالتأنيب يدلّل على أنّ الدين لم يرتكز في نفوسهم كوعي وطاقة ومناعة، وإنّما هو مجرد فرائض وواجبات وخطوط حمر وعقوبات.
ولو أنّك أجريت دراسة – والدراسات التي في هذا المجال كثيرة – بين عيّنات شبابية (فتيان وفتيات) لرأيت أنّ الانحراف بين أبناء وبنات الأسر غير المتديّنة أو غير الملتزمة دينياً أكبر بكثير، إذ مما لا شكّ فيه أنّ الدين عامل حيوي من عوامل التحصين وغرس الوازع الديني إذا أحسن الأبوان تقديمه إلى الأبناء ليس في المحتوى فقط وإنّما بأسلوب العرض أيضاً.
4- وسائل الإعلام:
وسائل الإعلام اليوم أكثر المؤسسات المهتمة في حرف الشباب عن طريق الإيمان والأخلاق. ويأتي في المقدمة من هذه الوسائل (التلفاز) الذي يمثّل – في حال عدم تقنين المشاهدة – الخطر اليومي الداهم الذي يعيش في البيت كفرد من أفراد الأسرة، والذي يحتل أحياناً موقع المعلّم للعادات الغريبة والسيِّئة التي يجتمع الصوت والصورة واللون على تشكيل رسالته.
إنّ رسالة الإعلام نزيهة – في الأعمّ الأغلب – لأنّها رسالة موجهة، وهي تختبئ في مكان ما في هذا البرنامج أو هذا الإعلان أو تلك المسلسلة أو هذا الفيلم، أو هذه الاستعراضات.
وقد تكون الرسالة واضحة صريحة لا تلبس قناعاً أو تتستر بشيء، والمشكل المريب أن أكثر البرامج المخصّصة للشباب تعمل على بلورة الشخصية الانحرافية لديه.
الدراسات الجنائية كشفت عن أنّ أحد أسباب السرقة والعنف هو مشاهدة الأفلام التي يتفنّن فيها السارقون باقتحام المنازل والبنوك، وأنّ أحد أسباب الدعارة والخلاعة هو الأفلام الهابطة وعرض الأزياء والحفلات الماجنة. وإن سبباً مهما من أسباب السكر والتدخين وتعاطي المخدرات هو ظهور ممثلين ونجوم سينمائيين يزاولون ذلك وهم في حالة انتشاء. وأنّ أحد دوافع الهجرة والتغرب هو ما يكشفه التلفاز من الفوارق طبقية صارخة بين الطبقات الدنيا والمتوسطة وبين الطبقة الثرية المرفهة التي تعيش البذخ والرفاهية وتحوز على أثمن المقتنيات من القصور والسيارات وتجتذب إليها أجمل نساء المجتمع.
تكرار أمثال هذه اللقطات – والتكرار أسلوب إعلامي – يعمل كمنبّه أو كجرس يقرع بشكل دوري لمخاطبة الغريزة أو ما يسمّى بالعواطف السفلية لدى الشبان والفتيات، فلم يبق شيء يرمز إلى الحياء والعفّة والالتزام إلا وهتك التلفاز أستاره.
خطورة المنحى الإعلامي تأتي بالدرجة الأولى من أسلوب العرض المشوّق والجذّاب والمغري للدرجة التي تنطلي فيها الرسالة الإعلامية على المشاهد فلا يلمسها أو يقتنصها لأنّه يسترخي ويسترسل أمام التلفاز فلا يحاكمه ولا ينتقده إلا نادراً، فالمشاهد – إلا ما رحم بي – يستقبل مواد البث التلفازي كمسلّمات، الأمر الذي يزرع في وعيه أو لا وعيه (ثقافة)[3] السرقة والعنف والغش والخداع والتهالك على المادة وشرب الخمر والدخان والمخدرات.
وما يقال عن التلفاز يقال عن وسائل الإعلام الأخرى بدرجة أقلّ، إذ يبقى التلفاز أشدّ خطورة من الصحف والمجلات والإذاعة وغير ذلك، لأنّها إما سمعية أو بصرية، أمّا التلفاز فسمعي بصري والسمع والبصر إذا اجتمعا كانا بوابتين للتلقي غير المحسوب.
وباختصار، فإن كلّ هذه الوسائل تسرّب وتشيع العديد من القيم الهابطة والدخيلة والمضلّلة وإن بدرجات متفاوتة.
5- الفراغ والبطالة:
ذلك الشاعر الذي اعتبر (الفراغ) أحد الأسباب المؤدية إلى الانحراف والفساد، كان قد وضع اصبعه على مشكلة أو مدخل مهم من مداخل الانحراف:
إنّ الشبابَ والفراغ والجدة **** مفسدة للمرء أيّ مفسدة
فالفراغ أو البطالة لا يتناسبان مع شريحة عمرية ممتلئة بالحيوية والشاط والاندفاع وحبّ الحياة. قد ينسجمان مع الشيوخ والمتقاعدين، أمّا الشاب مثلك الذي يحبّ أن يعمل ويبدع وينتج، فالفراغ قاتل بالنسبة له، ولذا فهو قد يملأُه بالسلبيّ إذا لم يُملأ بالإيجابي.
وبالدراسة أيضاً ثبت أنّ البطالة أو الفراغ كان سبباً للعديد من الجرائم والجُنح والجنايات والانحرافات خاصّة إذا لم يكن الشاب أو الفتاة من ذوي المهارات أو المواهب أو الاهتمامات الثقافية والعلمية والرياضية.
6- قرناء السُّوء:
وهم الأصحاب الذين يُمثّلون دور المزيّن للانحراف والمرغّب والمغري به، أي أنّهم شياطين يوسوسون بالمعصية وتجاوز الحدود وارتكاب الجرائم ويصوّرون ذلك على انّه متعة خاصّة، أو شجاعة نادرة أو مفخرة، وقد ينصّبون من أنفسهم (فقهاء) لزملائهم فيفتون بغير علم، ويقولون لك إنّ هذا أمر مقبول وكلّ الناس تفعله ولا حرمة فيه وأنّهم يتحمّلون خطاياك، بل ويتطوعون للردّ على إشكالاتك الشرعية التي تدور في ذهنك لتُقبل على العمل الشرير وأنت مرتاح الضمير!
إنّ دور قرناء السوء – في مجمل الانحرافات التي يتعرّض لها الشبان والفتيات – خطير جدّاً، وما لم ينتبه الشاب أو الفتاة إلى تسويلات وتزيينات قرناء السوء فإنّ سينخرط في الانحراف ليقوّيه، وبالتالي، فإنّه وأمثاله من المُستدرَجين يحولون الأفراد إلى (عصابة) وأعمالهم إلى (جرائم).
وكما يزينون السوء في الجريمة، يزينون الانحراف في العبادة، باهمال الطاعات والعبادات، فيأتون إلى المستحبات ويقولون لك إنّها ليست واجبة ويكفيك القيام بما هو واجب، حتى إذا تركت المستحبّات جاؤوا إلى الواجبات وقالوا لك إن تأخيرها ساعة أو ساعتين لا يضرّ، وهكذا بالتدريج حتى تضمحل روحك ويفتر اهتمامك ويبرد تعاطيك مع الصلاة ومع غيرها: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا) (الفرقان/ 28-29).
7- الكتابات المنحرفة:
دوافع الانحراف وأسبابه – كما قلنا – كثيرة، وقد لا يلعب عامل واحد دوراً متفرداً في انحراف الشباب، بل تلتقي عدّة عوامل لتخلق حالة الانحراف.
فالكتابات المنحرفة التي تنهج نهجاً خرافياً وتغريبياً أو تخريبياً في تصوير العلاقة بين الجنسين على أنّها الحرِّية الشخصية والتمتع بمباهج الحياة، والتي تطرح صورة الشاب العدواني العنيف على أنّه (البطل) الذي يهابه الآخرون، والشاب المسترسل مع شهواته ونزواته وأطماعه على أنّه الشاب العصري المثالي، والفتاة التي تنتقل بين الأحضان على أنّها منفتحة وتمارس حياتها كما يحلو لها من غير قيود..
هذه الكتابات فاسدة مفسدة، وضالّة مضلّة، أي أنّها منحرفة بذاتها وتشجّع على الانحراف أيضاً. فلقد ذكرنا في البداية أنّ لكلّ إنسان خط سير، وأنت كإنسان مسلم لك خط سيرك الخاصّ، وأمثال هذه الكتابات المنحرفة لا يهدأ لها بال حتى تجعلك تنحرف ثمّ تتوجه إلى غيرك.
وبعض الكتّاب يبعدك عن الدين بتصويره صوراً بشعة مقرفة مقزّزة ينبو عنها الذوق ويمجّها الطبع، فمنهم مَن يرى أنّه ترويج للخرافات والأساطير. ومنهم مَن يقول انّه مخدّر يغرّر به البسطاء والضعفاء، ومنه مَن يصف المتدينين والمتدينات بأنّهم مرضى نفسيّون، وإنّ علماء الدين تجّار وأصحاب مطامع ومصالح ذاتية، وإنّ الدين هو هذه القشور التي يدفعون من أجلها الأموال حتى يعشعش الجهل والتخلّف في صفوف الشباب.
كل ذلك لدقّ الأسفين بين أبناء الأُمذة من الشبان والفتيات وبين رموز الوعي، وعلماء الدين والشريعة، والشخصيات الهادية إلى الطريق، وتسأل: مَن المستفيد؟ فلا تجد إلا أعداء الأُمّة.
8- الجهل:
الجهلُ طامّة كبرى، والشابّ الجاهل الذي لا يعرف كيف يبدأ؟ وكيف يسير؟ وإلى أين ينتهي؟ كالأعمى يقوده جهله إلى المهالك والمزالق والانحرافات وهو لا يدري أنّه يسير سيراً عشوائياً، وأنّه يقع في المطبّ أو الحفرة ذاتها عدّة مرّات، وأنّه قابل للإغواء والاستدراج والتغرير والخداع ببساطة.
والجهل يأتي ليس من ضعف لجانب الثقافي فحسب، بل من هشاشة التجربة في الحياة، وأحياناً من عدم الاستفادة من التجارب، فقد يكون للجاهل تجاربه لكنّه يرتطم بالمشاكل المتماثلة مراراً لأنّه ساذج ومغفّل وسطحي جدّاً، وقد لا ينتبه إلى انحرافه إلا مؤخراً، أي بعد أن يكون قد دفع ضريبة جهله ثمناً باهضاً، سجناً، أو طرداً من البيت، أو هجراناً من قبل الأصدقاء، وبكلمة أخرى يصبح منبوذاً اجتماعياً يتبرّأ أهله وأصحابه منه.
9- الفقر الشديد والثراء الشديد:
وقد يبدو هذا العامل متناقضاً لأوّل وهلة، لكن هذه هي الحقيقة، فلكلّ من الفقير المدقع الفقر، والثري الفاحش الثراء انحرافاته. فإذا كان الفقر يدفع إلى السرقة والحسد والحقد والانتقام من المجتمع، فإنّ الثراء الشديد يدعو إلى الميوعة والمجون والاستغراق في اللهو والملذات والشهوات والتبذير.
إنّ استعجال بعض الشبان والفتيات الثراء قد يجعلهم ينحرفون في سبيل تحقيق أحلامهم، ويسلكون طرقاً معوجة لنيل مآربهم، وقد يحققون بعض ذلك لكنهم – إذا قدّر لهم أن يراجعوا أنفسهم وحساباتهم – فإنذهم سيجدون أن ما تكبّدوه من خسائر أكثر مما جنوه من أرباح، هذا إذا صحّت تسمية ما نالوه بالطرق المنحرفة أرباحاً!
10- الحرِّية اللامسؤولة:
تحت شعار الحرية هوى كثير من الشبان والفتيات في وديان الانحراف. لم يكن ثمّة تمييز بين الحرِّية المسؤولة وبين الحرِّية غير الملتزمة أو المنضبطة بضوابط معيّنة. فليس من الحرِّية في شيء أن أترك لشهواتي الحبل على الغارب، وليس من الحرِّية أن أبيع عزّتي وكرامتي أو أذلّ نفسي، وليس من الحرِّية أن أتكلّم بالسوء على مَن أشاء، ولا من الحرِّية أن أخرج كفتاة نصف عارية إلى المجتمع.
حرِّيّتنا في الإسلام تستبطن المسؤولية، فما دمت حرّاً أنت مسؤول وتتحمل تبعات أعمالك، وتراعي قانون الشريعة وخط السير، وإلا فأيّ انفلات أو انحراف أو خروج على ذلك يعني انتهاكاً للقانون وإساءة للحرِّية.
إنّ الشاب الذي يصمّ سمعه ولا يريد الاستماع إلى النقد أو النصيحة أو المحاسبة بحجّة أنّه حرّ، والفتاة التي لا تراعي ضوابط العفّة والاحتشام بذريعة أنّها حرّة، والشباب الذين يمارسون بعض المنكرات التي تسيء إلى العادات والتقاليد بدعوى أنّهم أحرار، هؤلاء يسيئون للحرِّية من حيث لا يشعرون، وكم جرف الانحراف شباناً وفتيات إلى أحضان الرذيلة والجريمة واللصوصية والإدمان والمسوّغ هو الحرِّية السائبة التي جنت على أبنائها من المسلمين يوم لم يتعظوا بما جرّته على أمثالهم من الشباب في الغرب.
يتبع
تعليق