إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #21
    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 4-2

    أحد آثار هذه الرؤية، اتضاح تكليف الإنسان

    ما فائدة هذه الرؤية؟ أرجو أن تسمعوا هذه العبارة بتمعّن. من أهم فوائد هذه الرؤية الشمولية والصائبة هي أنها تشخص تكليف الإنسان بشكل دقيق. إنه لإدعاء كبير جدا، وهو أنه ليس لنا في كل الحياة سوى تكليف واحد. فلابدّ أن نراقب شيئا واحدا فقط. وسوف نعي هذه الحقيقة إن شاء الله. فليس المطلوب هو أن نقوم بمئة عمل ولأن أن نزيل مئة عيب ونحصل على مئة حسنة، فكلها أمر واحد.
    فلابدّ أن نعرف ذاك الأمر الواحد الذي تشتمل عليه كل الأعمال الصالحة، إذ إن جميع الحسنات والصالحات بدءً من الحد الأدنى من القضايا الأخلاقية إلى أقصى مراتب عشق الله وعشق أوليائه، هي صور لهذا الأمر الواحد الذي لا آخر له. فإن عرفت هذا النظام وصحّت رؤيتُك واتجاهُك، عندئذ ترسم خطا مستقيما من موقعك الذي أنت فيه إلى نقطة الهدف، وسوف تعلم ماذا عليك وما الذي يجب أن تقوم به.
    أما إن لم يقدر الإنسان على رسم هذا الخط المستقيم، يبقى في حيرة بين مختلف الفضائل والرذائل فلا يدري أيصلح حسده أم يراقب بخله أم يقضي على حب المقام أم يزيل حب الراحة؟! أفهل هي عيب واحد أم عيبان؟ بل هي آلاف، فما يصنع هذا الإنسان المسكين الضائع بين عيوبه ورذائله؟!
    إن هذه الحيرة ليست بحالة جيدة، فليس من الصحيح أن يكون الإنسان في حيرة من أمره لا يعرف حاجته الأولى من بين مختلف الصفات الجيدة، من قبيل الصدق والصبر والتواضع والكرم وغيرها. إن هذه الحالة هي حالة الحيرة المذمومة. قد يقول البعض أن الجميع مبتلون بهذه الحيرة. أقول: فهل تصبح حالة جيدة إن ابتلى بها الجميع؟! فأين موقع معرفة النفس إذن، وكيف نتمكن من محاسبة النفس؟ فإن لم تكن رؤيتي صائبة تجاه الطريق الذي أريد أن أسلكه وإن لم أعرف تكليفي الرئيس ولا أميّز بين التكليف الأصلي والفرعي، لن أستطيع أن أحاسب نفسي أبدا.

    من آثار هذه الرؤية، تبلور الحكمة في قلب الإنسان

    إن دور النبي(صلي الله عليه وآله) هو أن يعلّم الناس الكتاب والحكمة؛ (هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَة)[الجمعة:2] فما معنى الحكمة؟ إن الكتاب هو علم يدخل في قلب الإنسان من الخارج، أما الحكمة فهي علم تفور من داخل القلب. فالحكمة هي إنتاج العلم لا تعلّمه. فكأن الله أراد من النبي الأعظم(صلي الله عليه وآله) أن يربّي أفراد أمّته لكي يصيروا حكماء.
    من خصائص الإنسان الحكيم هي أنك عندما تقرأ عليه الروايات، يتقبلها بكل رحابة صدر ويؤيدها بقلبه. فهو يدرك صحتها ويعرف موقعها من الدين. فتجده يتحدث بمضمون الروايات قبل أن يسمعها أو يعثر عليها في كتب الحديث. فتأتي الآيات والروايات مؤيدة لما كان يشعر به في قلبه.
    متى يصل الإنسان إلى هذه الحكمة؟ عندما يشاهد الفيل كلّه بنظرة واحدة. أما إن لم ير الإنسان هذا الفيل وكانت معرفته به عبر بعض اللمسات المتفرقة وحسب، لا يستطيع أن يصدّق أو يستوعب كثيرا من كلمات المتحدّث عندما يتحدث عن الفيل. فإذا تحدّث عن ذنبه أو تحدّث عن خرطومه يتلقّى هذه المعلومات كمعلومات جديدة غريبة على قلبه وقد لا يستطيع الاستيناس بها.
    أما الحكيم فهو الذي قد رآى الفيل كلّه. فعن أي عضو من أعضاء الفيل تتحدث معه، يتفاعل معك ويكمل كلامك وحتى قد يزيدك ببعض المعلومات. فالحكيم هو ذاك الإنسان الذي تلصق الروايات بفؤاده لشدّة انسجامها مع ما طُبِع عليه قلبُه، ثم يعرف موقع الروايات من الدين وما هو دورها في حركة الإنسان الدينية. هذا هو أحد أبعاد الحكمة.
    من خصائص الحكيم هي أنّه يكون على بصيرة من نفسه. فهو يعرف داءه وعيوبه. ذات يوم قال لي رجل من أولي البصائر والألباب: إن بيني وبين الإمام الخميني(ره) بونا شاسعا. فاستغربت من قوله وقلت في نفسي: أمن الفنّ أن يعرف الإنسان أن بينه وبين الإمام الخميني(ره) بعد المشرقين؟! ولكني ما كنت أستطيع أن أبدي استغرابي له إذ كنت أحترمه كثيرا. ثم زال استغرابي في جملته التالية حيث قال: ولكني أعلم السبب والداء الذي جعلني أتأخّر عن مقام الإمام(رض). فعرفت أنه يتحدث بحكمة ووعي. وإلا فأنا أيضا أدعي أن هناك بون شاسع بيني وبين الإمام(رض)، ولكني لا أعرف الأمراض التي أخّرتني عن ذاك المقام، ولكنه قال إني أعرف العلة والداء الذي سبّب هذا البون الشاسع.
    هذه هي الحكمة. فإنها تجعلك تفهم وتعلم أكثر ممّا سمعت. وهذا هو أثر الرؤية والمشاهدة، حيث إنك تشاهد مشهدا عبر لحظة واحدة، ولكنك تقدر على كتابة ما شاهدت في مئة صفحة. وكلما رأيت المشهد من زاوية جديدة، تستطيع أن تكتب حقائق جديدة عن المشهد. فينبغي أن نرى الدين بطريقة نتمكن من شرح مختلف أبعاده للناس وأن نعطيهم صورة صحيحة عن الدين. لابد أن ندرك ماهية علاقتنا بالدين جيّدا ولا نخدع أنفسنا.

    يتبع إن شاء الله...

    تعليق


    • #22
      الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 4-3

      مرور على ما انتهينا إليه في الجلسات السابقة

      كل هذا ا لكلام الذي مرّ الآن واستغرق ربع ساعة، كان مقدمة البحث. فلنرى هل نستطيع أن نتقدم في البحث في نصف الساعة الباقية. فلنستعرض بإيجاز ما انتهينا إليه في الجلسات السابقة.
      لقد خلق الإنسان بصفته قادرا على إيجاد التغيير في وجوده، وقد عبّرنا عن هذا المعنى في الليلة البارحة بإنتاج القيمة المضافة. فتمّ القرار على أن يكون الإنسان قادرا على ترقية نفسه وتحسينها. ثم قلنا لا يتمّ هذا الإرتقاء عبر ازدياد المعلومات وحسب، إذ إن مجرّد ازدياد المعلومات لا يحسّن شيئا في العالم. وسوف تتضح أحقية هذا الإدعاء من خلال الأبحاث التالية.
      إن الارتقاء والتطوّر منوط بأن تشتملَ أنت على رغبة أو رغبات، ثم تتخلّص من بعض رغباتك عبر صراع شديد بين الرغبات، إلى رغبات أخرى. أو أن تغيّر هواك في خضمّ تضارب الأهواء. فهذا الارتقاء منوط بتغيير ثمين.
      فإن كنت تحبّ شيئا ما ثم تعمد إلى أكله أو لبسه أو اتخاذه تلبية لهواك، فإنك لم تتغيّر. وسوف يكون شأنك كشأن الملائكة الذين يحبّون الله ويسبحون بحمده بمقتضى طبيعتهم، فإنهم لا يقدرون على إيجاد تغيير في داخلهم. فإنهم صالحون ويبقون صالحين. ولكنك لست مثلهم إذ المفترض منك أن توجد تغييرا وأن تتكامل وتكسب الصلاح عبر عمليّة التغيير. هنا قد يتبادر في ذهنكم سؤالا وهو لماذا وجب ذلك وما السبب من اختصاص الإنسان بهذا التغيير، وسوف نجيب عن هذا السؤال لاحقا إن شاء الله.
      لقد قُدّر للإنسان أن يكون قادرا على تغيير نفسه ويكسب الصلاح عبر هذا التغيير، لا أن يكون موجودا صالحا من الأول كما هو الحال في الملائكة. بل لابد أن يترقّى ويصلح من خلال صيرورة وتغيّر. فإن نجح إنسان في هذه العمليّة واستطاع على إنجاز ذلك فقد سبق الملائكة وتفوّق عليهم. ولا سبيل لنيل هذا الهدف سوى أن تكون مشتملا على رغبات متعددة، وتُعطى حقّ الاختيار من بين أهواء ورغبات شتّى وكذلك تُعطى قدرةَ الاختيار، ثم تصرع رغبةً وتختار أخرى.
      هذا هو الحدث الرئيس الذي خُلقتَ إنسانا من أجله. وقد بدأت حياتك الإنسانية من هذا المنطلق. وصار الإنسان إنسانا لما يشتمل عليه من أهواء متضاربة لابدّ أن يختار بعضها دون الأخرى وهذا هو شأنه إلى آخر عمره. أما ما هي الرغائب التي لابدّ أن يصرعها الإنسان وما التي يجب أن يختارها وكيف يكون مسار هذا الصراع، فلابدّ أن نتحدث حول هذه المواضيع في المستقبل.

      فلسفة خلق الإنسان/ هوية الإنسان الرئيسة/ حقيقة الدين

      السؤال الذي لابدّ أن نجيب عنه بادئ ذي بدء ونهضمه جيدا هو أن لماذا جئنا إلى هذه الدنيا أساسا؟ لقد جئنا إلى الدنيا لنرغب ونشتهي بعض الأشياء ثم لا نمدّ أيدينا إليها. جئنا لنحبّ بعض الأشياء ثم نعاني من حرمانها. جئنا إلى الدنيا لنجاهد شهواتنا. ثم ما قيمة العلم في هذه الظروف؟ العلم خادم لهذا الحدث وهذه الملحمة. العلم خادم لهذا الجهاد. هذه هي قيمة العلم. فلا قيمة للعلم بالأصالة بل هو خادم لهذا الجهاد ويسهّل عملية الجهاد على الإنسان. إنه يهدي الإنسان ويخدمه في هذا المسار. فإن استخدمته في هذا السبيل يكون علما نافعا قيّما، وإلّا فيصبح مدعاة لهبوط مستواك وقلة قيمتك.
      وكذلك الحال في العمل، فالعمل القيّم هو ما كان ناتجا من هذا الجهاد. أما إذا كان من قبيل عمل النحل في عمليّة إنتاج العسل فلا فائدة له. إذ يطير النحل ويجلس على الأزهار ويمتصّ شهدها ثم ينتج العسل بمقتضى غريزته وطبيعته. فهل يستحق الأجر والثواب والجنان بهذا الإنتاج؟! كلا، إذ لا قيمة لهذا العمل ولأن الله لم يعلّمها عملا آخر، ولم تتردّد النحلة بين خيارين قطّ حين طيرانها في البساتين والحدائق، ولم تهشّ نفسها إلى الميتة مثلا لتبقى مترددة بين امتصاص دم الميتة أو شهد الزهور! فبسبب هذا الفارق الأساسي، صار الزنبور زنبورا وصرتَ أنت آدميّا. فمنذ أن عزم الله على أن يجعلك إنسانا، شاء لك أن تجاهد أهواءك فقد اُخِذ عنوان «مخالفة الأهواء» كعنصر محوري في تعريف هويّتك الإنسانيّة.
      لعلّك تسأل: أيّ الرغائب أحاربها؟ ولكن قبل أن تطرح هذا السؤال حاول أن تثبّت هذه الحقيقة في ضميرك، وهي أن قد خلقت من أجل مخالفة أهوائك. فحاول أن ترسّخ هذه الرؤية وتثبتها جيّدا، ثم يأتي الله ويعطيك البرنامج، إذ إن الدين هو برنامج جهاد النفس. فإن لم تكتبوا العبارة مئة مرة هذه الليلة، فعلى الأقل اكتبوها بخط كبير مرة واحدة وانصبوها أمامكم.
      إن الدين عبارة عن برنامج لجهاد النفس ومخالفة بعض الأهواء. هذا هو برنامج الدين، ولكن قبل أن يكون جهادُ النفس برنامج الدين، كان جزءً من هوية الإنسان وكان يمثل فلسفة خلق الإنسان. وقد سبق أن قرأت لكم كلام أمير المؤمنين(ع) حيث قال: «فِي خِلَافِ‏ النَّفْسِ‏ رُشْدُهَا»(تحف العقول/ص91). فإنّ هويّة الإنسان وصلاحه، في هذا الجهاد بغض النظر عن أحكام الله ويوم القيامة، بل قد صُبّت تركيبة الإنسان على هذا الأساس. فمن لم يجاهد نفسه يخرج عن تعادله ويترنّح يمينا وشمالا.

      يتبع إن شاء الله...

      تعليق


      • #23
        الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 4-4

        لم يفهم الكثير معنى الدين ومعنى الحياة

        أتذكر في أيام الصبى حيث كنا نذهب إلى المدرسة في طهران، كان المعلمون يمارسون الضرب ويؤدبون الطلاب بهذا الأسلوب. ذات يوم أحضر الأستاذ الطالب وقال له: ارفع يدك وبدأ يضربه. فكان الطالب يصرخ ويقول: «أوجعتني العودة، لا تضرب يا أستاذ»! فردّ عليه المعلّم متعجبا وقال: أنا أضربك لتتألم وتشعر بالوجع. يبدو أنك لا تعرف معنى هذا الضرب ولا تعرف سببه، إذ إن الغاية من الضرب هو الألم! فكلما كان الطالب يتأوّه ويصرخ ويقول: أوجعتني وألمتني...، كان يقول المعلم: إنني جئت أضربك من أجل هذا الوجع والألم. فإن كنت غير راض، حاول أن لا أضربك أبدا، لا أن تعترض على وجع الضرب. فكانت نظرة هذا الطالب تجاه ضرب المعلم وتأديبه نظرة خاطئة.
        وكذلك الحال في من يستدلّ على عمل ما لكونه يُعجبه، ففي الواقع إن رؤيته للحياة غير صحيحة. فقد زعم أن الحياة هي مثابرة للحصول على الأهواء والمشتهيات. في حين أن الحياة على عكس ما يزعم تماما.
        فقد جئنا في هذه الدنيا لنخالف أهواءنا ومشتهياتنا المتنوعة والمتضادة والمتعارضة ولابدّ لنا من أن نضحّي ببعضها في سبيل بعض أخر وتعسا لي إذ دائما أضحّي برغباتي الفطرية والإلهية في سبيل الشكلاتة والحلويات وأمثال هذه التوافه وطوبى لكم إذ تضحون بمشتهياتكم الدنيوية في سبيل رغائب أسمى وأعلى.
        لعلك تسألني ألا يمكن أن يكون الدين بالنحو الذي يوفّر لنا ما نرغب وما نشتهي ولا يعارضها؟ لعلك لم تعِ القضية جيدا، ولم تفهم السبب من خلقك إنسانا. فإن أدرك الناس هذه الحقيقة، بعد ذلك لا يمكن لأحد أن يغضب في الشارع أو البيت. فهذا الذي يغضب وينفعل بمجرد أن يزعجه أحد، لم يفهم معنى الحياة. فهو يتصور أن المفترض والقاعدة هي أن لا ينزعج ولا يتألم في حياته. فلا يعلم المسكين أن فلسفة الحياة هي أن يتألم ويلاقي مختلف الإزعاجات.
        أكتبوا هذه الآية المباركة؛ (لَقَد خَلَقنَا الإنسانَ فِي ?َبَد)[البلد:4] فقد خلق الله الإنسان في كبد، لا أنه مجرد قد اقترح عليه أن يكابد. فما معنى الكبد؟ يعني الشدّة والأحداث التي لا تلائم هواي. هذه هي فلسفة الحياة، وليست أحداث جاءت بها الصدفة. فقد خلقتَ لهذا العناء وتجرّع هذه الآلام.

        لابدّ من تربية الأولاد على هذا الأساس

        متى يبدأ الوالدان بتعليم الكَبَد والعناء لأولادهم؟ لا أن يفرضوا عليهم العناء ويصعّبوا عليهم الحياة حتى يتعقدوا ويفرّوا من العناء. إن تربية الولد بمعنى أن ترحّب صدره لاستقبال الكبد والعناء. فلابدّ أن يصبح الولد أهلا لتحمل الآلام والمشاكل. لابدّ أن تتحدث أمّه معه بكل سهولة عن المشاكل والآلام والمحن التي سوف تنهال عليه في حياته. فكلما شعر الولد أنه تخلص من مشاكل الدنيا وآلامها لابدّ أن تنبهه على اشتباهه وتقول له: لا تنخدع عزيزي فسوف تأتيك سهامها وآلامها ومحنها، فلا تخف إذ هذه هي قاعدة الحياة. يروي يونس بن يعقوب يقول سمعت الإمام الصادق(ع) يقول: « مَلْعُونٌ كُلُّ بَدَنٍ لَا يُصَابُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ‏ يَوْماً قُلْتُ مَلْعُونٌ قَالَ مَلْعُونٌ قُلْتُ مَلْعُونٌ قَالَ مَلْعُونٌ فَلَمَّا رَآنِي قَدْ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ قَالَ يَا يُونُسُ إِنَّ مِنَ الْبَلِيَّةِ الْخَدْشَةَ وَ اللَّطْمَةَ وَ الْعَثْرَةَ وَ النَّكْبَةَ وَ الْهَفْوَةَ وَ انْقِطَاعَ الشِّسْعِ وَ اخْتِلَاجَ الْعَيْنِ وَ أَشْبَاهَ ذَلِكَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ‏ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ يَوْماً لَا يُمَحِّصُهُ فِيهَا مِنْ ذُنُوبِهِ وَ لَوْ بِغَمٍّ يُصِيبُهُ لَا يَدْرِي مَا وَجْهُهُ وَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَضَعُ الدَّرَاهِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَزِنُهَا فَيَجِدُهَا نَاقِصَةً فَيَغْتَمُّ بِذَلِكَ ثُمَّ يُعِيدُ وَزْنَهَا فَيَجِدُهَا سَوَاءً فَيَكُونُ ذَلِكَ حَطّاً لِبَعْضِ ذُنُوبِهِ».[التمحيص/ص31]
        فإن صببت كلّ نشاطك في الحياة الدنيا من أجل إزالة الآلام والمتاعب عن حياتك فإنك مشتبه تماما وتهدف إلى غاية لا تنالها أبدا. وإن دلّت مساعيك العقيمة على شيء فإنها تدل على أنك لم تفهم معنى الحياة.

        ما الذي نستطيع أن نغيره في خضمّ الآلام والمحن؟

        الشيء الوحيد الذي تقدر عليه في خضمّ هذه الحياة المليئة بالمحن هو أن تختار نوعية محنتك وترفع مدى انتفاعك بمحنتك. بمستطاعك أن تحسن الاستفادة من ألمك كما بإمكانك أن تستقبل وتتلقى وتحتضن المحن التي اخترتها. فاستقبل المحن إذ قال أمير المؤمنين(ع) في دعاء كميل: «لا يم?ن الفرار من ح?ومت?». ما معنى عدم إمكان الفرار من حكومة الله؟ أحد أوجه حكومة الله هي هذه السنن التي تتحكم في حياة الإنسان ومن أصول هذه السنن هو المحنة وكوني عاجزا عن محو المحن والآلام في الحياة.
        فإني باق في المحن وسأعيش في خضم الآلام، ولكن إلهي! أعنّي على تحمّل أفضل الآلام وأرقاها، لا أن أعاني وأتألم بسبب الحسد. لماذا نعاني من الحسد؟ فلنختر المعاناة والآلام الراقية والسامية إن كان لابدّ لنا منها.
        أحد خيارات الألم والعناء التي أمامكم هو ألم الحسد، فإن ألم الحسد وحزنه شديد جدا وحتى قد يصيب الإنسان بأمراض غريبة. والخيار الآخر هو ألم الحسرة، وذلك أن تتحسر على ما فقدته وضاع منك، فهو حزن يحكي عن خلل عقائدي، إذ قال الله سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا في‏ أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ في‏ كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسير * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُور)[الحديد:22ـ 23]. هذه نماذج من الآلام والأحزان التعيسة والسلبية.
        وهناك آلام جيدة، مثل ما لو تفضلت على أحد ورأفت به، ثم ينكر فضلَك ولا يقدّرك. أو أن تقوم بعمل أو إنجاز ما فيأتي آخرون ويُشْهرونه باسمهم. كيف تريد أن تحترق ويتألم قلبك، بالحسد أو بسرقة جهدك ونشاطك؟! أما أن تقول لي: لا أريد أن يحترق قلبي مهما كان السبب، فهذا ما لا يمكن. فلا تفرّ واختر أحدهما فلا يمكن أن يصلح الإنسان إلا أن يغصبوا حقّه. إذ إن راقب الإنسان جميع الناس وجميع الشؤون حتى لا يظلمه أحد ولا يغصبه أحد ولا يأكل حقّه أحد، فهو أشبه شيء بالذئب من الإنسان. فقد روي عن الإمام الصادق(ع): «لَيْسَ مِنَ الْإِنْصَافِ مُطَالَبَةُ الْإِخْوَانِ‏ بِالْإِنْصَافِ‏»[أمالي الطوسي: 280]
        هل تظن أن الله يسمح لك بالفرار من هذا القانون وأن تعيش حياة هادئة بلا أن يظلمك أحد. فما إن تسلك سبيل الصلاح وتحاول أن تحسّن نفسيتك وروحيّتك، وإذا يبتليك الله بأشخاص لا يقدّرون فضلك وإحسانك فتندم من كلّ فضل وإحسان!
        لا يمكن الفرار من الحزن والعناء فاختر ما شئت من أنواعها. أيهما أفضل التحسر على ما فاتك من الدنيا، أو حزن الخجل والندم بين يدي الله؟ فإذا كنت ممن يتحسر على الدنيا، لن تتمكن من البكاء والتحسر على فرص التقرب إلى الله، ولن تقدر على بكاء التوبة أبدا، إذ قد انشغل لبّك بالأحزان الأولية الدنيوية.

        يتبع إن شاء الله...

        تعليق


        • #24
          الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 4-5

          كيف كانت مراقبة أولياء الله

          لقد آمن أولياء الله بقوله تعالى (لَقَد خَلَقنَا الإنسانَ فِي ?َبَد) فأخذوا يراقبون قلوبهم، لكي لا يعتريها حزن سيّئ للحظة واحدة، وفي المقابل لا تخلو قلوبهم من حزن جيد. لقد جعلوا حياتهم على أساس أن لا تخلو من الأحزان الجيّدة. وأنا أعرف بعض أولياء الله الذين كانوا يؤذَون وحتى يضربون من قبل زوجاتهم. هذا هو قانون الحياة، إذ قد أعدّ الله المرارة والعناء والحزن والبلاء للجميع.
          إن استطعت أن تجعل أحزانك أحزانا راقية جيّدة، تزدهر وتنمو. سلام الله على الحسين(ع) إذ كل ما اشتدّت عليه المصائب والأحزان يوم عاشوراء ازداد وجهه إشراقا. كما قال الإمام زين العابدين(ع): «وَ كَانَ الْحُسَيْنُ(ع) وَ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ خَصَائِصِهِ تُشْرِقُ‏ أَلْوَانُهُمْ‏ وَ تَهْدَأُ جَوَارِحُهُمْ وَ تَسْكُنُ نُفُوسُهُم»[معاني الأخبار/288]
          لمّا عفا الله النبي إبراهيم(ع) عن ذبح ابنه إسماعيل، حزن إبراهيم وتمنّى أن لم يؤمر بذبح الكبش. إنه كان يحبّ إسماعيل(ع) ولكنّه حزن بعد هذا الإعفاء، إذ فاتت منه فرصة التضحية وتقديم القربان. ما معنى القربان وتقديم الأضحية أيها الإخوة؟ هو أن تذبح شيئا تحبّه في سبيل الله وبأمر الله. فحزن إبراهيم لأنه لم يوفّق لتقديم الأضحية في سبيل الله، إذ لم يقدّم ابنه إسماعيل. وكان إبراهيم صادقا في حزنه واكتئابه.
          أسألكم سؤالا؛ هل أن الله قد خفّف الحزن والبلاء على إبراهيم بإعفائه عن ذبح إسماعيل؟ هل تتصورون ذلك؟! كلا، إذ لم يخفّف الله على إبراهيم أبدا. إنه قد عفاه عن ذبح ابنه إسماعيل ولكن كشف له عن حدث مفجع آخر لا تساويه فجيعة ذبح مئة إسماعيل. لقد قال الله سبحانه له: «يَا إِبْرَاهِيمُ‏ مَنْ أَحَبُّ خَلْقِي إِلَيْكَ فَقَالَ يَا رَبِّ مَا خَلَقْتَ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَبِيبِكَ مُحَمَّدٍ ص فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ نَفْسُكَ قَالَ بَلْ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ فَوُلْدُهُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ وُلْدُكَ قَالَ بَلْ وُلْدُهُ قَالَ فَذَبْحُ وُلْدِهِ ظُلْماً عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِ أَوْجَعُ لِقَلْبِكَ أَوْ ذَبْحُ‏ وُلْدِكَ بِيَدِكَ فِي طَاعَتِي قَالَ يَا رَبِّ بَلْ ذَبْحُ وُلْدِهِ ظُلْماً عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِ أَوْجَعُ لِقَلْبِي» و?ان إبراهيم صادقا في هذه الأجوبة. ثم نقل الله قلب إبراهيم إلى كربلاء وإلى جانب حفرة مقتل الحسين(ع)، فكأن كل هذه القصّة كانت مقدمة لمجلس عزاء الحسين(ع). ثم قال له: «يَا إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ طَائِفَةً تَزْعُمُ أَنَّهَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ سَتَقْتُلُ الْحُسَيْنَ‏ ابْنَهُ مِنْ بَعْدِهِ ظُلْماً وَ عُدْوَاناً كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ وَ يَسْتَوْجِبُونَ بِذَلِكَ سَخَطِي»[الخصال، ج1، ص58]. فهل قد خفف الله على إبراهيم؟ كلا بل أوجع قلبه بألم وحزن أشدّ. فلو كان قد ذبح إسماعيل لما انفجع قلبه بهذه الشدّة، إذ لم يأخذ إسماعيل موقع الحسين(ع) من قلب إبراهيم(ع).

          توبوا إلى الله من أحزانكم الرخيصة

          لابدّ أن نبحث عن الآلام والأحزان الراقية والبناءة. ولنتب إلى الله سبحانه في هذه الليلة من الآلام السيئة التي تحمّلناها وبذّرنا بها طاقاتنا وأتلفنا بها قوانا فقضينا بها على إنسانيتنا وسوّدنا بها قلوبنا ولم نحصّل بذلك غير الألم والعناء. فلنتب من هذه الآلام التعيسة، ونتقرب بهذه التوبة إلى درجة الاستغفار.
          كيف كان أولياء الله، وكيف عاشوا وما كانت آلامهم وأحزانهم؟ فكل أحزانهم كانت في خدمة الله وفي سبيل الله وبسبب ما كانوا يشعرون به من البعد عن الله والبطؤ الذي كانوا يشعرون به في مسيرتهم نحو الله. فهذا كان حزنهم وألمهم وكانوا يزدادون حزنا وألما يوما بعد يوم.
          كان يتجلّى لهم الله سبحانه بشيء من جماله وآلائه، فكانوا يحزنون من بعدهم عن الله وطول المسافة بينهم وبين الله، مع قربهم واتصالهم بالله. وكلما يتجلى لهم الله سبحانه يأخذهم الخجل والحياء والحزن والحسرة، إذ يرون أنفسهم عاجزين عن أداء شيء من حق الله عليهم. ولهذا يبكون ويضجون ويسكبون الدموع ويطيلون الوقوف بين يدي الله.
          لماذا لا نقدر على تجرّع هذه الآلام والأحزان؟ لأننا غرقنا في مستنقع الحياة الدنيوية وانشغلنا بآلامها وأحزانها وعنائها عن تلك الأحزان الراقية. ينقل السيد أحمد ابن الإمام الخميني(رض) أن الإمام كان يمسح دموعه في آخر سنة من عمره بالنمنشفة وما كان يكفيه المنديل! وهذا حزن لا علاج له، إذ مهما أجابه الله ولطف به وتجلى في قلبه، يبقى يشعر بمدى بعده عن الله وتبقى دموعه تنهمر من شدة هذا الحزن الجميل والرائع.
          أما نحن التعساء فلا نشعر بهذا الحزن. إذ أردنا أن نفرّ من الأحزان والغموم ولم نخضع لقاعدة الحياة وفلسفتها. فما زلنا نعترض على خلقنا وفلسفة خلقنا، ونفرّ من الآلام والمتاعب كالأطفال.

          صلى الله عليك يا أبا عبد الله

          يا أبا عبد الله! إن ما شاهده إبراهيم الخليل من مسافة آلاف السنين وفجع به طيلة حياته، قد شاهدته العقيلة زينب من مسافة أمتار. ساعد الله قلب زينب، فيا لها من امرأة عظيمة. الهي في هذا الشهر المبارك وفي هذه الجلسات عرفنا على عظمة مقام العقيلة زينب.
          لا أدري، فلعلّ قد خطر لإبراهيم هذا السؤال أن من الذي رأى الحسين(ع) في آخر لحظات حياته، ومن الذي ودّعه آخر مرة. ألا يا إبراهيم! العقيلة زينب هي آخر من ودعت الحسين(ع)، هي التي حيرت عقول الرجال بصبرها وطاقتها على تحمل هذا المصاب العظيم. وأنا لا أدري أين كانت زينب حينما رفع رأس الحسين(ع) على الرماح؟

          ألا لعنة الله على القوم الظالمين.

          تعليق


          • #25
            الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 5-1

            إليك ملخص الجلسة الخامسة من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.

            مرور على ما سبق

            لقد بدأنا الأبحاث ـ أيها الإخوة الأعزّاء ـ بطرح موضوع بدلا من طرح مسألة. فقد كان موضوعنا بالتحديد هو الجهاد الأكبر، أو جهاد النفس أو مخالفة الهوى على أساس مختلف التعابير التي جاءت في الروايات وآيات القرآن. ثم طرحنا في أجواء هذا الموضوع سؤالا مهمّا ثم تحوّل السؤال بالتدريج إلى مسألة وقضية.
            سألنا لماذا اعتبر النبي الجهاد جهادا أصغر مع كونه من أفضل الأعمال الصالحة وقد ينتهي إلى الذروة والقمة المتمثلة بالشهادة، وبالرغم من اشتماله على الصعاب والمتاعب، ثم دعا إلى جهاد من نمط آخر وسمّاه الجهاد الأكبر.
            هل أن مخالفة النفس ومحاربة الأهواء النفسية جهاد واقعا؟ وهل أنها أكبر من ذلك الجهاد؟ وهل أن ظاهرة الحرب وأيام الدفاع المقدس التي عشناها في بداية الثورة، هي ظاهرة أصغر من الجهاد الأكبر؟ فقد انطلقنا بالبحث من هذا الموضوع.
            ثم أردفنا إلى هذا الموضوع بعض المعلومات وأجّلنا إثباتها إلى إشعار آخر. فكانت هذه المعلومات هي أن هناك عبادة سيئة وأساسية في مقابل عبادة الله، وهي عبادة الهوى. وهي النقطة المقابلة لجهاد النفس. فقرأت عليكم بعض الروايات في هذا المجال من قبيل ما روي عن رسول الله(ص) حيث قال: «ما تَحَت ظِلِّ السَّماءِ مِن إلهٍ يُعبَدُ مِن دُونِ الله ِ أعظَمَ عِندَ الله ِ مِن هَوىً مُتَّبَعٍ» [ميزان الحكمة، ج13، ص61]
            ثم ذكرنا أن الروايات قد اعتبرت مخالفة الهوى نظامَ الدين، فقد روي عن أمير المؤمنين(ع): «نِظَامُ‏ الدِّينِ‏ مُخَالَفَةُ الْهَوَى‏ وَ التَّنَزُّهُ عَنِ الدُّنْيَا»[تصنيف غرر الحكم، ص241]. ما معنى نظام الدين؟ يعني خيط السبحة. فعلمنا أن الجهاد الأكبر ليس أكبر من الحرب والجهاد المسلح وحسب، بل إنه نظام الدين والنقطة المقابلة له هو اتباع الهوى. ثم ذكرنا أن العمل الرئيس والأساسي الذي يجب أن نقوم به طيلة حياتنا من أوّلها إلى آخرها ليس سوى جهاد النفس.

            لا يكفي العلم بأهمية جهاد النفس

            ولكن لا تنحل المشكلة بمجرّد أن قلنا أنّ أهمّ جهادٍ هو جهاد النفس، إذ من أجل أن ندرك هذا الكلام ونقتنع به، لابدّ أن نعي بعمقٍ أنّ جهاد النفس محور عبادتنا وحياتنا.
            أنا أعتقد أن تسعة وتسعين في المئة من الناس الذين سمعوا بالجهاد الأكبر ومخالفة النفس لم يفهموا معناه جيدا. كما أني أسوأ حالا من جميعهم ولا سيما على مستوى العمل. ولكني أرى أن هذا الموضوع لم يأخذ موقعه المحوري في أذهان الناس ورؤاهم، فليست هناك رؤية صحيحة تجاه هذا الموضوع. وقد قلت في مقدمة المحاضرة السابقة إننا نهدف عبر هذه السلسلة إلى تغيير الرؤى تجاه هذا الموضوع. فمن أجل إدراك هذه الحقيقة بعمق، ووجدان محورية جهاد النفس في الحياة والدين، ومن أجل أن يصبح هذا الجهاد همّنا الرئيس في الحياة، لابدّ من كلام ونقاش وبحث مفصل، إذ لا تنحل المشكلة بكلمتين.
            ثم بعد ما اتضحت لنا هذه الحقيقة واستوعبناها بكل وجودنا، حينئذ ننتقل إلى كيفية هذا الجهاد، وما هي الرغبات التي لابد من محاربتها وكم يجب أن نخالف أهواءنا. فهذه أبحاث تأتي في المرحلة الثانية. أما الآن فلابدّ أن نسعى لاتضاح أصل هذه الحقيقة. فإن اتضحت سوف تسخّر ذهننا وإدراكنا بشكل كامل. وسوف تكون حاضرة في ذهننا دائما، وتبشّر بمراقبة مستمرة مؤثرة وموفقة. إنكم لستم أشخاصا سيئين، فلماذا تفرّطون بطاقاتكم؟ ولماذا تسمحون لقواكم أن تضعف وتتضاءل فتعجزون عن المراقبة؟ لأنكم تزعمون أن يجب عليكم أن تراقبوا أنفسكم في مئة قضية. ولكن القضية ليست كذلك. فلابدّ لكم من مراقبة قضية واحدة. أما دمج مئة موضوع في موضوع واحد بحاجة إلى فهم عمیق جدا.
            لابدّ أن تدرك هذه الحقيقة بكل وجودك يا أخي العزيز! وهي أنّك لا تحتاج إلى مواجهة الحرص والحسرة الباطلة، ولا تحتاج إلى الاحتكاك بموضوع الصدق والصبر وكثير من المواضيع الأخرى. كما لست بحاجة إلى الاحتكاك بالتكبّر والتواضع. فأنت بغنى عن الاحتكاك بكثير من المواضيع، إذ قضيتك قضية واحدة فصبّ همّتك كلّها في معالجة هذه القضيّة. وسوف نخوض في هذا الموضوع إن شاء الله.

            لا مفرّ للمؤمن وغير المؤمن من جهاد النفس

            لماذا جهاد النفس؟ لا أريد أن أكرّر ما ذكرته في الليالي السابقة، بل أحاول أن أجيب عن هذا السؤال بإشارة وبطريقة أخرى؟ أولا، لا يخفى عليكم أيها الإخوة أن جهاد النفس عمل عسير. ومن جانب آخر لستم وحيدين في مخالفة هواكم، بل قد اجتمع الله ووجودكم والكون بأجمعه على مخالفة هواكم، سواء أكنتم مؤمنين أم كافرين. هذا معنى كونكم غير وحيدين.
            يقول الله سبحانه وتعالى: (لَقَد خَلَقْنا الإنسانَ في كَبَد) لا «لقد خلقنا المؤمن في كبد». فلا سبيل لأحد إلى حذف الكبد والعناء من حياته. وقد سبق أن ذكرنا معنى الكبد والعناء وهو تلك الأحداث التي تقع بما لا تشتهي أنفسنا.
            بالرغم من سلوك بعض المساكين الجهلة الذين يفسقون بهدف تخفيف الألم والعناء عن حياتهم وأولئك الذين يفرّون من الدين طلبا للمزيد من الراحة وفرارا من العناء، لا يستطيع أحد أن يخفف من عنائه بترك واجب أو ارتكاب محرّم. ولا يشدّد الالتزام بالدين من عناء الإنسان.

            يتبع إن شاء الله...

            تعليق


            • #26
              الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 5-2

              إن مخالفتك الهوى ليس من وظائفك فقط، بل هي من شؤون دنياك وشؤون ربّك أيضا. فلن يسمح الله سبحانه لك بحياة بلا عناء ومنغّصات. هذا هو الواقع شئت أم أبيت. لماذا؟ سنتحدث عن العلة لاحقا كما تحدثنا قليلا عن سبب هذا الشيء سابقا. أما الآن فلنشاهد الواقع ونرى هذه الحقيقة في العالم وهي أن لا مفرّ من العناء والكبد لإي إنسان مهما كان دينه وعمله.
              هل تتصورون أن تحمّل العناء مختصّ بمن يريد أن يسلك الطريق إلى الله؟ كلا! فقد قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى من القرآن الكريم: (يا أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى رَبِّكَ كدْحاً فَمُلاقيهِ)[الانشقاق:6]. أنا قد طرحت هذا الموضوع في مكان آخر بلا أن تكون لي الفرصة الكافية للخوض فيه بالتفصيل. فجاءني بعض المستمعين الكرام وقال لي: إن كلامك مرّ جدا! فأرجو من الإخوة أن يمعنوا النظر في مضامين الأبحاث ليروا هل الكلام مرّ واقعا؟! أليس هذه الخطاب الصريح مستوحى من أسلوب القرآن إذ يقول: (يا أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى رَبِّكَ كدْحاً فَمُلاقيهِ)؟ فماذا يريد أن يفهّمنا القرآن؟ ولماذا يتحدث بهذا القدر من التأكيد؟ إنه يخاطب الإنسان مهما كان دينه ومذهبه ومهما كان التزامه وتديّنه. يقول له إنك في طريق ومسار ينتهي إلى لقاء الله، فهذا هو مصيرك المحتوم الذي لابدّ منه. ثم لا يخلو سيرك إلى الله مهما كان مضمونه ونوعيته، من السعي والكدّ والكدح الشديد.
              يقول: (كادِحٌ إلى رَبِّكَ كدْحاً) فهل أنا الذي أبالغ في التأكيد؟! لماذا يعطي الله سبحانه للناس هذه المعرفة بكل صراحة؟ لأن من شأن هذه المعرفة أن تسهّل على الناس مصاعب الدين. فإنها تحكي عن حقيقة راقية جدا وتقول لك عش كيف شئت، فهل تزعم أنك تستطيع أن تعيش بلا أن تجاهد نفسك؟ بل إنك سوف تجاهد نفسك بلا شكّ. وتلذّذْ في الدنيا وتهرّبْ مهما شئت من مخالفة الهوى، فهل تتصور أنك سوف تنجح في هذا الهروب؟ كلا! فإنك سوف تخالف هواك بلا ريب.
              وأنا أتصور أن ليس هناك بشارة تدفع الإنسان إلى مخالفة هواه أكثر من هذه الحقيقة الرائعة التي تعبّر عنها هذه الآية المباركة: (يا أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى رَبِّكَ كدْحاً فَمُلاقيهِ). هل تنزعج من السيطرة على نفسك وتريد أن تطلق عنانها؟ لا بأس، كن كيف شئت ولكنك سوف تضطر إلى السيطرة على نفسك بلا شك.
              في الأمس كنّا نقول لا مفرّ ولا مخلص من الألم والعناء، وليس لك إلا أن تختار أحد أنواع المعاناة والآلام. أما في هذه الليلة أقول شيئا آخر ـ أيها الأحبّة ـ وهو أنه هل تريد أن لا تجاهد نفسك مضافا إلى العناء الذي تفرضه عليك الحياة؟ فلا سبيل إلى ذلك إذ سوف تجاهد نفسك أكيدا. إذ في حركتك إلى الله تعالى سوف تسعى سعيا مصحوبا بالعناء والألم وهذا هو الكدح، أي سوف تجاهد نفسك، وإن كان بلا ثمر وطائل ونتيجة.
              إن رؤية الله سبحانه وتعالى في القرآن رؤية دقيقة وخاصة جدا تختلف عن رؤانا بكثير. فقد قال سبحانه: (أُولئِكَ الَّذينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُم‏)[الكهف/105] فلعلك تقول: أفهل كانوا يعملون شيئا حتى تحبط أعمالهم؟ نعم! إذ كل الناس يعملون ولكن الله يقبل أعمال الصالحين فقط وإلّا فالكفار والفاسقون يعملون ويكدّون ويكابدون ويجاهدون أنفسهم ويتحملون العناء والتعب والسَهَر وكلّ شيء.
              أنظروا إلى من حولكم بتمعّن. من الذي لا يجاهد هوى نفسه؟ أي إنسان وفي أي بلد وفي أي ثقافة؟! إن جميع الناس يجاهدون أهواءهم ويكفون عن الكثير من مشتهياتهم وكلّهم مؤدّبون بمجموعة من الآداب والأصول وكلهم يتحملون العناء والألم في حياتهم، ولكن ما أكثر الناس الذين يجاهدون أنفسهم ويتحملون المشقّات والصعاب والآلام والمحن والأحزان من أجل غايات تافهة لا قيمة لها فلا ينضجون ولا يرشدون ولا يترقّون، أما أنت فاجعل جهادك الذي لا مناص منه جهادا صحيحا قيّما.
              كلّما فررت من جهاد النفس وركنت إلى أهوائك سجّل الموقف، لترى أنك سوف تضطر إلى مجاهدة نفسك في نفس الموضوع ولكن بلا نتيجة وبغير صواب. إنها قاعدة لا يسمح الله لأحد بالفرار منها.

              إن فهم هذه القاعدة يقضي على حالة العجب

              لا أريد أن أخوّفك بذكر هذه الحقائق أبدا. ولكن أريد أن تخرج بهذه النتيجة من خلال هذا الكلام، وهو أن تناجي ربك وتقول له: إلهي أنا لم أفعل أيّ شيء بمجيئي إليك ومناجاتك في جوف الليل وتحمل العناء في سبيلك. أنا لم أفعل أي شيء ولم أضحّ بشيء. ماذا فعلتَ في جنب الله؟ هل عانيت وسهرت مثلا؟ كان لابدّ لك من المعاناة والسهر، فلو كنت لم تعان ولم تسهر مع الله، لعانيت وسهرت في محل آخر بلا نفع ولا رشد، بيد أنك عانيت وسهرت هنا فأجرت ورشدت. إذن العناء مشترك والسهر مشترك فلا تمنّ على الله ولا تحسب أنك شيء ولا تتوهم أنك قد ضحيت بشيء.
              هل تعلمون يتحسّرون أهل النار؟ إنهم يتحسرون لأنهم قد عانوا وقاسوا بقدر المؤمنين، ولم تكن حياتهم الفاسقة في الدنيا حياة بلا عناء وألم وحزن. فيشعرون أنهم عاشوا في الحياة الدنيا بتعب وألم وعناء ثم صار مأواهم النار، أما أنت فعشت في الحياة الدنيا بنفس المقدار من العناء والكدح إن لم يكن أقل منهم، ولكن ذهبت إلى الجنان! ولعلّ هذه الحقيقة هي التي جعلت الأنبياء يبكون ويصرخون حسرة على أممهم، إذ يرون مدى الخسران العظيم الذي يلحق بالإنسان إن لم يلتزم بدين ربّه.

              يتبع إن شاء الله...

              تعليق


              • #27
                الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 5-3

                قلب الإنسان محط تعارض الأهواء

                ذكرت في الليالي السابقة أن تركيبة الإنسان قد اشتملت على أهواء ورغائب مختلفة، وهذا ما وفّر الأرضية لعناء الإنسان، إذ لا يقدر الإنسان على تلبية جميع رغباته، ولا مناص له من اختيار بعضها على حساب ترك الباقي.
                لقد شاءت إرادة الله سبحانه أن يفرض الكبد والكدح على الإنسان، فأعطاه رغبات وأهواء مختلفة، فبقي الإنسان حائرا بين رغائبه، لا يدري ماذا يصنع. إنه يحب الله وفي نفس الوقت يحب الدنيا، ومن هذا التعارض تبدأ المعاناة والمشاكل. وهذا هو سرّ جهاد النفس.
                لقد اجتمع في قلب الإنسان حبّ الجديد من جانب والأنس بالقديم من جانب آخر فهو ينزع إلى التجدد وفي نفس الوقت يميل إلى السنن وكذلك قد يخالف الظواهر الجديدة وغير المألوفة، وفي وقت آخر قد يرفض الشيء القديم. ولهذا يقول أمير المؤمنين(ع): «لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الْإِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ وَ ذَلِكَ الْقَلْبُ لَهُ مَوَادٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ أَضْدَادٌ مِنْ خِلَافِهَا»[تصنيف غرر الحكم/ص66]. هكذا يصبّ الله الكبد والعناء على الإنسان، ومن هذه النقطة المعرفية في وجود الإنسان أي الرغبات المتضادّة يبدأ جهاد النفس. طبعا هذا هو من أبسط نماذج وأساليب جهاد النفس.
                هناك نموذج آخر وهو أن الوصول إلى الرغبات والمشتهيات لابدّ أن يمرّ من التضحية بمشتهيات وأهواء أخرى. فهذا الشاب الهاوي الذي يريد أن يشاهد مباراة كرة القدم في العاصمة مثلا، لابدّ أن يلوي عنق حبّ راحته ويسافر إلى العاصمة وينام في الشارع. هذا الشاب هو نفسه الذي كان حساسا بسريره ومخدّته وشرشفه، أمّا تَرَك هذه الأسباب كلها وراح ينام في الرصيف أو في الحديقة ليشاهد المباراة عن قرب. فهو في الواقع قد جاهد نفسه وضحّى ببعض رغباته في سبيل رغبات أخرى. ولا يمكن لك أن تصل إلى شيء من أمانيك ورغائبك ما لم تغض الطرف عن رغائب أخرى. فقد ركبّ الله سبحانه وجودك على أساس أن يكون جهاد النفس أحد مقتضيات إنسانيتك.

                العالَم الخارجي أيضا يفرض علينا أنواع المحن ويضطرنا إلى جهاد النفس

                ولكن غير التضارب الموجود في داخل الإنسان هناك عوامل أخرى من الخارج، وبودّي في هذه الليلة أن أتطرق إلى هذه العوامل. هناك عبارة فوق الرائعة عن أمير المؤمنين(ع) يقول فيها: «عَرَفْتُ اللهَ سبحانه بِفَسْخِ العَزائِم»[نهج البلاغة/ص511/ح247] وفي الواقع يقف الإنسان حائرا لا يدري كيف يشرح هذه العبارة الرائعة لأمير المؤمنين(ع). إن هذا الرجل العظيم والعارف بالله وأمير العارفين يقول أتدري أين عرفتُ الله وبماذا عرفته؟ لقد عرفته بفسخ العزائم. ما معنى فسخ العزائم؟ يعني عندما يخرّب الله حسابات الإنسان وتخطيطاته وبرمجاته.
                وكذلك الله سبحانه يريد أن يلفت أنظارنا إلى نفسه من خلال إفشال بعض التخطيطات والحسابات، لنلتفت إليه ونراه ونأخذه بعين الاعتبار. فهل قد رأيتَ الله في هذه الحالات؟
                بعد عدّة ليال سوف يقدر الله سبحانه وتعالى مقدرات عامنا القادم في ليلة القدر ومن المؤكد أنه سوف يقدر لنا بعض المشاكل والابتلاءات وإفشال بعض الحسابات والتخطيطات. لقد كشف أمير المؤمنين روحي وأرواح العالمين له الفداء في مطلع كتابه لابنه الإمام الحسن(ع) عن هذه الحقيقة بكل صراحة، فقد بدأ كتابه بهذه العبارة «مِن الوالِدِ الفانِ» وهي عبارة لا تعجب السامع. ثم قال «المُقِرِّ للزَّمانِ» يعني قد أقررت بغلبة الزمان عليّ فلم أتغلب على الزمان بل هو الذي سيطر عليّ. ما معنى سيطرة الزمان؟ يعني إنه يفرض عليك أحداثا لا تهواها. ثم قال «المُسْتَسلِمِ لِلدَّهرِ» فعرف نفسه في سبع عبارات كلها من هذا القبيل تتحدث عن الضعف والموت والفناء. ثم انتقل الإمام إلى ذكر خصائص مستلم الكتاب الذي هو شابّ مقتبل العمر. فقال «إلى المَولودِ المؤَمِّلِ ما لا يُدْرَك» يعني أكتب رسالتي إلى هذا الشابّ الذي لا يدرك مناه ولا يصل ألى آماله في هذه الدنيا. «السالكِ سبيلَ منْ قَد هَلَك»، «غَرَضِ الْأَسْقَامِ» يعني قد استهدفته الأمراض! «رَهِینَةِ الْأَیّامِ» أي مقيّد بالأيام وأحداثها. ـ فلو كنّا إلى جانب أمير المؤمنين(ع) ونرى ما يكتب لابنه الإمام الحسن(ع) لطلبنا منه أن يخفف من لحنه السلبي في الرسالة ولرجونا منه أن يستخدم عبارات إيجابية! ـ «السَّا?ِنِ مَسَا?ِنَ الْمَوْتَی»، هذا هو الأسلوب الإيجابي لأمير المؤمنين(ع)! يعني الساكن في بيوت الأموات. يعني كان يسكن مكان? في هذا البيت وفي هذا الحيّ إنسان آخر قد مات، فسكنت أنت مكانه!
                إن كتاب الواحد والثلاثين في نهج البلاغة هو أول كتاب أخلاقي وتربوي وتعليمي كتب في صدر الإسلام وعلى يد الرجل الأول في العالم بعد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله. إنه وثيقة عِلْوية وليست رواية كباقي الروايات. إنه كتاب تعليمي وليس كتاب مطالعة. يشتمل على دورة في المعارف الدينية. ثم في هذه الرسالة يذكر أربع عشرة خصلة لابنه الشابّ وأغلبها سلبية على حدّ قولنا. لقد صارح أمير المؤمنين(ع) ابنه بحقائق العالم وقواعده. فلا يتوهم أحد أن الإمام لم يكن يحبّ ابنه ولولا ذلك لعطف عليه وتحدث معه بغير هذه العبارات!
                انظروا كيف يعبّر أمير المؤمنين(ع) عن حبّه الشديد لولده حيث قال: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي وَ جُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ وَ إِقْبَالِ الْآخِرَةِ إِلَيَّ مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ‏ وَ الِاهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي غَيْرَ أَنَّهُ حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي فَصَدَفَنِي رَأْيِي وَ صَرَفَنِي هَوَايَ وَ صَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدٍّ لَا يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ وَ صِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ كَذِبٌ‏ وَ وَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ‏ وَجَدْتُكَ‏ كُلِّي‏ حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَ كَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي‏»[نهج البلاغة/ك31]
                فتيقن أخي العزيز بأنك لا تصل إلى أمانيك في هذه الدنيا بلا ريب، إذ قد صمّم الله آمالك بالنحو الذي لا تقدر على إنجاز جميعها في الدنيا. ولا سبيل للتخلص من قاعدة الدنيا فقد خلقنا في كبد ولابد أن نتحمل بعض العناء والآلام. وعندما تتقرب إلى بعض آمالك يبعدها الله عنك. فأضف هذه المعلومة في هذه الليلة. إذن هناك تعارض وتضادّ في داخلك بين الأهواء والرغبات يفرض عليك أن تجاهد نفسك، وفي نفس الوقت قد قدّر الله مقدراتك في هذه الدنيا على أن لا تخلو حياتك من العناء والمحن.

                تعلّمْ آداب تحمل العناء

                إذن طأطئ رأسك لهذا القانون وتحمّل العناء بلا اعتراض. وتعلم آداب جهاد النفس والعناء لتعاني معاناة جميلة وتصبر صبرا جميلا وترتقي وتتكامل. فلا وجود لحياة بلا عناء في هذه الدنيا ولا تبحث عنها، فمهما تخطط وتبرمج لإزالة المشاكل عن حياتك يخطط الله لإيقاعك في بعض المشاكل لتعاني في هذه الدنيا. رضوان الله تعالى على شهدائنا فقد رأيت أحدهم في الجبهة وقدأصيب بشضية وقطعت رجله فسقط على الأرض، فذهبت إليه وإذا رأيته يبتسم ويضحك وقال مبتسما ذهبت رجلي! أسأل الله أن نحصل على هذه الروحية في مواجهة المشاكل.

                أفلا ينبغي أن ندبّر حياتنا ونحاول لإزالة المشاكل والموانع في الحياة؟

                هناك سؤال قد يتبادر في ذهنكم أيها الإخوة الأعزاء وأسأل الله أن أجيب عن جميع أسئلتكم في الليالي القادمة بإذنه وبحوله، إذ نحتاج إلى معونته كثيرا لتكملة البحث. ولكن أريد أن أجيب عن أحد أسئلتكم التي قد تبادرت إلى أذهانكم وسألها بعض الإخوة في الليالي الماضية. وهو أنه على أساس الأبحاث التي طرحناها إذن لا ينبغي أن نسعى لإزالة المشاكل بل ينبغي أن نتسقبل الأزمات والمشاكل والمصائب؟! فهل واقعا لابد أن نعيش هكذا وهل هذا أمر معقول؟! لا عزيزي، من قال لك أن تعيش هكذا؟ سوف نقول في المستقبل أن لابد لنا من تلبية بعض غرائزنا وأميالنا ولابدّ أن نتمتع ببعض اللذائذ ولابدّ أن نصل إلى بعض آمالنا.
                أمّا أنت الذي تقول: «إذن لنترك الدنيا وما فيها ولا نسعى لحل مشاكل الحياة ومصائبها» فهل تريد أن تسهّل الأمر على نفسك؟! هل تريد أن تجلس أو ترقد في مكان ولا تسعى ولا تعمل ولا تكدّ ولا تبرمج وترفع جميع المسؤوليات عن نفسك؟! يجب عليك أن تسعى لحلّ مشاكل حياتك فلا تتخلّ عن مسؤوليتك. لعلّك تقول: «هل یجب أن نحارب المصاعب والمشا?ل ونتّجه نحو الآمال ونبرمج ونخطط، و في نفس الوقت تفشل بعض برامجنا ونقع في مشاكل، وفي نفس الوقت نبتسم ونرضا بقدر الله؟! فقد نجنّ أو نتّهم بالجنون إن كنّا هكذا!». نعم هذا هو الطريق ولعلك تتّهم بالجنون إن سلكته فلا بأس، فقد قال أمير المؤمنين(ع) في وصف المتقين: «يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ قَدْ خُولِطُوا وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ‏ أَمْرٌ عَظِيم‏»[نهج البلاغة/خ193]
                يقول أحد الروات زرت الإمام الصادق(ع) لأعود أحد أولاده، فرأيت الإمام(ع) مهتمّا حزينا غير مستقرّ بسبب مرض ولده. بعد فترة جاء من جنب ولده ولم يكن أثر ذلك الهمّ والحزن على وجهه، فاستغربت وسألته عن السبب، فقال الإمام(ع): «إِنَّا أَهْلَ‏ الْبَيْتِ‏ إِنَّمَا نَجْزَعُ‏ قَبْلَ الْمُصِيبَةِ فَإِذَا وَقَعَ أَمْرُ اللَّهِ رَضِينَا بِقَضَائِهِ وَ سَلَّمْنَا لِأَمْرِهِ»[الكافي/ج3/ص225].
                إذن ليس معنى هذا الكلام أن لا يسعى الإنسان لمعالجة مشاكله ولنيل آماله. برمج لحياتك وخطط لحلّ المشاكل ولكنّ الله سوف يبطل بعض مخططاتك. إذ إنْ لم تبرمج لحياتك ولم تعزم على حلّ مشاكلك فكيف يعرقل الله بعض أعمالك وشؤونك. إذن برمج وخطط واسعَ لحلّ مشاكل حياتك لكي تتوفر الفرصة لربّك أن يلعب بأعصابك ويفشل بعض مخططاتك.
                هل ينبغي أن نغضّ الطرف عن اللذات تماما؟ كلا، أبدا! لا يحقّ لك أن تترك اللذات برمّتها (وَ لا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيا)[القصص/77]. لعلك تقول: إن ذهبت لأتمتع بمتاع الدنيا ولذّاتها، أولا سوف يفشل الله محاولتي بين حين وآخر، كما سوف لا أحصل عليها بين حين وأخر، فما الفائدة من هذه المحاولة؟ الفائدة هي أنك سوف تحصل على بعض اللذائذ الحلال في الدنيا، ثانيا محاولاتك هي التي تهيئ الفرصة لإفشالها من قبل الله.
                لقد أجبتكم أيها الإخوة بمنتهى الصراحة. إنه موضوع بسيط و واضح جدا. لعلك تقول لي: أما قلت يا شيخنا بأن لابدّ أن نستقبل بعض الابتلاءات والمحن؟! نعم، إنه كذلك. ينبغي لك أن تختار بعض المحن وتجرّها إلى نفسك وحياتك، وهنا مصائب وآلام أخرى ينبغي أن تفرّ منها، ولكنك ستصاب أكيدا ببعض المحن التي فررت منها. فإن أصبت بشيء منها، لا تنفعل ولتظهر على ملامحك ابتسامة الرضا بقدر الله. وما أصعبها من ابتسامة بعد ما خطط الإنسان وبرمج وأعدّ حساباته.

                يتبع إن شاء الله...

                تعليق


                • #28
                  الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 5-4

                  واحدة من أهمّ علامات اتباع هوى النفس والأنانيّة


                  لم أستطع أن أكمل البحث هذه الليلة فقد بقي ناقصا، ولكن أضيف إليه كلمة واحدة وهي كلمة متميّزة وخاصّة. أيها الإخوة! هل تعرفون إحدى علامات اتباع الهوى والأنانية؟! هي أن تصعُب حياة الإنسان، فيصعّبها أكثر بلجاجته. لماذا جعل الله جزاء من قتل نفسه نار جهنّم خالدا فيها؟ لأنه لم يتحمّل معاناته في الحياة، ولإنه لم يستطع على إصلاح مشاكله، فأخذ يقضي على حياته.
                  لا تنس أخي العزيز! كلما رسمت في حياتك رسما، وحدث خطأ في رسمك، فلا تمزّق الورقة واللوحة كلّها. لماذا لا تسمح لله أن يزعجك في جانب من جوانب حياتك؟ فابتسم لما يفعل الله في حياتك وارض بقدره. ليكن بعلمكم إخوتي الأعزاء بأنّي أعطيكم الآن أحد أروع الوصايا العرفانية! فلا تنظروا إلى حالي الخَرِب.
                  أحد علامات الأنانيّة واتباع الهوى هو اللجاجة مع الله؟ عندما تغضب من مشكلة حصلت في حياتك وتخرج من طورك وتخرّب الأول والتالي، فهذا يعني أنك ما عرفت قواعد اللعب في الدنيا.
                  اسمحوا لي أن أنقل لكم هذه الرواية بمناسبة هذا الكلام. روي عَنْ الإمام أَبِي جَعْفَرٍ الباقر(ع) قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ(ص) يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى ظَهْرِ الْمَدِينَةِ عَلَى جَمَلٍ عَارِي الْجِسْمِ فَمَرَّ بِالنِّسَاءِ فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ ثُمَّ قَالَ يَا مَعَاشِرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَ أَطِعْنَ أَزْوَاجَكُنَّ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ فِي النَّارِ فَلَمَّا سَمِعْنَ ذَلِكَ بَكَيْنَ ثُمَّ قَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ(ص) فِي النَّارِ مَعَ الْكُفَّارِ وَ اللَّهِ مَا نَحْنُ بِكُفَّارٍ فَنَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ(ص) «إِنَّكُنَّ كَافِرَاتٌ‏ بِحَقِّ أَزْوَاجِكُنَّ»[الكافي/ج5/ص514] ولعلّه يعني أنهنّ إذا رأين عيبا في أزواجهنّ أو انزعجوا منه بسبب ما، ينكرن فضله كلّه ويبالغن في الاعتراض والاحتجاج ويكفرن بحقّه.
                  اللهم ارزقنا الشعور بالسعادة في حياتنا. ولكن لا تنسوا (لَقَد خَلَقنا الإنسانَ في كَبَدِ). اللهم اجعلنا فرحين مسرورين. ولكن (يا أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى رَبِّكَ كدْحاً فَمُلاقيهِ). اللهمّ اجعلنا باسمين بشوشين مع العلم بما جاء في كتاب أمير المؤمنين: «إلى المَولودِ المؤَمِّلِ ما لا يُدْرَك» ومع علمنا بكلمة أمير المؤمنين(ع): «عَرَفْتُ اللهَ سبحانه بِفَسْخِ العَزائِم». الهي اجعلنا مسرورين مبتهجين متفائلين أثناء ما تفسخ عزائمنا وتمنعنا من نيل آمالنا وتخرّب مخططاتنا.
                  إلى أين سوف يصل بحثنا؟ إن له مصيرا جميلا جدا. إذ أنا بدأت معكم من أول العرفان لا من آخره. إن آخر العرفان هو عشق العارفين لله واستغفارهم في الأسحار وبكاؤهم شوقا إلى الله. فما أردت أن نستمع إلى قصص العارفين وحالاتهم ونستأنس بها بلا أن نفهم منها شيئا. فلنعرف طريقهم الذي سلكوه إلى أن وصلوا إلى تلك المقامات. فإن العارفين قد سلكوا هذا الطريق المليئ بالابتلاءات والمحن، وقد هيأ الله لنا نفس هذا الطريق.
                  أول ما يفرضه الله عليك هو أن تتخلّى عن رغباتك وأهوائك. ثم يصل إلى نفسك، ولابد حينئذ أن تذبح نفسك. إن تكليفك في أول المطاف هو أن تذبح اسماعيل نفسك. ولكن لا يبقى الأمر بهذا المنوال، إذ سوف تصل النوبة إليك فيجب حينئذ أن تضحي بنفسك وتقدم نفسك قربانا إلى الله.


                  تعليق


                  • #29
                    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 6-1

                    إليك ملخص الجلسة السادسة من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.

                    نحن بحاجة إلى تعقل الدنيا قبل تعقل الدين

                    لقد قررنا في الأبحاث السابقة على أن نكسب رؤية دقيقة عن الحياة وقواعدها قبل أن نكسبها عن العبادة والعبودية. فنحن بحاجة إلى كسب رؤية دقيقة وواضحة عن الدنيا قبل الدين. فإن حصلنا عليها سوف ننظر إلى الدين كمنقذ لا كمزعج ومزاحم. وعند ذلك سوف لا نمنّ على الله بالتزامنا ولا نغترّ عندئذ بورعنا وتقوانا، كما سوف لا نفرّ من الدين وسوف نشعر بحماقة مخالفته.
                    لماذا عندما يتحدث الله سبحانه وتعالى عن الكفار في القرآن، يعتبرهم «سفهاء» «لا يعقلون»؟ نحن نعرف جيدا أن ليس لهؤلاء الكفار طهارة القلب، ونعرف أن لا إيمان لهم، ولكن بماذا أصبحوا لا يعقلون؟ وما هي الحقيقة التي لا يعقلونها؟ بالتأكيد إنّ إحدى الحقائق التي لا يعقلونها ولا يلتفتون إليها هي هذا الواقع والقواعد المحيطة بهم في هذه الدنيا.
                    كلما ألفيتم روحكم تفرّ من الأحكام الإلهية وتستصعبها، ارجعوا إلى الواقع وادرسوه بغض النظر عن الدّين. إذ إنّ إدراك الواقع وكشف القوانين السائدة في عالم الوجود، ومعرفة السنن الإلهيّة الحاكمة على حياتنا، يمهّدنا لقبول الدين والالتزام به. واسمحوا لي أن أضيف هنا نقطة واحدة. من السيء جدا أن يكون الإنسان متدينا بلا أن يدرك الواقع، فمثل هذا الإنسان يصبح متدينا سيّئاً. ولا أقول أنّ معرفة الواقع أمر ضروري على من استصعب أحكام الدين وحسب، كلا، بل على جميع الناس أن ينظروا إلى الواقع ويكتشفوا قواعده السائدة في الحياة. كما أنّ أولياء الله هم أكثر اهتماما بهذا الأمر من عوام الناس.
                    وأساسا إنْ تديّن امرء بلا أن يكون على معرفة بحقائق العالم وواقعه، قد يصبح عنصرا خطرا، وقد يصبح تديّنه الأعمى هذا ضررا على نفسه وعلى المجتمع، وسوف لا يقدر أحد على إصلاح ما أفسده. لقد رأيت في عمري هذا على الأقل جيلين من الأشخاص الذين كانوا أخيارا في زمن من الأزمان ثم ساءت عاقبتهم. كان بعضهم ممن عاشرتهم عن قرب وحتى كان بعضهم في جبهة الدفاع المقدّس. وهذا يحكي عن أنّ من أصبح خيّرا ومتديّنا بدون أن يعرف الواقع الذي يفرض عليه ذلك، ينحرف على الأكثر.
                    فلا تستغربوا من انحراف بعض هؤلاء الذين قضوا عمرهم في الصلاح وصلاة الليل والعبادة. ولا تتعجبوا من كون هذا الإنسان كان يريد أن يسبق الآخرين في التضحية بنفسه في سبيل الإسلام والولاية والثورة، أما الآن فقد أصبح من ألدّ أعداء الثورة. من هم أولئك الذين يتورطون بمثل هذه العواقب؟ هم أولئك الذين صلحوا وتدينوا جزافا. ولكن لا يسمح الله باستمرار هذا النمط من الصلاح. فما إن يرى الله مجتمعا قد صلح جزافا واعتباطا، يمتحنهم بامتحان عسير ويسقط من لم يرتكز إيمانه على دعائم محكمة. وقد شاهدنا هذه الظاهرة في تاريخ الإسلام كما رأيناها في مختلف مراحل تاريخ ثورتنا الإسلامية.

                    إن عالمنا مشحون بالمعاناة وقد عزم على إزعاجنا

                    من أين ننطلق في حركتنا؟ إن نقطة الانطلاق هي أن تشاهد ضرورة مخالفة هواك في هويتك الإنسانية وكذلك تشاهدها في السنن الحاكمة في حياتك. هذا هو المنطلق.
                    لا ينبغي لمثلكم أن يخدع بالكلام الباطل، خاصة وقد بلغتكم تجربة تاريخ الإسلام في ألف وأربعمئة سنة، وقد بلغتكم تجربة العالم البشري من بداية التاريخ ولحد الآن، كما في متناولكم تجربة الغرب، وبإمكانكم أن تتصفحوا أحداث العالم وتقفوا على تجاربه عبر الإنترنت. إن موقعنا ليس في أول التاريخ بل قد اقتربنا إلى نهاية التاريخ، فها هي تجربة البشر أمامنا تحدثنا عما وصل إليه العالم، وهي تجارب مليئة بالمعلومات، فلا يمكن لأحد أن يخدعكم بسهولة.
                    هذه هي نقطة الانطلاق، وهي أن تعرف عالمك الذي تعيش فيه. وأهمّ خصائص هذا العالم هو أنه مشحون بالمعاناة وقد عزم على إزعاجك. فلا تسمح لأحد أن يلهيك بمعلومات هامشية لا تسمن ولا تغني من جوع، من قبيل مقدار المياه وعمق البحار وارتفاع الجبال وعدد النفوس. فلا تشغل وقتك في تعلّم المعلومات التي لا فائدة لها، فإن أحد أوصاف المتقين في قول أمير المؤمنين(ع) هي أنهم: «وَقَفوا اَسماعَهُم عَلَی العِلمِ النَّافِعِ لَهُم»[نهج البلاغة/الخطبة193]. وأنا باعتقادي أن الإنسان ليس بحاجة إلى كثرة المعلومات، بل يحتاج إلى معلومات صائبة، بالإضافة إلى ترتيب المعلومات وتبويبها بشكل دقيق وأن يميّز بين الأصلية والفرعيّة منها.
                    لقد جاء الدين ليعلمك طريقة العناء، وجاء ليخفف مرارة الفقدان عليك. جاء الدين ليعلمك الكفّ عن الرغائب وجاء ليعلمك أسلوب تحمل الآلام. فهل أنت ممن يريد أن لا يتحمل شيئا من هذه الصعاب في هذه الدنيا لكونك متدينا؟! هذه هي نقطة عزيمتنا، فإن انطلقنا من هذه النقطة، سوف نصل إلى النتيجة بسرعة، وكذلك سوف نعمل بديننا بشكل أسهل، كما سوف يصان ديننا بشكل أضبط، وإن شاء الله لن نتراجع عن ديننا إن سلكناه بهذا الأسلوب، إذ نكون على معرفة بكل ما سوف نواجهه في هذا الدرب فلا نفاجأ بشيء.

                    يتبع إن شاء الله...

                    تعليق


                    • #30
                      الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 6-2

                      إن الدين برنامج للتضحية بالنفس والنفيس

                      يروي الإمام الصادق(ع): «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (ص) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُكَ أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (ص) أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ‏ أَبَاك‏. فَقَبَضَ الرَّجُلُ يَدَهُ فَانْصَرَفَ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ عَلَى أَنْ أُبَايِعَكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ‏ أَبَاكَ‏ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّا وَ اللَّهِ لَا نَأْمُرُكُمْ بِقَتْلِ آبَائِكُمْ وَ لَكِنْ الْآنَ عَلِمْتُ مِنْكَ حَقِيقَةَ الْإِيمَان...»[المحاسن/ج1/ص248]. ذات مرة قرأت هذه الرواية في إحدى المحاضرات، فأوشك أحد الشخصيات أن يصدر حكم إعدامي بسبب قراءتها، إذ كان يرى أن هذه الرواية تنفّر الناس من الدين. ولعله كان يتصوّر أنّ باقي محاضراتي جيّدة وإنما كانت هذه الرواية فلتة في محاضراتي، فلو كان يعرف أن كل محاضراتي من هذا القبيل، لما تعلّل في إصدار حكم الإعدام [قالها ممازحا]، لأنني عمّمت هذه الرواية على كل الناس، وأقول إن كل من أراد أن يسلك هذا الدرب لابدّ أن يتحمل العناء والكبد والشدائد والمحن. طبعا بعد ذلك أقول: فإن فررت من هذا الطريق خوفا من شدائده ومحنه، سوف تلاقي أمرّ من ذلك في الطرق الأخرى. هذا هو أسلوبنا في المحاضرات، إذ أردنا أن نكون صادقين مع الناس، وقد تعلمنا هذا الأسلوب من أمير المؤمنين(ع) حيث كان صادقا مع ابنه.
                      لماذا أراد النبي(ص) أن يبايع الرجل على أن يقتل أباه مع أنه لن يأمره به أبدا؟! لأنّ الدين هو برنامج للتضحية بالنفس والنفيس. فإن التضحية بالنفس، ليست فضيلة إلى جانب باقي الفضائل، بل هي المحور والمخ. نحن إن شاء الله سوف نتطرق في الجلسات القادمة إلى نطاق أهواء النفس وأنواع تجلياتها بإذنه وحوله وقوته.

                      الدين برنامج لمخالفة الأهواء والدنيا أيضا مبرمجة على أساس مخالفة الأهواء


                      إن نقطة انطلاقك هي أن تعرف السبب الذي خلقت من أجله. فقد خلقت للعناء والمحن وتحمل الأذى والألم. فالبهائم لا تتألم وكذلك الملائكة لا تتألم، أما أنت فقد حظيت برغائب متضاربة وهذا ما شرحناه في الليالي السابقة وقلنا إنك مجبور على ترك بعض الرغائب من أجل بعض أخر.
                      ثم يأتي الدين ويقول لك أن دع رغباتك واسع لنيل رغباتك الخفيّة والعميقة. ولا شك في أن هذا العبور صعب، إذن الدين صعب. لقد قال أمير المؤمنين(ع): «وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي كُرْهٍ وَ مَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي شَهْوَة»[نهج البلاغة/ خ176]. فهل قد أرحتُ بالك أم لا؟ هذه معلومة لابد أن نجعلها نصب أعيننا وهي أن الدين برنامج لمخالفة الأهواء.
                      طبعا لا يخلو الدين من لذائذ وليست مرارته بقدر مرارة كلامي، ولكن الكلام المعسول الذي يصوّر أجواء درب الحق كلها أجواء جمال وراحة واستقرار وأزهار وبلابل وعصافير فهذا كلام فارغ لا صحّة له. بل ليس الدين برنامجا لمخالفة الأهواء فحسب، بل باعتبار أن أنسانيتك مرهونة بمخالفة الأهواء، فقد انطوت الدنيا أيضا على هذا البرنامج. فهي تفرض عليك المعاناة ومخالفة الأهواء بأشكال ثابتة ومتغيرة.
                      من أشكالها الثابتة هو الشيخوخة. ومن أشكالها الثابتة الأخرى هو فقد الحبيب، كما قال أمير المؤمنين(ع): «الْهِجْرَانُ‏ عُقُوبَةُ الْعِشْق»[بحار الأنوار/ ج75/ ص11]. لا أدري هل أقول هذه الحقائق بصراحة، أو أراعي مشاعركم وقلوبكم، ولكنها حقائق نعيشها في حياتنا الدنيوية، فلابد أن نطلع عليها، بل لابدّ أن ننطلق منها في حركتنا الدينية. وهي أن كل ما تعشقه في هذه الدنيا، فلابد لك من مفارقته يوما، وإن الله يفرق بينك وبين أحبائك في هذه الدنيا.
                      كان لي صديق قبل سنين، ثم انقطعت عنه ولم أعرف أخباره. بعد فترة قال لي أحد الإخوة: «هل سمعت أن فلان قد توفيت زوجته؟» فسألته هل كان يعشقها كثيرا؟ قال: من أين عرفت ذلك؟ قلت: إن هذا العشق هو أحد أسباب الفقد والفراق في هذه الدنيا؛ إذ «الْهِجْرَانُ‏ عُقُوبَةُ الْعِشْق»، هذه هي إحدى مرارات الحياة الدنيا وهي سنّة من سنن الله. فإذا أردت أن تكون حياتك الزوجية في غاية العشق والغرام، فقل من الذي تريد أن يموت أسرع؛ زوجتك أم أنت؟! لعلك تقول: شيخنا كلامك مرّ جدا. أقول: أخي كلامي جادّ ومستوحى من قواعد هذه الدنيا، فلا تخدعك أكاذيب الأفلام. بل هذا هو الواقع. طبعا لا أريد أن أقول أنه قانون شامل، لا استثناء له، ولكنه يمثل إحدى القواعد التي لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار في معرفة هذه الدنيا.
                      أعرف أسرة، كان أهلها حساسين جدا في اختيار الزوج لبنتهم، إذ كانوا يريدون نسيبا بمستوى تدينهم وبمستوى مكنتهم الاقتصادية العالية، وبمستوى إناقتهم العالية، وأن يكون جميلا بمستوى جمالهم، وأن يكون مثقفا جدا يليق بثقافتهم العالية، وأن يكون ألفا وباء وجيما ودالا وكذا وكذا. ولهذا كانوا يرفضون الخطّابة واحدا بعد الآخر. بعد فترة، قالوا: الحمد لله، لقد جاءنا خطيب ينسجم معنا في كل شيء؛ في إناقته، في غناه وثروته، في جماله، في تدينه وبكلمة واحدة «كامل مواصفات». يشهد الله أني خفت عليهم. وسرعان ما أنجبوا طفلا وإذا به كان مشلولا.
                      هذا هو واقع حياتنا جميعا. ولا يمكن أن يكون هذا الكلام كذبا، بل هو عين الواقع. طبعا هناك نماذج واضحة جدّا من هذه الابتلاءات فنستشهد بها في أبحاثنا، وإلا فالكل محكومون بهذه السنن. وإذا تمعّن الإنسان الفطن في حياته يستطيع أن يكشف هذه القواعد.

                      يتبع إن شاء الله...

                      تعليق

                      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                      حفظ-تلقائي
                      Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
                      x
                      يعمل...
                      X