إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء للإستاذ بناهيان

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #21
    انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 18

    وفي الكثير من الأحيان، تبدأ هذه الحالة الروحية الخطيرة (الميل إلى مساومة الظالم)، من مجاملة بسيطة مع الظالمين أو طلب للراحة معقول بحسب الظاهر. إنّ الله سبحانه وتعالى وبكل سهولة يُعرض عن المؤمنين الذين يميلون إلى المفسدين ويستبدلهم بطائفة أخرى. وقد صرّح بذلك في الآية 54 من سورة المائدة، مبيّناً سبب الإعراض عن الطائفة الأولى من خلال الصفات التي وصف بها الطائفة المستبدلة؛ وهي ليست سوى التسليم لأعداء الله والخوف من لوم اللائمين:
    ï´؟يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ يُجاهِدُونَ في‏ سَبيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ.[1] فالمؤمنون الذين يعرض الله عنهم ويستبدلهم بجماعة شجاعة أخرى، هم الذين ينزعون إلى أعداء الله ويتشبّثون بشتى الوسائل والذرائع للتخلّي عن معاداة أعداء البشرية تحقيقاً لمآربهم.


    قتل الطفل الرضيع، عاقبة الميل إلى الظالم

    ولو أردنا متابعة هذا البحث بمزيد من الدقة، لوصلنا إلى نقاط تمثل أفجع لحظات تاريخ الإسلام. وإنّ الكثير من مراثي ومصائب أهل البيت (ع) تذكّر بهذه النقاط الأليمة. فقد كان عمر بن سعد يقول إلى قبل أيام من عاشوراء: أخشى أن يورّطني ابن زياد بقتل الحسين (ع).[2] ولما أفسد شمر ما أراده عمر بن سعد من ابن زياد عبر مراسلته إياه من إصلاح الأمور، قال له عمر: «مَا لَكَ وَيْلَكَ لَا قَرَّبَ اللَّهُ دَارَكَ وَقَبَّحَ اللَّهُ مَا قَدِمْتَ بِهِ عَلَيَّ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ نَهَيْتَهُ عَمَّا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْهِ وَأَفْسَدْتَ عَلَيْنَا أَمْراً قَدْ كُنَّا رَجَوْنَا أَنْ يَصْلُح.‏»[3] ولكنه لم يمض وقتاً طويلاً حتى رمى أول سهم نحو الحسين (ع) وأصحابه وقال: «اشْهَدُوا لِي عِنْدَ الْأَمِيرِ أَنِّي أَوَّلُ مَنْ رَمَى» ثم أقبلت السهام من القوم كالمطر.[4] وأخيراً آل به المطاف إلى أن يأمر مباشرة ومن دون طلب أسياده الأشقياء بقتل طفل أبي عبد الله الحسين (ع) الرضيع.

    المنتظر مظلوم وليس منظلماً

    «الانتظار» لا ينسجم مع المساومة. ولا ينتهي بالكُره ولا حتى العداء، بل قد يصل إلى إظهار العداء أيضاً. فإنّ المنتظر وإن كان مظلوماً ولكنه ليس بمنظلم.[5] وفي قاموس الانتظار إذا ما نُصبت خيمة المنتقم، لا يتأتى للمنتظر أن ينضوي تحت خيمة الظالمين ولو للحظة واحدة. المنتظر ليس منفعلاً ويقف دوماً بوجه أعداء العدالة. وعلى هذا لا يستطيع أن يكون منتظراً إلّا من كان مستعداً لدفع تكاليف الاعتراض.
    والبعض حتى لا يرى من البأس أن يكون حاكماً أو وسيطاً بين الله وبين أعدائه. ويفرّط في التعاقل بذريعة التفكير في المصالح واتباع أوامر العقل بحيث يختار طريق الاعتدال بين الحق والباطل؛ وعند ذلك يصل إلى الاستقرار الناتج عن فقدان الغيرة. ويلجأ تبريراً لنزوعه إلى الراحة والدعة إلى حجج واهية كـ«إمكان الهداية» و«الإنسانية». غافلاً عن أنّ الله سبحانه قد أشار فيما سبق إلى أنّ الظالمين لا يهتدون ولا يُجدي السعي لذلك.[6] وأقترح على أصدقائي الأعزاء بعد الآيات والروايت والأدعية كدعاء الندبة، مراجعة أقوال الإمام الخميني (ره) لتعلّم آداب معاداة العدوّ وعدم نسيان السعي والجهد لمقارعة الظالمين.[7]

    كيفية التعبير عن الاعتراض


    أما كيفية تعبير المنتظر عن اعتراضه فهي متفاوتة باختلاف الظروف. فتارة يكون المنتظر للتعبير عن هذا الاعتراض في مقام البيان والتبيين، وأخرى في مقام الأنين والصراخ. وتارة يعمد إلى ذكر الأدلة العقلية وأخرى يندب بقلبه بزفرات عشقية. وهنا تتجلى أروع مشاهد الحب والعشق للمنتظر المعترض وأجمل الزفرات والأنّات:
    «عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَي الْخَلْقَ وَلاَ تُرَي وَلاَ أَسْمَعُ لَكَ حَسِيساً وَلاَ نَجْوَي عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُحِيطَ بِكَ دُونِي الْبَلْوَي وَلاَ ينَالُكَ مِنِّي ضَجِيجٌ وَلاَ شَ?ْوَي‏...»[8] فكيف يمكن تفسير هذه الاعتراضات العشقية؟
    يجب أن يرقّ قلبك بحدّ تتلمّس غيبته بكل كيانك، وخلايا وجودك تصرخ حزناً وألماً على فراقه. وهذا الصراخ هو ذروة لطافة الروح رقة القلب التي لا تتولّد إلّا في قلوب المنتظرين المعترضين. ولعلّ الذين يشكون غيبته اليوم، هم الذين سيشكرون حضوره غداً.
    علماً بأنّ اعتراض المنتظر لا يقتصر على الصراخ؛ بل سيبذل قصارى جهده لاستئصال شأفة موانع ظهوره وأعداء حضوره. ويمكن مشاهدة هذا الاعتراض في النزعة السياسية والجهد البليغ للمنتظر الحقيقي. ومن هنا يتّصف المنتظر بالنشاط والحيوية. لأن من يكون له عدوّ وهو معتقد بوجوده، يكون حَرِكاً نشيطاً. وأما من لا يعادي أعداءه فمن المتوقّع أن يكون ذليلاً حقيراً منفعلاً.

    يتبع إن شاء الله...

    [1]. سورة المائدة، الآية 54.
    [2]. بعد أوّل حوار دار بين الإمام الحسين (ع) وعمر بن سعد عبر الرسول، كتب الأخير رسالة إلى ابن زياد، فأجابه ابن زياد فيها: «اعْرِضْ عَلَى الْحُسَيْنِ أَنْ يُبَايِعَ لِيَزِيدَ هُوَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ فَإِذَا فَعَلَ هُوَ ذَلِكَ رَأَيْنَا رَأْيَنَا وَالسَّلَامُ.» فَلَمَّا وَرَدَ الْجَوَابُ عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «قَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ الْعَافِيَة.» الإرشاد للمفيد، ج2، ص86.
    [3]. الإرشاد للمفيد، ج2، ص89.
    [4]. اللهوف على قتلى الطفوف‏، ص100. الإرشاد للمفيد، ج2، ص101.
    [5]. المنظلم هو المنفعل الذي يرضخ للظلم طلباً للوصول إلى بعض المنافع الدنيوية الحقيرة أو خوفاً من فقدانها. أما المظلوم فهو الذي يتعرض للظلم اضطراراً ومن دون امتلاك قدرة على الردع. وقد اعتبر العلامة الحلي الظلم والانظلام كليهما رذيلة وقال في الانظلام: «الانظلام وهو الاستجابة في المقتنيات بمن لا ينبغي وكما لا ينبغي.» (الألفين في إمامة أمير المؤمنين، ص162) وقال الإمام الصادق (ع) في هذا الشأن: «العامِلُ بِالظُّلمِ والمُعينُ لَهُ والرَّاضِي بهِ شُرَكاءُ ثَلاثَتُهُم.» ال?افي، ج2، ص333.
    [6]. على سبيل المثال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ.» سورة المائدة، الآية 51.
    [7]. نماذج من أقوال الإمام الخميني (ره):
    «نحن أعلنّا هذه الحقيقة كراراً في سياستنا الإسلامية الخارجية والدولية بأن بغيتنا كانت ولا تزال هي تنمية نفوذ الإسلام في العالم والحدّ من هيمنة ناهبي العالم. ولا ضير لو أطلق أذناب أمريكا على ذلك بالتوسعية والتفكير من أجل إقامة إمبراطورية عظمى بل ونرحّب بذلك. نحن بصدد اقتلاع الجذور الفاسدة للصهيونية والرأسمالية والشيوعية في العالم. نحن اعتزمنا بلطف الله وعنايته على الإطاحة بالأنظمة المبتنية على هذه القواعد الثلاث وترويج النظام الإسلامي لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في عالم الاستكبار. وستشهد الشعوب المضطهدة ذلك عاجلاً أم آجلاً. نحن بكلّ كياننا سنقف بوجه الابتزاز وحصانة الرعايا الأمريكان، حتى لو كلّفنا ذلك حرباً ضروساً.» (صحيفة الإمام، ج‏21، ص81).
    «بالنسبة لي لا يهمني المكان. بل المهم هو مقارعة الظلم. وأينما تتحقق هذه المقارعة بشكل أمثل، سأكون هناك.» (صحيفة الإمام، ج‏5، ص301).
    «قوموا بتحصيل العلوم واكتساب المعارف والاستفادة من المواهب الإلهية بجد؛ ولا تضعوا سلاح مقارعة الظلم والاستكبار والاستضعاف قطّ؛ واجعلوا شعاركم تولّي أولياء الله والبراءة من أعدائه.» (صحية الإمام، ج20، ص38).
    «إنني أعلن بحزم لكل العالم أنّه لو أراد ناهبو العالم أن يقفوا بوجه ديننا، فإنّنا سنقف بوجه كلّ دنياهم ولن ننثني حتى القضاء عليهم، فإما أن نتحرّر بأجمعنا أو أن نصل إلى حرية أكبر وهي الشهادة ... احفظوا الحقد والضغينة الثورية في صدوركم؛ وانظروا أعداءكم بغيظ وغضب؛ واعلموا أنكم أنتم المنتصرون.» (صحيفة الإمام، ج20، ص325).
    [8]. مفاتيح الجنان، دعاء الندبة. وأيضاً إقبال الأعمال للسيد بن طاووس، ص297.

    تعليق


    • #22
      انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 19

      آفات الاعتراض


      وبالطبع فقد يقترن الاعتراض على الوضع الموجود مع كل إيجابياته، ببعض الآفات كأيّ أمر آخر. وبالإمكان أن تكون هذه الآفات خطيرة للغاية سيما في المجتمعات الممهّدة للظهور.

      1. الغلو والمبالغة في الاعتراض


      واحدة من آفات الاعتراض، الغلوّ والمبالغة في الاعتراض. وهذا يعني التفريط في تقدير سوء الأوضاع، وعدم رؤية الوجوه الإيجابية، حتى الوصول إلى اليأس والقنوط الذي بإمكانه أن يُعدّ آفة مستقلة للاعتراض. إنّ المبالغة في الاعتراض بالإضافة إلى أنها تزرع في الإنسان الروح السلبية والحِدّة في الأخلاق وتُشوّه الصورة الجميلة لـ«الاعتراض في مسار الانتظار»، بإمكانها أن تتسبّب التسرّع في العمل وهدم الوجوه المطلوبة الموجودة. فلابد من اتّقاء هذه الآفات.

      الشباب أكثر من غيرهم عرضة لهذه الآفة

      والشباب أكثر من غيرهم عرضة لهذه الآفة. ففي الأغلب عندما يدور الحديث عن الاعتراض على الوضع الموجود، سرعان ما تتورّط الروح المثاليّة والمتسارعة للشباب بآفة «الغلو». يقول الإمام الصادق (ع): «احْذَرُوا عَلَي شَبَابِ?ُمُ الْغُلَاةَ لَا يفْسِدُوهُمْ.»[1] لماذا يجب الحذر من إيجاد العلاقة بين الشباب والغلاة؟ لأن الشابّ بصورة طبيعية يميل إلى الغلو، والحضور في جمع الغلاة ينمّي هذا الميل بسرعة ويسوقه إلى الفساد. وفي بعض الأحيان إذا أراد الشابّ أن يبالغ في مشاهدة النقاط السلبية للوضع الموجود ويسعى مفرّطاً للاعتراض عليه، قد يقوم بإجراءات تعسفية أو يُصاب بالإحباط.

      2. اليأس من الوصول إلى الوضع المنشود


      الآفة الأخرى للاعتراض على الوضع الموجود، هي اليأس من الوصول إلى الوضع المنشود الناتج عن عدم مشاهدة الأرضيات والاستعدادات المتوفرة في الوضع الموجود. وقد تحلّ المصائب والنوائب بالإنسان بحدٍّ تغلق بوجهه جميع المنافذ وتسوقه إلى وادي اليأس والقنوط. ولكن لنعلم أنّ الله سبحانه قد وفّر في أسوء الحالات أيضاً فرصاً للخروج من المآزق والأزمات، فلابد من البحث عنها واغتنامها.


      3. السلبية المطلقة والعبثية


      والآفة الأخرى للاعتراض على الوضع الموجود، هي السلبية المطلقة التي تؤول إلى العبثية. فلا ينبغي أن نعتبر الوضع الموجود سيئاً على الإطلاق مهما كانت الظروف. ولا ينبغي أن نعتبر جميع الناس أشقياء بالكامل؛ أو نزعم أن جميع الأشقياء غير قابلين للهداية. فإن أسهل وفي نفس الوقت أبعد رؤية عن العقل، هو الإطلاق في النظرة السلبية للمجتمع والوضع الموجود، حيث لا تحتاج إلى أية دقة وعقلانية، وهي علامة على غلبة بعض الأحاسيس السطحية. فإن المتثاقل في ميدان التحليل ومن خلال تلخيص كلّ شيء في النظرة المطلقة، يرى كل شيء فاسداً.

      أهمية منشأ وأساس الاعتراض


      إن آفات وأضرار الاعتراض في كثير من الأوقات ناجمة عن منشأ باطل. فلو لم يستند الاعتراض على أساس صحيح، لا يصل الانتظار أيضاً إلى نهاية جيدة وقد يزول في وسط الطريق؛ أو أنه يستمر خطأً بعد الوصول إلى الوضع المنشود أيضاً، وهذه أسوء من الصورتين السابقتين. كما أنّ بعض المنتظرين المعترضين على الوضع الموجود، يستمرون على اعتراضاتهم الوهمية حتى بعد ظهور الإمام أيضاً ويتسببون له الأذى.
      إن أساس الاعتراض عند البعض، هو الروح السلبية فيهم لا التعقّل والنزوع إلى الحق. وأمثال هؤلاء، وإن يلتحقون بجمع المعترضين والمنتظرين الحقيقيين بسهولة، ولكنّهم يخرجون من صفوفهم بأدنى ما يواجهونه من امتحان وتعقيد، وأكثر ما يظهر منهم إلى العيان هو الأخلاق السيئة لا العقيدة الراسخة.

      عدم رؤية الوجوه الإيجابية في الثورة، نموذج من آفات الاعتراض


      ومن المصاديق المهمة لآفات الاعتراض، هي أنّ البعض في هذا النظام المقدس والثورة المباركة، عبر نكران هذه النعمة العظيمة المتاحة، وبذريعة الاعتراض على الوضع الموجود وانتظار الفرج، يتغافلون عن الوجوه الإيجابية السارية في مجتمعنا الإسلامي ولا يكترثون بمسألة التمهيد للفرج. فهم لا يفرّقون بين الاعتراض على النقائص والعيوب وبين الاعتراض على الانحرافات والمُضلّات، وعلى أثر شدّة سوء الفهم يقعون في أحضان الظالمين وناهبي العالم.


      إزالة الآفات: المنتظر المعترض يغتنم كل فرصة


      المسألة المهمة في إزالة الآفات عن الاعتراض هي أن يستطيع المعترض مشاهدة الطريق الموصل إلى الوضع المنشود واغتنام كل فرصة تؤدي إلى المحبوب؛ لا أن يُعرض عن هذه الفرصة العظمية التي أُتيحت عبر دماء الشهداء المنتظرين ويصرخ بصرخة الاعتراض المطلق في مجرى الانتظار. فإنّ المنتظر المعترض يعتبر خدمة نظام الجمهورية الإسلامية المقدس رغم كلّ بُعده عن الحكومة المهدوية، واجبة كالخدمة تحت راية الإمام، ويرى الثورة الإسلامية طريقاً للوصول إلى ساحل النجاة.

      الثورة الإسلامية في إيران، طريق إلى الفرج

      كما صرّحت بذلك الرواية الواردة عن رسول الله (ص): «يخرُجُ ناسٌ مِن المَشرِقِ فَيوطِّئُونَ للمَهدِيِّ سُلْطانَهُ.»[2] وقد أشار الإمام الخميني (ره) والإمام الخامنئي في أقوالهم مراراً إلى هذا المعنى. فعلى سبيل المثال، يقول الإمام الخميني (ره) في النصف من شعبان الأخير من عمره الشريف: «ليعلم مسؤولونا بأن ثورتنا غير محدودة بإيران. ثورة الشعب الإيراني مبدأ لانطلاق ثورة كبرى في العالم الإسلامي تحت لواء الإمام الحجة – أوراحنا فداه – ونسأل الله أن يمنّ على المسلمين وكلّ أهل العالم وأن يجعل ظهوره وفرجه في العصر الحاضر.»[3] فكيف سيعشق المعترض والمنتظر الحقيقي مثل هذه الثورة ويحتضنها؟

      يتبع إن شاء الله ...

      [1]. الأمالي للشيخ الطوسي، ص650.
      [2]. ميزان الح?مة، باب «الثَّورَةُ الإسلامِيَّةُ فِي الشَّرقِ»، ح2366، نقلاً عن ?نز العمال، ح38567. وأيضاً ?شف الغمة ج2، ص477 مع اختلاف قليل في النص: «يخْرُجُ أُنَاسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ فَيوطِئُونَ لِلْمَهْدِيِّ يعْنِي سُلْطَانَهُ»، ويقول المحدث الإربلي (693 هـ) صاحب ?شف الغمة في نهاية هذا الحديث: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَتْهُ الثِّقَاتُ وَالْأَثْبَاتُ أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاجَةَ الْقَزْوِينِيُّ فِي سُنَنِهِ».
      [3]. صحيفة الإمام، ج21، ص327.

      تعليق


      • #23
        انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 20

        الاعتراض المطلق والذي لم يُقيّد بأيّ قيد هو مثل أن يكون النبي يعقوب (ع) غير مكترث بقميص يوسف (ع)، وبذريعة أنه كان منتظراً للقاء يوسف نفسه، لم يعتدّ بما له من آثار وبركات؛ أو عندما يأتونه بالقميص، وبدلاً من أن ينهل جرعة من منهل الوصال ويمسح القميص الذي يفوح منه عطر الحبيب على عينيه (الذي أدى إلى أن يرتدّ بصيراً)، يعترض قائلاً: «زمن طويل وأنا أنتظر يوسف، والآن تأتونني بقميص؟!» ويرمي بالقميص إلى جانب. إنّ أيّ نسيم يهبّ من جانب الحبيب، يهب الحياة للمنتظر المهجور، وعند ذلك يكون اعتراضه النابع عشق على هجر الحبيب حقيقياً.

        2. معرفة الوضع المنشود

        العنصر الثاني للانتظار، هو معرفة الوضع المنشود. يعني العلم بالوضع الذي يمكننا أن نعيشه واليوم لا نتمتع به؛ العلم بالخيرات اللامتناهية التي يمكننا ولابد لنا من تلقيّها ولكننا مُبعدين عنها ولا نهتمّ بها لعدم علمنا بها.



        أهمية معرفة الوضع المنشود

        العنصر الثاني للانتظار، هو معرفة الوضع المنشود؛ الوضع المنشود والمثاليّ الذي أدّى عدم علمنا به إلى أن لا نمتلك دركاً وتحليلاً صحيحاً عن الوضع الموجود. لأنّ جزءاً من إدركنا عن أوضاع وأحوال عصرنا ومعرفة سلبيات الوضع الموجود، منوط باطلاعنا على الوضع المنشود. ولكن كيف يمكننا تقييم وضعنا الموجود من دون ملاحظة أنموذج لفهم ذلك الوضع المنشود؟ هل نعلّق آمالنا على النماذج الشرقية والغربية المندرسة التي نتعلّمها في المدارس والجامعات، ونقيّم أنفسنا بالمعايير الناقصة واللاإنسانية في بلاد الكفر؛ الأمر المرفوض الذي يتداوله بعض النخب المغتربة في بلادنا.

        الاعتراض، ثمرة معرفة الوضع المنشود

        وأحياناً من لا يحمل معرفة وصورة دقيقة عن الوضع المنشود، لا يمكنه حتى الاعتراض على الوضع الموجود. ولا يتأتى التألّم من حالة الغيبة (الوضع الموجود) والتولّع للظهور إلّا عبر معرفة خصائص المجتمع المهدوي، وإلّا فمن اعتاد على الحياة في ظلّ هذه الظروف المرّة وغفل عن إمكانية التمتع بحياة سامية، لا يمكنه أن يكون منتظراً للوضع الأمثل. فهو يتقبّل جميع نقائص حياته الفردية والاجتماعية ويعتبرها أمراً لا مفرّ منه.
        يجب على المنتظر إلى جانب «الاعتراض على الوضع الموجود» أن يحمل صورة عن «الوضع المنشود» أيضاً. وهما أمران يكمّل أحدهما الآخر ويولّدان حالة الانتظار بمعية سائر العناصر المرتبط معظمها بالوضع المنشود والتي سنتعرض لها في تتمة البحث. وإنّ للشعور بالانتظار أساساً صلة وثيقة بهذا الإدراك والمعرفة بالنسبة إلى الوضع المنشود؛ بحدّ يمكن القول بأن تنمية هذه المعرفة تمثل واحدة من طرق تعزيز روح الانتظار.
        الانتظار، شعورٌ مختصّ بالمستقبل وبوضع أمثل. ومن هنا فكلّما كانت صورتنا عن الوضع المنشود أوضح، كلّما اشتدّ انتظارنا. ولكن ما هو الوضع الذي ينتظره الجاهل بالوضع المنشود؟ وكما ذكرنا في بحث «النظرة العامية»، فإن من تبرّم من الظلم ولكنه لا يحمل صورة واضحة عن العدالة، لا يُعلم أنه أساساً كم سيرغب في العدالة ويتقبّلها؛ وكم هو مستعدّ لأن يعيش في ظل مجتمع تسوده العدالة.
        إنّ لنفس معرفة الوضع المنشود والعلم بماهيته وكيفيته، فوائد جمة، حتى لو لم تؤدّ إلى الانتظار. فمن فوائده المهمة، تهيئة أرضية مناسبة لتحليل صائب عن الماضي والعثور على جواب الكثير من الأسئلة الأساسية في حياة البشر. مثل أنه: لماذا كان أنبياء وأولياء الله على مرّ التاريخ مظلومين في الأغلب؟ لماذا كل هذا التأخير وكل هذه الصعوبة في إقامة الحق؟ لماذا نجد غلبة الأشقياء على الأولياء مستمرة وبشتى الأنحاء؟ والكثير من الأسئلة التي يُجاب عليها.

        خبر منقذ

        إنّ معرفة الوضع المنشود والإخبار عمّا سيتحقق في المستقبل، يعمل كانفجار النور الذي بإمكانه أن يزيل ظلمات الجهالة، وأن ينشر ضياءاً يمكن من خلاله مشاهدة جانب من الوضع المأساوي الذي تعيشه البشرية. وهذه المعرفة ترفع حالة التوقّع والانتظار؛ وتهيء أرضية الاعتراض الشامل على النظام الموجود في العالم.
        الإخبار عن إمكانية ظهور حياة أمثل، في الفضاء الملكوتي لحكومة ولي الله الأعظم (أرواحنا له الفداء)، يكشف عن بطلان جميع النظريات والأفكار الباطلة الموضوعة لحياة البشر ويميط اللثام عن الجهل الكامن في الكثير من العلوم.
        وإنّ معرفة الناس بخصائص المجتمع والحكومة المهدوية وبركاتها وإمكانية تحققها، ستؤول إلى التحوّل. وحتى لو لم يكن الناس معتقدين بالعقائد الدينية المساندة للظهور ومصير العالم، فإنّ الحد الأدنى لثمرة هذه المعرفة هو ظهور الشك والتردّد حيال الحلول المطروحة حتى الآن للنجاة من المشاكل؛ والتي قد تبلورت في العلوم المختلفة.
        الاطلاع على المجتمع المهدوي، يعبّد طرق التفكير للمفكرين ويفتح آفاقاً جديدة لتدبّر الإنسان حول الحياة. ولو شُبّه الوجود الأقدس للإمام في عصر الغيبة في أحاديثنا بالشمس المغيّبة خلف السحاب[1]، فلعلّ جزءاً من هذه البركات ناظرة إلى نفس تلك المعرفة بالحكومة المهدوية. ولو كنّا نعيش في عصر حاكميّة الإمام، لكانت الحقائق جليّة لنا كالشمس في رابعة النهار. واليوم حيث نعيش عصر الغيبة، يمكننا عبر الوقوف على تلك الفترة والتدبّر في خصائصها، أن نضيء طريقنا كالنور الساطع من الشمس التي جلّلها السحاب.

        يتبع إن شاء الله ...

        [1]. «قَالَ جَابِرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَهَلْ يَنْتَفِعُ الشِّيعَةُ بِهِ فِي غَيْبَتِهِ؟ فَقَالَ (ص): إِي وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ إِنَّهُمْ لَيَنْتَفِعُونَ بِهِ. يَسْتَضِيئُونَ بِنُورِ وَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ وَإِنْ جَلَّلَهَا السَّحَابُ.» ?مال الدين وتمام النعمة، ج‏1، ص253.
        وكذلك مما جاء في التوقيع الصادر عن الناحية المقدسة للسفير الثاني: «وَأَمَّا وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِي فِي غَيْبَتِي فَكَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ إِذَا غَيَّبَهَا عَنِ الْأَبْصَارِ السَّحَابُ وَإِنِّي لَأَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ النُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ السَّمَاء.» ?مال الدين وتمام النعمة، ج2، ص483.

        تعليق


        • #24
          انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 21

          إنّ غيبة الإمام بحدّ ذاتها قد حَرَمتنا من مجموعة من النِعَم، فلا ينبغي أن نزيد من حرماننا بغيبتنا عن معرفة ذلك العصر. ففي ظلّ الجهل بشأن حكومة وليّ الله تنحرف الأفكار وتتورّط بالمزاعم الواهية والنظريات الباطلة. علماً بأنّ هذه النظريات في آخر الزمان سيظهر بطلانها واحدة تلو الأخرى. ولو قام العلماء المنصفون وغير المغرضين في العالم بمجرّد تصوّر المجتمع المهدي، لأدّى ذلك إلى التصديق وإلى تقبّل مقدماته الاعتقادية.
          وكلّما ازدادت الصورة والمعرفة إزاء الوضع المنشود شفافية واتّسعت بالاستناد إلى العقل والوحي، كلّما اشتدّ جانب العلم والعشق في مسألة انتظار الفرج. ولابد أن يتمّ هذا التبيين لخصائص عصر الحكومة المهدوية في الأوساط والمراكز العلمية، الدينية والجامعية.
          وإن هذه الحقيقة وهي أنّ المجتمع المهدوي وحاكمية ولي الله بإمكانها أن تثبت بطلان النظريات الباطلة في إدارة حياة البشر، قد تم تجربتها إلى حدّ ما في الثورة الإسلامية ونظامنا المقدس. فحينما بدأت تتضاءل مفاهيم «لا يمكن» و«لا يتحقق» لدى العلوم التجريبية في مسار أحداث الثورة الإسلامية، وأخذت انتصارات هذه الأمة الولائية تُثبت وهمية الأفكار غير الإلهية واحدة تلو الأخرى، فمن الطبيعي أن تتحقق هذه الحالة وبنفس هذه الآثار في ذلك العصر بمقياس أكبر، وستسوق المفكّرين إلى إعادة النظر في نظرياتهم. بالطبع إذا سمحت بذلك المؤسسة الإعلامية الاستكبارية وأصحاب النفوس المريضة.

          وظيفة المنتظرين في رسم المجتمع المهدوي


          ومن البركات الأخرى للمعرفة الجلية بالوضع المنشود، هو استنارة الطريق في هذا العصر والاستلهام للعبور من المشاكل المتفشية في مجتمعنا. يجب علينا رسم خصائص المجتمع المهدوي وفي المرحلة التي تليها تقييم بُعدنا عن الوضع المنشود والمضيّ نحوه. لأنّ بعض خصائص الوضع المنشود، لابد وأن تتحقق على أيدينا قدر استطاعتنا[1]، وهذه هي من لوازم التمهيد للظهور التي هي وظيفتنا ورسالتنا التاريخية نحن الشيعة.
          وكما أنّ على مجتمعنا تلقّي الدروس والعِبَر الكثيرة من مدينة النبيّ، يجب علينا أخذ الدروس الكثيرة من المجتمع المهدويّ أيضاً. ويتسنى لمجتمعنا أن يجتاز الكثير من المشاكل التي كانت موجودة في صدر الإسلام والتي من الممكن أن تكون موجودة أيضاً في مجتمعنا وذلك من خلال تلقي الدروس من المجتمع المهدوي. فإننا وإن نفتخر بالتاريخ المشرق لحياة المعصومين (ع) ونأخذ الدروس الكثيرة منه، إلّا أن الغالب على ذلك التاريخ، هو المظلومية الكبيرة لأولياء الله. ويمكننا إكمال معرفتنا عبر إمعان النظر في المجتمع المهدوي الذي ستكون فيه الولاية في أوج اقتدارها.
          انظروا إلى المشاكل الموجودة في مجتمعنا اليوم. أيّ واحدة من هذه المشاكل لا يمكن حلّها عبر الوقوف على مجتمع الإمام وحكومته والتأسي به والاستلهام منه؟ سيما وأنّ لمجتمعنا اليوم شبهٌ كبيرٌ بالمجتمع المهدوي، وهو أقرب مجتمع إلى المجتمع الذي سيكوّنه الإمام المهدي (عج).
          إن بعض المشاكل الموجودة في مجتمعنا لو ارتفعت، لتقرّبنا إلى الوضع المنشود كثيراً، وهذه هي بشارة مولانا حيث قال في توقيعه الشريف للشيخ المفيد (ره): «وَلَوْ أَنَ‏ أَشْياعَنَا وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ عَلَي اجْتِمَاعٍ مِنَ الْقُلُوبِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ عَلَيهِمْ، لَمَا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْيمْنُ بِلِقَائِنَا وَلَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ بِمُشَاهَدَتِنَا.»[2]
          إنّ أهم خصّيصة يتحلّى بها مجتعمنا والتي تؤدي إلى قربنا من الإمام، هي كونه ولائياً. واكتساب الكمالات في هذا المجال، يزيد من قربنا للإمام لا محالة. فإنّ اتّصاف مجتمعنا بمزيد من الحالة الولائية، يمثّل تلبية لذلك العهد المأخوذ على عاتقنا. كما أنّ مشاكلنا ناجمة عن قصورنا وسوء تصرفنا في هذا المجال.
          وإذا ما نظرنا إلى المجتمع الموعود، لوجدنا أنّ جميع البركات والخيرات في المجتمع المهدوي وتبلور الوضع المنشود، ناجمة من استقرار الولاية وتقبّل أهل الأرض بأجمعهم لها. وأما ما هي الظروف التي يصبح كلّ الناس في ضوئها ولائيين، فهو بحث آخر لابد من التعرّض له في محله، ولكن على أيّ حال، بعد أن يُصبح الجميع ولائيين، تتنزّل النِعَم من الأمن والاستقرار إلى العدالة والرفاهية.
          ولو كان للنُخب والخواص في المجتمع دورٌ أساسيّ في تعزيز أركان الولاية في المجتمع، فما هي الآن وظيفة النُخب في مجتمعنا؟ ولو كان عبء حكومة الإمام ملقىً على عاتق النُخب الأتقياء المقتدرين في عصر الظهور، فكم سيكون لتربية مثل هؤلاء النُخب وفسح المجال لهم دور هام في تسيير الأمور؟
          ولو أنّ عقول الناس تتكامل بعنايته في ذلك العصر وتؤدي نفس هذه العقلانية إلى إرساء قواعد حكومة الإمام، فما هي وظيفتنا اليوم في تنمية العقلانية في المجتمع؟ ولو أنّ محبة الناس الشديدة للإمام في عهده تؤدي إلى التآلف بين القلوب وإلقاء الرعب في نفوس الأعداء، فما هي مدى أهمية تعزيز المحبة لولي الله ونائبه في المجتمع (الولي الفقيه) في الظروف الراهنة؟
          يجب علينا في ضمن بحوث مستقلة، أن نتعرفّ من جانب على خصائص المجتمع المهدوي والوضع المنشود بدقة، وأن نقوم من جانب آخر برصد المشاكل المتفشية في مجتمعنا والبحث عن حلولها في إطار خصائص الوضع الموعود.

          يتبع إن شاء الله...

          [1]. الإمام الخميني (ره): «من أجل أيّ شيء يظهر الإمام الحجة؟ من أجل بسط العدل، من أجل تعزيز الحُكم، من أجل القضاء على الفساد. نحن خلافاً للآيات القرآنية الشريفة نكفّ عن النهي عن المنكر، نكفّ عن الأمر بالمعروف ونُوسّع الذنوب من أجل أن يأتي الإمام؟ ماذا سيصنع الإمام إذا ظهر؟ يظهر الإمام ليقوم بهذه الأمور... نحن يجب علينا إن استطعنا وإن كنّا نملك القدرة أن نزيح الظلم والجور بأسره عن العالم. هذه هي وظيفتنا الشرعية، غير أننا لا يسعنا ذلك. الحالة الموجودة هو أنّ الإمام يملأ الأرض عدلاً؛ لا أن تكفّوا عن العمل بتكليفكم، ولا أن يرتفع التكليف عنكم ... نعم، نحن لا نستطيع أن نملأ الأرض عدلاً كما ستُملأ، ولو استطعنا لفعلنا، ولكن لعدم استطاعتنا لابد من أن يظهر الإمام. العالم اليوم مليء بالظلم. أنتم نقطة في العالم والعالم يزخر بالظلم. نحن إن استطعنا الوقوف بوجه الظلم، يجب علينا ذلك وهي وظيفتنا. وقد حتّمت علينا الضرورة الإسلامية والقرآنية أن نقوم بكل هذه الأعمال. ولكن بما أننا لا نستطيع ذلك، لابد من ظهور الإمام والقيام بهذه الأمور. ولكن يجب علينا التمهيد لذلك، وتهيئة الأسباب التي تؤدي إلى تعجيل هذا الأمر، والعمل من أجل أن يستعدّ العالم لمجيء الإمام – سلام الله عليه -.» صحيفة الإمام، ج‏21، ص14-17.
          الإمام الخامنئي: «نحن المنتظرون لصاحب الأمر، يجب علينا بناء حياتنا الحالية بنفس الوجهة التي ستتأسس عليها حكومة صاحب العصر (عليه آلاف التحية والثناء وعجّل الله تعالى فرجه). علماً بأننا أقلّ من أن يسعنا بناء ما بناه أو سيبنيه أولياء الله؛ ولكن يجب أن نصبّ سعينا وجهدنا في نفس ذلك الاتجاه.» كلمته بمناسبة ذكرى ولادة صاحب العصر (عج)؛ 13/3/1990.
          حجة الإسلام صالح نيا من تلامذة آية الله الشيخ البهجة مع وكالة فارس: ذات مرة سألت سماحته (آية الله البهجة) بأننا إذا أردنا التعجيل في ظهور الإمام المهدي، ماذا ينبغي أن نفعل؟ فقال سماحته: لنفعل الآن ما يجب علينا فعله في عصر ظهوره. ما هي الأفعال التي سنؤدّيها وما هي الأفعال التي سنتركها إذا كان الإمام حاضراً؟ لنؤدّ الآن نفس تلك الأفعال والأعمال الحسنة ولنترك الآن السيئات، عندها سيتحقق ظهوره. (وكالة أنباء فارس، الخبر المرقّم: 13910225001443؛ 16/5/2012)
          [2]. الاحتجاج للطبرسي،‏ ج‏2، ص499.


          تعليق


          • #25
            انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 22

            نماء الأسئلة وتفتّح الأجوبة

            والآن يجب أن نعرف ما هي الصورة التي نحملها عن المجتمع المهدوي؟ للوصول إلى مثل هذه الصورة الجليّة يمكننا النظر إلى نماء أسئلتنا. فهناك الكثير من الأسئلة التي يمكن التفكير فيها والوصول إلى الحقائق المختصة بالمجتمع المهدوي حسب نسبة جودة السؤال.

            كيف تتكامل العقلانية؟

            كيف تتكامل العقلانية في ذلك العصر؟ ما هو الحدث الذي سيتحقق في ذلك الزمان ولم يتحقق حالياً، وعلى أثره يزداد فهم الناس بحدّ تزول أرضية تقبّل الكلام الخاطئ؟ كم سيكون لكلٍّ من تجربة البشر التاريخية وتمحورهم حول الولاية أثر في تكامل العقلانية؟
            ما هي العلاقة بين محبة الإمام وبين كلّ ما يتمخضّ عن العطف والحنان في العلاقات بين الناس؟ ما هو أساس ازدياد النعم وكم سيكون لحضور الإمام وإقبال الناس عليه أثر في هذا المجال؟ هل أنّ السبب الغالب لخوف الأعداء من الإمام هو قوة سيفه أم شدة حبّ أنصاره له؟ ألا تُعدّ هذه المحبة والولاية بذاتها العامل الأهم لتكامل العقل والفهم عند الناس؟
            كيف سيكون وضع المذنبين؟ ماذا على من لا يريد أن يكون صالحاً؟ هل أنّ التحلّي بالصلاح سيكون أمراً إجبارياً أم أنّ الظروف لا تسمح لأن يكون الإنسان سيّئاً؟ هل سيُفتضح المذنبون ويُعدَمون على الفور؟

            كيفية مشار?ة الناس في الحكومة؟ مقدار القوانين وضمان تطبيقها؟

            كيف تتم مشاركة الناس في حكومة الإمام؟ ما هو مقدار القوانين التي تُسنّ في المجتمع؟ ما هو الضمان لتطبيق هذه القوانين؟ ما هي نسبة استخدام الشدّة في تطبيق القوانين؟ كم من مهمة إدارة المجتمع ستقع على عاتق الأخلاق بدلاً من القانون؟ كيف تتم تنمية الأخلاق والمعنوية في المجتمع بحيث تحلّ محل الكثير من القوانين الإضافية العديمة التأثير؟ كم سيكون للإيمان بالمبدأ والمعاد دور في تنمية الأخلاق وتأسيس مجتمع أخلاقي؟ ما هو أثر الالتزام بالولاية في هذا الشأن؟

            طريقة تبليغ الدين، كيفية الإشراف على المنتوجات الفنية

            كيف يتم تبليغ الدين في عصر الموعود؟ كيف سيتم جذب الناس إلى الدين؟ ما هي نسبة استخدام الفنّ في تبليغ الدين؟ هل يستطيع الفنّانون إغواء الناس حتى لصالح الله؟ أساساً كيف سيكون وضع الفنّ في المجتمع المهدوي؟ من الذي يستطيع أن يكون فنّاناً؟ هل يستطيع الفنّانون دسّ السمّ بالعسل تحايلاً؟ هل سيقع الإشراف أكثر على عاتق الحكومة أم الناس في تقييم المنتوجات الفنية؟ هل سينمو ويتوسّع الفنّ أيضاً؟

            الرقابة على الإعلام

            كم ستتجه وسائل الإعلام إلى إظهار الحقائق وكم ستتمحور حول المصالح؟ كم سيكون لإذاعة السلبيات دور في إدارة المجتمع؟ هل سيكون الإعلام ركناً من أركان المجتمع المهدوي؟ هل ستتم الرقابة على المنتوجات الإعلامية؟ أم أنّ شدّة معرفة الناس وفهم المخاطبين يُغني الحكومة عن الرقابة الشديدة العديمة الجدوى؟ من سيتولّى إدارة الإعلام وما هي الخصائص والصفات التي لابد وأن يتحلّى بها هذا المدير؟
            هذه الأسئلة إضافة إلى التوعية، بإمكانها أن تكسب المتنصّلين عن الدين الذين يحملون صورة باطلة عن المجتمع والحكومة الدينية ولذا يهابونها. بل بإمكانها أن تقترب من الإجابة على جميع الأسئلة العالقة على أذهان البشر في الوقت الحاضر.

            3. الاعتقاد والأمل بتحقق الوضع المنشود


            العنصر الثالث للانتظار هو «الاعتقاد» بتحقق الوضع المنشود. أي الإيمان والاعتقاد بتحقق الوضع المنشود الذي نعرفه. والأمل ينبثق من نفس هذا الاعتقاد. ففي الظروف العصيبة التي تسوق الإنسان إلى اليأس، يكون الأمل ناجماً من عقيدة راسخة بتحقق أمر في المستقبل. فإننا بعد الاعتراض على الوضع الموجود، والحصول على صورة صحيحة بالنسبة إلى الوضع الموعود، يجب علينا الآن الاعتقاد بتحقق ذلك الوضع المنشود. فإن الأمل بالوصول إلى الوضع الموعود هو الذي يأخذ بأيدينا نحوه.
            وفي مسألة رسم الوضع المنشود، نصل إلى خصائص يصعب على المرتابين تقبّلها بسهولة. وقد آل المطاف بالبعض في عدم التصديق بالصورة المذكورة في الروايات والتي تبدو خيالية حول خصائص المجتمع المهدوي، بحيث أنه لم يكلّف نفسه عناء إنكارها أيضاً، بل بات يمرّ عليها مرور الكرام، معتبراً بأنّ الوضع المنشود المرسوم لا يمكن تحقّقه.[1]

            عوامل رفض تحقق الوضع المنشود

            وإن كان من اللابد البحث عن أدلة عدم الاعتقاد هذا في عدم سلامة العقول وقساوة القلوب، ولكن يجب علينا مواصلة حوارنا، علّه يجد سبيلاً ومخرجاً من هو أهل لذلك. إنّ واحدة من عوامل ضيق الأفق ورفض تحقّق الوضع المنشود هو الغور في التجارب البشرية التي يتمّ تنظيرها في مدارس المفكرّين الغربيّين. ومن العوامل الأخرى لإيجاد أرضية التشكيك في المجتمع المهدوي هو السلبيّة وعدم امتلاك فلسفة قويمة لحياة الإنسان.
            إنّ للاعتقاد بالمهدوية والوضع المنشود الموعود، عقبات سنشير إليها، ولكن رغم ذلك لا ينبغي إهمال الموانع الجدية التي تحول دون الإيمان بكلّ ما وعده الله. إن الإيمان بأيّ وعد من وعود الأنبياء والاعتقاد بتحققها يحتاج أساساً إلى نوع من صفاء السريرة لتستطيع أجنحة الفكر أن تحلّق بحرية في السماء الملائم لها للوصول إلى أفق الحقيقة. فإنّ أدنى ثغرة كامنة في روح الإنسان قد تقطع بوجهه طريق تقبّل الوعود الإلهية والتدبّر فيها.

            يتبع إن شاء الله...

            [1]. يقول الإمام الخامنئي في بيان هدف الثورة: «إن القضية لا تختص بإيران. إيران مطلوبة كنموذج للمجتمعات الإسلامية بالدرجة الأولى، وكافة المجتمعات الإنسانية بالدرجة الثانية. أردنا نحن بناء هذا المجتمع بهذه الخصائص - نحن معناها الشعب الإيراني، وثورة إيران، والثوريون الإيرانيون، وليس المراد أنا وعدة أشخاص آخرين - ووضعه أمام كل أبناء البشر والأمة الإسلامية والقول لهم: هذا هو الشيء الذي يطمح إليه الإسلام ويقدر عليه الناس في هذا الزمن. لا يخال البعض أن هذا شيء منشود لكنه غير ميسور. يقال إن بعض ذوي النوايا الحسنة حتى، كانوا خلال فترة كفاح النهضة الإسلامية يقولون: لِمَ كل هذه الجهود التي لا طائل من ورائها؛ نعم، كلامكم صحيح لكنه غير ممكن. وأرادت الثورة أن تثبت للجميع أينما كانوا من العالم الإسلامي أن هذا النموذج ممكن التحقيق، وهذا هو المثال. كان هذا هدف الثورة. كان هذا الهدف مطروحاً منذ البداية وأقول لكم إنه لا يزال قائماً اليوم أيضاً، وسيبقى في المستقبل. إنه هدف ثابت.» كلمته في لقائه مع الأساتذة والجامعيين بمحافظة شيراز؛ 3/5/2008.

            تعليق


            • #26
              انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 23

              وقد تؤول الكثير من الانحرافات الدينية إلى عدم الاعتقاد بالمجتمع المهدوي. فلو تعارضت مسيرة أحد بالكامل مع المبادئ المهدوية، ومن جانب لابد له أن يرى غاية الحياة ونهاية الكمال في المعتقدات المهدوية، فإنّ الطريق الأسهل له هو إنكار المجتمع المهدوي من الأساس. وإلّا فلابد له من تغيير مسيرة حياته أو الاعتراض بخطأ اتجاه حركته على أقل تقدير؛ وهو أمر عسير على الكثير.

              عدم اعتقاد المكابرين وعبيد الأموال / المكابرة العلمية

              وفي هذا البين، يتضّح دليل عدم اعتقاد المكابرين وعبيد الأموال بالمجتمع المهدوي، وسعيُهُم المستمر لسلب الاعتقاد من المستضعفين أو سوقهم إلى عدم الاكتراث على أقل تقدير بمستقبل خالٍ منهم، واضحٌ للعيان. علماً بأنّ المكابرة لا تختص بدائرة الأموال والحكم، بل لها أقسام وأنواع عدة وبالإمكان ظهورها في شتى المجالات. كأن يقوم طالب العلم في ضمن حوار علميّ بعدم التراجع عن كلامه الباطل حباً بالجاه. فهو ضرب من ضروب المكابرة.
              وفي المقابل، فإنّ الاعتقاد بتحقق المجتمع المهدوي دوماً ما يفتح بوجه البشرية آفاق السعادة وله آثار عديدة في إرساء القواعد الدينية لدى المؤمنين، وسوف نشير إلى جملة من هذه الآثار. والحدّ الأدنى للاعتقاد بهذا المستقبل المشرق هو أنك تتحلى بسلامة القلب وهي علامة جيّدة تبعث على الابتهاج؛ وسيترك في حياتك المعنوية الكثير من الخيرات والبركات.

              الاعتقاد بالمسائل المعنوية، علامة على سلامة الروح وشدة الدراية

              وأساساً فإنّ الاعتقاد بالمسائل المعنوية علامة على سلامة روح الإنسان، وسرعة التصديق بالوعود الإلهية ناجمة من صفاء السريرة. فإنّ سرعة التصديق وإن تكن تارة بسبب السذاجة وهي مذمومة، غير أنها تارة أخرى تكون بسبب شدة الدراية والحكمة وهو أمر مطلوب للغاية. فإنّ الذي يتمتّع بحكمة ورؤية ثاقبة وسرعة فهم وقوة تحليل، غالباً ما يؤمن بالوعود الإلهية بسرعة. ولكن لا يمكن التغافل إطلاقاً عن دور صفاء السريرة. لأن الإنسان الذكيّ لو لم يتمتع بصفاء السريرة، سيستخدم جميع ذكائه في سبيل الباطل.

              لا يكفي صفاء القلب لوحده

              وكذلك العكس، فإنّ الذي يتحلى بصفاء القلب ولكن لا يحمل النظر الثاقب، قد لا يستطيع في بعض المواطن اختيار الطريق الصائب. ولذا تجده ينخدع سريعاً وينحرف بأدنى تحايل وإغواء. ولو لم يسقط بمواجهة المتحايلين، فلربّما يفقد إيمانه بمواجهة أدنى امتحان أو بافتراض أنّ الوعود الإلهية غير منطقية.

              دور قلة المعرفة في التساقط قرب الظهور

              وفيما يخصّ الإيمان بالمهدوية لابد من القول بأن الساحة زاخرة بالابتلاءات، وأن الابتلاءات الإلهية للمؤمنين قرب الظهور وبعدها يتبعها الكثير من التساقط كما في الروايات.[1] فمن عَقَدَ إيمانه على قليل من المعرفة وبنى أساس عقيدته على صفاء سريرته، سيسقط في الابتلاءات الصعبة أو سيستولي عليه الخوف على أقل تقدير وسوف لا ينهض للدفاع عن الحق بشجاعة تامة، تلك التي تنبثق من العقيدة الراسخة والمعرفة السديدة.

              الاعتقاد بالموعود، يستلزم الاعتقاد بأحقية الدين

              حريّ بنا هنا أن نشير إلى نقطة مهمة وهي دور الاعتقاد بـ«تحقق المجتمع المهدوي» في إثبات «أحقية الدين». فلو فقد الاعتقاد بالمجتمع الموعود، لأصبحت جميع مبادئنا الدينية في العالم عرضة للتشكيك والتساؤل. إذ أنّ في قبال الكثير من الوصايا الاجتماعية للدين والصورة التي يرسمها لنا من المجتمع المنشود، يمكن القول بكل بساطة: «ماذا سيكون لو أمكن، ولكن المؤسف أنه لا يمكن.» ومعنى ذلك أن وصايا الدين حتى لو كانت جيّدة لا يمكن تطبيقها. وليس بالقليل من يقول بهذه المقولة بشتى التعابير.

              ضرورة الاعتقاد بإمكانية تحقق الدين كله

              نحن لو لم نكن معتقدين بإمكانية تحقق الدين كله، وأنه سيتحقق في يوم من الأيام بصورة شاملة وثابتة، لوقع الدين بأسره عرضة للتشكيك. فلو قمنا بإثبات التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وتعرّضنا بعد ذلك لبيان الأحكام الإسلامية، ولكننا غير معتقدين بالمجتمع المهدوي، لا يمكننا عندئذ الدفاع عن أحقية الدين بشكل جيد. لماذا؟
              لأنه سيُقال لنا: هذا الدين الذي تدّعون أنه أكمل دين، لم يستقر بالكامل في عهد النبي الأكرم (ص)، وذلك لما وجّهه المنافقون من ضربات كبيرة له وحالوا دون تحقيق القِيَم النبوية بأسرها. وما تحقق منه لم يستمر. ولو كان قد استقر بالكامل، لتحقق وعد الله في قوله: ( لِيظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ ?ُلِّهِ ) [2] ولانتشر دين الإسلام في جميع أقطار العالم.
              وأهم علامة على عدم استقراره هي الأحداث التي جرت بعد النبي (ص)، حتى آل المطاف إلى أن يتربّع رجل فاسق مثل يزيد على كرسيّ الحكم بصفته خليفة لرسول الله (ص) ثم يقول بعد قتل أبي عبد الله الحسين (ع): «لَعِبَت هاشِمُ بِالمُلكِ فَلا / خَبَرٌ جاءَ وَلا وَحيٌ نَزَل.»[3]
              وأمير المؤمنين (ع) أيضاً لم يوفّق لتحقيق ما كان يرمي إليه بالكامل، وحكومته الإلهية لم تدم أكثر من خمسة أعوام.[4] وسائر الأئمة (ع) أيضاً كانوا في الأغلب يعيشون في غربة ومظلومية وكانوا محرومين من حقوقهم الأولى، فضلاً عن أن تؤاتيهم الفرصة لإحلال الدين في المجتمع.

              يتبع إن شاء الله...

              [1]. قال الإمام الصادق (ع) لابن أبي يعفور حول أصحاب القائم: «لَابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْ يُمَحَّصُوا وَيُمَيَّزُوا وَيُغَرْبَلُوا وَيَخْرُجُ فِي الْغِرْبَالِ خَلْقٌ كَثِيرٌ.» ال?افي، ج1، ص370.
              وقال (ع) أيضاً في جواب جابر الجعفي الذي سأله: مَتَى يَكُونُ فَرَجُكُمْ؟: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَا يَكُونُ فَرَجُنَا حَتَّى تُغَرْبَلُوا ثُمَّ تُغَرْبَلُوا ثُمَّ تُغَرْبَلُوا يَقُولُهَا ثَلَاثاً حَتَّى يَذْهَبَ الْكَدِرُ وَيَبْقَى الصَّفْوُ.» الغيبة للطوسي، ص339.
              عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَأَبِي بَصِيرٍ قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ: «لَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا النَّاسِ» فَقُلْنَا: «إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا النَّاسِ فَمَنْ يَبْقَى؟» فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي؟» الغيبة للطوسي، ص339، و?مال الدين وتمام النعمة، ج2، ص655، مع اختلاف قليل.
              وقال الإمام الكاظم (ع) لأبي إسحاق وهو يسأله عن الفرج: «أَمَا وَاللَّهِ يَا أَبَا إِسْحَاقَ مَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى تُمَيَّزُوا وَتُمَحَّصُوا وَحَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا الْأَقَلُّ ثُمَّ صَعَّرَ كَفَّهُ.» الغيبة للنعماني، ص208.
              وعن الإمام الرضا (ع): «وَاللَّهِ مَا يَكُونُ مَا تَمُدُّونَ أَعْيُنَكُمْ إِلَيْهِ حَتَّى تُمَحَّصُوا وَتُمَيَّزُوا...» الغيبة للطوسي، ص336، الغيبة للنعماني، ص208.
              وعن الإمام الجواد (ع): «إنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ مَوْتِ ذِكْرِهِ وَارْتِدَادِ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ.» ?مال الدين وتمام النعمة، ج2، ص378.
              [2]. ï´؟هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَدينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» سورة التوبة، الآية 33، وسورة الصف، الآية 9.
              [3]. الاحتجاج للطبرسي، ج2، ص307.
              [4]. أمير المؤمنين (ع): «قَدْ عَمِلَتِ الْوُلَاةُ قَبْلِي أَعْمَالًا خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ (ص) مُتَعَمِّدِينَ لِخِلَافِهِ نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ مُغَيِّرِينِ لِسُنَّتِه‏ وَلَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا وَحَوَّلْتُهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا وَإِلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي حَتَّى أَبْقَى وَحْدِي أَوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِيَ الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وَفَرْضَ إِمَامَتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ...» ال?افي، ج8، ص59. وقال الإمام الصادق (ع): «لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) ثَبَتَتْ قَدَمَاهُ، أَقَامَ كِتَابَ اللَّهِ كُلَّهُ وَالْحَقَّ كُلَّهُ.» ال?افي، ج5، ص556؛ تهذيب‌ الأح?ام، ج7، ص463.


              تعليق


              • #27
                انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 24

                وقد أشار الإمام الخميني (ره) في كلمته بمناسبة النصف من شعبان إلى هذه المسألة المهمة حسب تعبيره قائلاً:
                «إنّ قضية غيبة صاحب العصر، قضية مهمة توقفنا على العديد من المسائل. منها أنّ الله تبارك وتعالى قد ادّخر المهدي الموعود (سلام الله عليه) للبشرية من أجل تحقيق هذا العمل العظيم وهو تطبيق العدالة بمعناها الحقيقي في جميع المعمورة، تلك التي لم يسبقه أحد لها. فقد جاء الأنبياء من أجل تطبيق العدالة وبغيتهم هي تطبيق العدالة في جميع العالم ولكن لم يوفقوا لذلك. حتى الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي جاء لإصلاح البشر ولتطبيق العدالة ولتربية الناس، لم يوفق لذلك في زمانه... فلم تتوافر الإمكانية لأيّ أحد من الأولين والآخرين، وقد توافرت للمهدي الموعود فقط إمكانية نشر العدالة في جميع العالم، حيث ادّخره الله تبارك وتعالى لتحقيق ما لم يوفق إليه الأنبياء مع أنهم جاؤوا لذلك، ولتطبيق ما كان يرمي إليه جميع الأنبياء وجميع الأولياء ولكن الأسباب حالت دون ذلك.»[1]
                ويقول الإمام الخامنئي أيضاً:
                «إذا لم تكن المهدوية كان معنى ذلك أن كل مساعي الأنبياء وكل الدعوات وكل البعثات وكل هذه الجهود المضنية لا فائدة منها ولا أثر لها. إذن قضية المهدوية قضية أصلية رئيسية ومن أكثر المعارف الإلهية أهمية وأصالة. لذلك يوجد في كل الأديان الإلهية تقريباً - في حدود اطلاعنا طبعاً - شيء لبابه ومعناه الحقيقي هو نفس هذه المهدوية.»[2]
                ومن هنا فإن من الإيرادات الموجّهة لديننا بل ولكافة الأديان الإلهية من دون النظر إلى المجتمع المهدوي، هي أنّ دينكم يحمل بين دفتيه تعاليم قيمة للغاية ولكن لا يمكن إدارة حكومة من خلاله؛ كما أنّ أولياء الله أيضاً لم يتمكّنوا من ذلك.
                يُنقل أنّ في عصر أحد ملوك الصفوية، عُقد مجلس بحضور الحاكم. فقام أحد الحاضرين بالحديث عن عدل علي (ع) كثيراً لعلمه بادّعاء ملوك الصفوية حبّهم لعلي بن أبي طالب (ع). فعرف الحاكم أنه يتحدّث بتلميح وتهكّم. وبعد انتهاء المجلس وذهاب الحاضرين، أشار إليه بالبقاء وقال له: «ما لك تتكلّم بهذا المقدار عن عدل علي (ع)؟»
                فأجابه أخيراً وقال: «كانت لديّ أرض وأخذها رجالك مني بالقوة ولا أجد من أتظلّم إليه.» فقال الحاكم: «قل لي من الذي اغتصب أرضك حتى أعيدها إليك، ولكن لماذا كل هذا الكلام عن عدل علي (ع)؟»
                قال الرجل للحاكم: «إنك تدّعي حب علي (ع)، وعليك أن تتصرف مثله بعدالة.» فأجابه الحاكم: «صحيح بأننا نحبّ علياً، غير أنّ حكومة علي (ع) لم تدم أكثر من خمسة أعوام لعدالته. وأنا أريد أن تدوم حكومتي أكثر.» يريد أن يقول: لا يمكن الحكم من خلال عدل علي (ع) ونهجه.

                لماذا يتّهم البعض الدين باللاواقعية؟

                وهذه هي عقيدة الكثير من المتنصّلين عن الدين الذين يعتبرون الدين أمراً لطيفاً ولا يُستفاد منه سوى لتلطيف روح الإنسان؛ وما زاد عن ذلك فلا للدين أمر محتمل ولا للمجتمع ممكن التطبيق. ومن هنا يصفون الدين باللاواقعية معتبرين أنه مجرد أشعار وحكايات يتحدث بعبارات مبالغ فيها عن القمم والأساطير البعيدة المنال ويبيّن أشدّ المواعظ مبالغة وغلواً ليترك ولو أثراً إيجابياً قليلاً في نفوس المخاطبين.
                علماً بأنّ هذه الرؤية شائعة إلى حدّ ما في أوساط الكثير من المؤمنين والمتدينين. أي أنّ عدداً من المؤمنين قد ابتلوا بنوع من العلمانية بدرجات مختلفة، وقد تظهر هذه الرؤية في مواقفهم السياسية. ولا يعبّرون عن ذلك باللادينية بل يعتبرون رؤيتهم هذه مزيجاً بين الواقعية والمبدئية.

                الدين كله ممكن التطبيق ويتحقق في المجتمع المهدوي

                فلو سأل سائل: «لو كان دينكم برنامجاً للحياة، وممكن التطبيق، فلماذا لم تتوافر إمكانية تطبيقه على يد النبي (ص) وأوصيائه المعصومين (ع)؟»، لا سبيل لنا سوى أن نعده بالمستقل إلى جانب ذكر الموانع الموجودة في السابق بأدلة منطقية، ونقول له بأنّ هذا الدين بصفته أفضل برنامج للحياة في هذه الدنيا، ممكن التطبيق وسيتضح ذلك عبر ظهور المجتمع المهدوي العالمي في المستقبل.
                ولا ينبغي أن نفسّر الحسنات والفضائل التي وصّى بها الدين بشكل يؤول إلى اتصافها باللاواقعية وإلى ظهور هذا التصور بأن المجتمع لا يمكن إدارته من خلال التعاليم الدينية. وعلى أيّ حال، فمن ساقه النظر إلى تاريخ أهل البيت (ع) الزاخر بالمظلومية وإلى جميع المظالم الحالة بالبشرية باسم الدين، إلى هذه الرؤية وهي أن التعاليم الدينية خيالية لا يمكن تحققها، فالجواب الوحيد له هو المجتمع المهدوي.

                لماذا كلّ هذا التأكيد في ديننا عن الموعود؟

                ولهذا فإنّ الاعتقاد بالمهدوية يمثلّ عاملاً مهماً في أن لا يقع أساس المعتقدات الدينية عرضة للتشكيك والتساؤل. ومن هنا نجد النصوص الدينية تؤكّد بشكل كبير على قضية الموعود، فقد خصص النبي الأكرم (ص) جزءاً كبيراً من كلامه في خطبة الغدير بالحديث عن الموعود[3]، لئلا يُتّهم الدين بأنه غير قابل للتطبيق.

                يتبع إن شاء الله...

                [1]. صحيفة الإمام، ج12، ص480.
                [2]. كلمته في الأساتذة والخريجين المتخصصين في المهدوية، 09/07/2011.
                [3]. يروي الإمام باقر (ع) القصة والخطبة الكاملة لرسول الله (ص) في غدير خم. فقد أشار النبي في مقاطع مختلفة من هذه الخطبة إلى الإمام المهدي (ع) وصفاته ورسالته بالتفصيل قائلاً: «مَعَاشِرَ النَّاسِ! آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها. مَعَاشِرَ النَّاسِ! النُّورُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ مَسْلُوكٌ، ثُمَّ فِي عَلِيٍّ ثُمَّ فِي النَّسْلِ مِنْهُ إِلَى الْقَائِمِ الْمَهْدِيِّ الَّذِي يَأْخُذُ بِحَقِّ اللَّهِ وَبِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَنَا. لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَنَا حُجَّةً عَلَى الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُعَانِدِينَ وَالْمُخَالِفِينَ وَالْخَائِنِينَ وَالْآثِمِينَ وَالظَّالِمِينَ وَالْغَاصِبِينَ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ ... مَعَاشِرَ النَّاسِ! أَلَا وَإِنِّي مُنْذِرٌ وَعَلِيٌّ هَادٍ. مَعَاشِرَ النَّاسِ! إِنِّي نَبِيٌّ وَعَلِيٌّ وَصِيِّي. أَلَا إِنَّ خَاتَمَ الْأَئِمَّةِ مِنَّا الْقَائِمُ الْمَهْدِيُّ. أَلَا إِنَّهُ الظَّاهِرُ عَلَى الدِّينِ. أَلَا إِنَّهُ الْمُنْتَقِمُ مِنَ الظَّالِمِينَ. أَلَا إِنَّهُ فَاتِحُ الْحُصُونِ وَهَادِمُهَا. أَلَا إِنَّهُ قَاتِلُ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. أَلَا إِنَّهُ الْمُدْرِكُ بِكُلِّ ثَارٍ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أَلَا إِنَّهُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ. أَلَا إِنَّهُ الْغَرَّافُ مِنْ بَحْرٍ عَمِيقٍ. أَلَا إِنَّهُ قَسِيمُ كُلِّ ذِي‏ فَضْلٍ بِفَضْلِهِ وَكُلِّ ذِي جَهْلٍ بِجَهْلِهِ. أَلَا إِنَّهُ خِيَرَةُ اللَّهِ وَاللَّهُ مُخْتَارُهُ. أَلَا إِنَّهُ وَارِثُ كُلِّ عِلْمٍ وَالْمُحِيطُ بِهِ. أَلَا إِنَّهُ الْمُخْبِرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُنَبِّهُ بِأَمْرِ إِيمَانِهِ، أَلَا إِنَّهُ الرَّشِيدُ السَّدِيدُ. أَلَا إِنَّهُ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ. أَلَا إِنَّهُ قَدْ بَشَّرَ بِهِ مَنْ سَلَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ. أَلَا إِنَّهُ الْبَاقِي حُجَّةً وَلَا حُجَّةَ بَعْدَهُ وَلَا حَقَّ إِلَّا مَعَهُ وَلَا نُورَ إِلَّا عِنْدَهُ. أَلَا إِنَّهُ لَا غَالِبَ لَهُ وَلَا مَنْصُورَ عَلَيْهِ. أَلَا وَإِنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَحَكَمُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمِينُهُ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ. مَعَاشِرَ النَّاسِ! قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ وَأَفْهَمْتُكُمْ وَهَذَا عَلِيٌّ يُفْهِمُكُمْ بَعْدِي.» الاحتجاج للطبرسي، ج1، ص61-63. وكذلك التحصين للسيد بن طاووس، ص585-586.


                تعليق


                • #28
                  انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 25

                  ما هو تفسير بكاء الأئمة في فراق الإمام المهدي (عج) الذي لم يولد بعد، مع ملاحظة أنهم يتمتعون بمقام الإمامة أيضاً؟ أليس كذلك بأن الإمام سيطبّق بالكامل ذلك الدين الذي قام بتبليغه جميع الأنبياء والأوصياء وكانت بغيتهم تطبيقه وإذاقة الناس طعمه؟ أليس كذلك بأن الأنبياء كانوا يريدون أن يعرف الناس بأنّ هذا النهج الإلهي هو النهج الأمثل للحياة، والإمام سيُبيّن ذلك للناس عملياً والكلّ سيصدقّ به؟
                  ومن جانب آخر، فإنّ من الطرق الموصلة للاعتقاد بالدين هو الاعتقاد بالموعود والمجتمع المنشود. سيّما في هذا الزمان الذي عمدت المظاهر المادية المغرية في الحضارة الغربية بتهويل إلى أن تعرّف نفسها بأنها هي نفس ذلك المجتمع الموعود. ففي مثل هذه الظروف، يجب التصديّ لإظهار عيوب هذه الحضارة الغربية عبر بيان خصائص المجتمع المهدوي الذي يمثل حالتنا المنشودة، وذلك لإنقاذ الأفكار من الوقوع في فخ هذه الحضارة الزائفة ولهدايتهم إلى الحضارة الإسلامية الأصيلة.
                  فلو تُبيّنُ الحضارة المهدوية وخصائصها لأولئك المولعين والوالهين والخائبين في الوقت ذاته بالحضارة الغربية (الذي ولعوا بالمبادئ الإنسانية السارية في شعارات الحضارة الغربية وذاقوا كذلك الطعم المرّ لكذبها وزيفها)، سيُدركون محاسنها قبل الآخرين لا محالة، ويؤمنون بدين الإسلام بسبب هذه النهاية الحسنة أفضل وأسرع من غيرهم.

                  أثر توجه الطبقة المتوسطة في المجتمع الغربي إلى الموعود

                  إنّ الذين يؤمنون بدين الإسلام قد يتخذون هذا الدين لأسباب بسيطة. كما قيل أن معظم الزنوج في سجون أمريكا قد اعتقنوا الإسلام. فإنّ النزوع نحو دين الإسلام في أوج الشدة واليأس ومن أجل تسكين الروح لا قيمة له بذلك المعنى. في حين أننا لو استطعنا أن نهدي الطبقة المتوسطة في المجتمع الغربي إلى الموعود، تلك التي كانت قد علّقت آمالها على الشعارات ووصلت عملياً إلى بطلانها وهي مستعدّة لاستبدال الحضارة الغربية بفكر جديد، فقد زعزعنا أسس الحضارة الغربية في الرأي العام.
                  وفي هذا الطريق لا ينبغي أن ننتظر اقتناع بعض المثقفين المغتربين في الداخل ثم التصدي لتنوير الرأي العام في العالم؛ لأنّ من هو في معرض النور، وتجده قابعاً في الظلمة، فإنه قد لا يصل إلى النور إطلاقاً.

                  إش?الات في طريق الاعتقاد بالموعود (تحقق الوضع المنشود)


                  لابد من الاعتراف بأن الاعتقاد بتحقق الوضع المنشود مقرون بالصعوبات. فبغضّ النظر عن رفض غير المعتقدين الذين يستهزؤون بكل النداءات الإلهية الغيبية، هناك أناس متذرّعون مرتابون يتسبّبون دوماً إطالة الحوارات والنقاشات. فإنهم وإن يوجبون تنمية علمية كاذبة ويُنعشون سوق البحوث العلمية إنعاشاً ليس بالمفيد كما ينبغي، ولكنهم يبعّدون طريق الوصول إلى المقصد؛ ولو كان الرأي العام في متناول أيديهم لعمدوا وبكل وقاحة إلى زرع الشك والريب في قلوب الناس.
                  وبالإمكان الاستماع إلى آخر الاحتجاجات الصادرة عن أمثال هؤلاء الناس وصدّ آخر مقاومتهم من خلال استعراض الأدلة الكافية، ولكن لا عجب إن استمروا في رفضهم (لأنه لا يُتوقّع من المتذرّعين سوى ذلك) ولابد من الاكتفاء بإنقاذ الناس من إشاعتهم للشبهات. فإنّ التذرّع لعدم الإيمان بالوعود الإلهية، سنة سيئة في القلوب المريضة التي قد لا تستيقظ بتاتاً.

                  دراسة إشكالين اعتقاديين

                  ومن أجل إزالة الإشكالات الاعتقادية، لابد في البدء من تحجيم أرضيات التذرع؛ ولا يتيسّر ذلك إلا بتنمية المعرفة وبسطها. وفيما يلي نستعرض معاً بعض هذه الإشكالات ليمكننا اجتيازها بشكل أمثل:
                  الإش?ال الأول: لو كان ذلك المجتمع الموعود ممكن التحقيق، فهل سيتحقق عبر الالتزام بكل المبادئ التي كان قد التزم بها الرسول الأكرم (ص) وأوصياؤه (ع)؟ المبادئ التي توصل استخدام القوة إلى الحد الأدنى والمرونة إلى الحد الأعلى؛ المبادئ التي تستلزم مراعاة الكرامة الإنسانية والتي يؤدي الالتزام بها إلى إتاحة الفرصة لاستغلال المنافقين وتأثير عناد الكافرين. (وبالطبع كلنا يعلم أن الالتزام بنفس هذه المبادئ هو الذي سبب أن يتعرض المعصومون (ع) للظلم، ولكنه آل في نهاية المطاف إلى اتضاح أحقيتهم؛ ومعلوم أيضاً أن الالتزام بنفس هذا المبادئ قد وهب للمجتمع المهدوي أهمية بالغة ولانتظاره قيمة متزايدة.)
                  ولو كان من المقرر أن يتحقق المجتمع المهدي عبر الالتزام بتلك المبادئ، ألا يكون الحق مظلوماً للمرة الثانية؟ ولو أننا نسمع بأن الإمام سيستخدم السيف لاستئصال شأفة أعداء الدين،[1] ألا يعتبر ذلك نقضاً لتلك المبادئ؟
                  قد لا يبدو هذا الإشكال وجوابه مهماً في الوهلة الأولى، غير أنّ أهمية هذه المسألة تظهر عندما نعرف أن البعض – كما جاء في الروايات – ينحرف ويتهم الإمام بالخشونة والقساوة لأنه لا يحمل تحليلاً صحيحاً عن سبب شدة الإمام في تعامله مع المنافقين.[2]
                  تكمن أهمية مثل هذه الأسئلة والأجوبة في أننا لو أدركنا زمن حضور الإمام وسمعنا بشدة الإمام في تعامله مع المنافقين، سنحمل تحليلا صحيحاً عن ذلك لئلا نقع في تلك الانحرافات ولا نتهم الإمام بالخشونة والعياذ بالله.
                  الإجابة على هذا السؤال، تميط اللثام عن إمكانية تحقق ثورة الإمام وحكومته ومراحل تشكيلها وإرساء قواعدها (وتُنمّي المعتقدات في هذا المجال)، وتكشف السر أيضاً عن مظلومية أولياء الله؛ السرّ الذي يلعب دوراً هاماً في فهم الدين بشكل صحيح، ومعرفته تحول دون تكرار هذه الظلامات.

                  يتبع إن شاء الله...

                  [1]. يقول الإمام الباقر (ع) حول الإمام الثاني عشر: «إِذَا قَامَ سَارَ بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) إِلَّا أَنَّهُ يُبَيِّنُ آثَارَ مُحَمَّدٍ وَيَضَعُ السَّيْفَ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ هَرْجاً هَرْجاً حَتَّى رَضِيَ اللَّهُ.» الغغŒبة للنعماني، ص164. وقال في رواية أخرى: «سُنَّةٌ مِنْ مُوسَى وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَى وَسُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (ص) ... وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (ص) فَالْقِيَامُ بِسِيرَتِهِ وَتَبْيِينُ آثَارِهِ ثُمَّ يَضَعُ سَيْفَهُ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ فَلَا يَزَالُ يَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللَّهِ حَتَّى يَرْضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» ?مال الدغŒن وتمام النعمة، ج1، ص329.
                  وفي طريق العودة من حرب الجمل، أخذ أمير المؤمنين (ع) يتحدث عن الفتن في ضمن الإجابة على أسئلة الناس، حتى قال رجل آخر فقال: ثُمَّ مَا يَكُونُ بَعْدَ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: «ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ يُفَرِّجُ الْفِتَنَ بِرَجُلٍ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ بِأَبِي ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ فَلَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ هَرْجاً هَرْجاً يَضَعُ السَّيْفَ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَدَّتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ ذَلِكَ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنِي مَقَاماً وَاحِداً قَدْرَ حَلْبِ شَاةٍ أَوْ جَزْرِ جَزُورٍ لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ بَعْضَ الَّذِي يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَقُولُ قُرَيْشٌ لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ لَرَحِمَنَا فَيُغْرِيهِ اللَّهُ بِبَنِي أُمَيَّةَ فَيَجْعَلُهُمْ مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.» الغارات، ج1، ص3. وكذلك نهج البلاغه، الخطبة 93؛ والغغŒبة للنعماني، ص229، ح11، مع اختلاف يسير.
                  [2]. راجع الرواغŒات الواردة في الهامش ص ؟؟؟.

                  تعليق


                  • #29
                    انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 26

                    وعلى سبيل المقدمة ولاتضاح السؤال أكثر، نقول بأن من الأسس المهمة في دين الإسلام هي مراعاة كرامة الإنسان، إلى درجة يمكن أولاً أن يترعرع المنافقون في المجتمع الديني، (وهم الذين يُبطنون الكفر ويُظهرون الإيمان والإسلام.) وأولياء الله بكرمهم يُغلقون أبواب التجسّس والإفشاء من خلال علم الغيب أو بعض المعلومات الطبيعية ويسترون عيوبهم عبر التعامل معهم إنسانياً. وثانياً تُتاح للمنافقين الفرصة بأن يصولون في المجتمع الديني ويُحبطون بعض تدابير أولياء الله. ويكتفي أولياء الله أيضاً في الأغلب بالإفشاء العام وتنمية البصيرة ولا يشيرون بأصابع الكلام إليهم مباشرة إلّا إذا كشف المنافقون الستار عن وجوههم الحقيقية أو تسببوا لأن تُهدِّد المجتمع الديني أخطارٌ جسيمة.
                    ومن الطبيعي في ظلّ هذا المنهج، أن ينحرف الضعاف من المؤمنين بواسطة المنافقين بسهولة، وأن يستولي اليأس واللبس على عامة الناس أيضاً متأثرين بهذه الأجواء السائدة.
                    وهناك أيضاً وجه آخر للاهتمام بكرامة الإنسان وهو المهلة التي يُمهلها الله لعامة الناس من أجل أن يميزوا الحق عن الباطل بفكرهم وطينتهم الطاهرة. فإن فرصة التفكير والتحليل التي يوفّرها الله للناس هي ضرب من ضروب تكريم الإنسان، وإن كان أولياء الله يحتملون أنواع المظلومية في هذا الطريق.

                    منهج القرآن: ذكر علامات المنافق

                    واحدة من مصاديق هذا الإمهال في مسألة مراعاة كرامة الإنسان في صدر الإسلام، هو عدم إفشاء أسماء المنافقين. فقد أشار القرآن الكريم إلى علامات المنافقين[1] ولم يذكر أسماءهم في مجتمع المدينة الصغير. إلّا أنّ المنافقين كانوا قلقين من أن يفضحهم الله عبر الوحي.[2]

                    اتباع النبي (ص) المنهج القرآني

                    وقد اتبع النبي الأكرم نفس هذا المنهج، فكان يشير إلى المصاديق بالتلميح على وجه العموم وبالتصريح على وجه الخصوص. ومن الأمثلة البارزة لهذا الأسلوب في التعامل هو قضية اغتيال النبي (ص) الفاشل عند عودته من غزوة تبوك:
                    في طريق العودة من غزوة تبوك، تآمر جمع من المنافقين على اغتيال النبي (ص) وذلك بإسقاطه من أعلى الجبل. فأخبر جبرئيل الأمين النبي (ص) بهذه المؤامرة. فوضع رجلين من أصحابه حماية له، وأحبطوا مؤامرة المنافقين وعرفوا المتآمرين بأجمعهم حيث كانوا من وجوه المدينة، وأرادوا مجازاتهم على صنيعهم هذا فمنعم النبي من ذلك ولم يسمح لهم بذكر أسمائهم.[3]
                    فواصل هؤلاء المنافقون مسيرتهم وبقيت لهم مكانتهم المرموقة في المجتمع الإسلامي المدني، ودبّروا خططاً أخرى وطبقوا بعض مؤامراتهم واكتسبوا نجاحاً ملحوظاً في النيل من الحق. وهذا ما هو مشهود في عهد أمير المؤمنين (ع) أيضاً ولابد من التعرض لذلك في البحث عن سيرته السياسية.
                    والسؤال المهم هنا هو أنّ من يريد أن يحكم بهذه الطريقة، وأن يراعي كرامة الناس إلى هذا المستوى، فهل ستستمر حكومته؟ ولو أن الإمام المهدي (عج) سينتهج نهج النبي (ص) في حكومته، فهل هو أمر ممكن التحقق؟ وهل ستدوم حكومته؟

                    النفاق أحد العوارض الطبيعية لسيادة القيم في المجتمع

                    والمسألة المهمة التي يجدر الاهتمام بها إضافة إلى ما ذُكر، هي أنّ النفاق يعتبر من بدايات العوارض الطبيعية لسيادة القِيم في المجتمع. فإنّ المبادئ والقيم إذا سادت في مجتمع ما، سواء كانت سيادة ثقافية (شيوع القيم في المجتمع) أو حكوميه، ستؤول بالتالي إلى ظهور النفاق.
                    لأنّ من لا يؤمن بقيم المجتمع، ينساق إلى التظاهر والنفاق من أجل الحفاظ على موقعه ومكانته الاجتماعية. ورغم أنه يرفض المبادئ، يظهر بمظهر إنسان مبدئي مدافع عن القيم والمبادئ. أو أنه يساير المبادئ ظاهرياً على أقل تقدير، ولكن من الواضح أنه لا يستطيع مواصلة الطريق. فيبدأ بالتذرّع وتوجيه الضربات الخفية. علماً بأن للنفاق أقسام وحدّ أدنى وأعلى ولابد من التعرض لذلك في محله، ولكن على أيّ حال فإن النفاق ظاهرة مشؤومة يبتلي بها كل مجتمع مبدئي بصورة طبيعية.

                    في المجتمع المبدئي المهدوي، كيف تُقتلع جذور النفاق؟

                    والإمام المهدي (عج) الذي سيؤسّس مجتمعاً مبدئياً دينياً على صعيد العالم، من الطبيعي أن يكون العارض الأول لهذا المجتمع هو النفاق. ومن جانب آخر فإن الإمام سيقوم باجتثاث النفاق في نفس هذه الحكومة الدينية، كما نقرأ في دعاء الندبة: «أَينَ هَادِمُ أَبْنِيةِ الشِّرْكِ وَالنِّفَاق؟»[4]، ونقرأ أيضاً في ليالي شهر رمضان: «اَللّهُمَّ اِنَّا نَرْغَبُ إِلَيك في‏ دَوْلَةٍ ?ريمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الْأِسْلامَ وَأَهْلَهُ وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَأَهْلَهُ.»[5]
                    فإن كان نهج وسيرة أولياء الله في التعامل مع النفاق، هو عدم إفشاء سرّ المنافق وفضحه، ففي هذا الحالة كيف سيتم «اجتثاث» أساس النفاق؟ كيف يُذَلّ النفاق؟ كيف يمكن تحقيق هذه المسألة إلى جانب الحفاظ على كرامة الإنسان؟

                    صفات المؤمنين، سبب لعدم افتضاح المنافقين

                    بالإضافة إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين في المجتمع الديني، يتحلّون بصفات يؤدي بعضها إلى خفاء وعدم اكتشاف ضروب من النفاق. وعلى سبيل المثال، إذا كان المؤمن لا يبحث عن مقام وجاه وشهرة وسمعة إلّا إذا اضطّر لتقبل المسؤولية أداءً للتكليف، سيقوى احتمال وقوع المناصب بيد الشخص الحريص. وإن كان المؤمن يغضّ الطرف عن أخطاء الآخرين أو حتى يتبنّى أخطاءهم، سيتوفّر احتمال تأخّر افتضاح أهل النفاق المحيطين به. وإذا كان المؤمن مخلصاً يعمل لوجه الله ولا يريد أن تُكتب باسمه إنجازاته الحسنة، فلربّما تُسجّل خدماته باسم غيره. وإن كان المؤمن حَيِيّاً ولا يتصيّد أخطاء الآخرين، فمن الواضح في ظلّ مكارم أخلاقه أن تُتاح الفرصة لظهور مكائد المنافقين.

                    يتبع إن شاء الله...

                    [1]. تعرض القرآن ال?ريم في سورة المنافقون والآية 49 - 74 من سورة التوبة، لبيان علامات المنافقين.
                    [2]. ( يحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما في‏ قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ. ) سورة التوبة، الآية 64.
                    [3]. الميزان، ج9، ص325 - 349، في ذيل الآية 64 - 74 من التوبة. تعرض العلامة الطباطبائي في ذيل هذه الآيات إلى بحث تفسيري وروائي مبسوط. وفيما يلي نشير إلى ما استخلصه العلامة من هذه الآيات قائلاً: «فيتلخص من الآيات أن جماعة ممن خرج مع النبي (ص) تواطؤوا على أن يمكروا بالنبي (ص)، وأسروا عند ذلك فيما بينهم بكلمات كفروا بها بعد إسلامهم ثم هموا أن يفعلوا ما اتفقوا عليه بفتك أو نحوه فأبطل الله كيدهم وفضحهم وكشف عنه...»
                    [4]. مفاتيح الجنان، دعاء الندبة. وأيضاً إقبال الأعمال للسيد بن طاووس، ص297.
                    [5]. مقطع من دعاء الافتتاح الوارد عن الإمام الكاظم (ع) الذي يُقرؤ في ليالي شهر رمضان المبارك، تهذيب الأح?ام، ج3، ص110. وكذلك جزء من خطبة الجمعة الواردة عن الإمام الباقر (ع)، ال?افي، ج3، ص424.

                    تعليق


                    • #30
                      انتظار العوام، انتظار العلماء، انتظار العرفاء 27

                      في مثل هذه الظروف، كيف ستدوم حكومة الإمام المهدي (عج)؟ وإن كانت الفرصة مؤاتية لصولة المنافقين، ومن الممكن أن يجتمع عدد من المنافقين الانتهازيين لهدم كل الجهود. فهل يمكن تحقق المجتمع المهدوي رغم هذه المشاكل؟ وكيف يمكن أن لا ينمو النفاق في عهد الإمام بل يُذلّ أيضاً مع حفظ كرامة الإنسان؟
                      الجواب هو أن «الالتزام برعاية الكرامة الإنسانية» كان وسيكون واحداً من خصائص الأئمة المعصومين (ع). غير أن افتضاح النفاق وذلته سيتحقق إثر أدلة أخرى. فبصيرة الناس من جانب، وكثرة الخواص الصالحين من جانب آخر، بالإضافة إلى شدة الإمام في التعامل مع الخواص الصالحين المحيطين به والذين هم من ولاته، توجب ذلة المنافقين وافتضاحهم.
                      إذا تم التعامل مع الولاة بشدة، لا يلجأ أحد للنفاق طمعاً للوصول إلى المقام. وإذا كثُر عدد الخواص الصالحين، لا يستطيع الخواص الطالحون أن يضغطوا على وليّ الأمر للوصول إلى مآربهم. وإذا كان الناس من أهل البصائر، سيفتضح أدنى ما يقوم به شخص من تصرّف نفاقيّ، ولا حاجة عندئذ لاكتشاف النفاق إلى إفشاء أسمائهم من قبل الإمام. وعند ذلك لا يسوغ الترحّم على المنافقين؛ لأنهم من جانب كانت لديهم الفرصة الكافية لاختيار الطريق الصحيح، ومن جانب آخر، يحق للناس الذين تحلّوا بالبصيرة وعرفوا المنافقين أن يعيشوا بسلام واستقرار عبر القضاء عليهم. فقد حُفظت كرامة المنافقين لأن الفرصة كانت متوفرة لديهم وهم الذين فضحوا أنفسهم، ولوحظت كرامة عامة الناس أيضاً لأنهم هم الذين اتّصفوا بالبصيرة وفضحوا المنافقين.

                      في زمن الظهور، تتهيأ الأرضية لمواجهة المنافقين

                      فلو شاهدنا أن الإمام يعمل في الظاهر على خلاف سيرة آبائه الطاهرين، فليس دليله بأن تلك الأسس قد ارتفعت، بل لأن الأرضية قد تهيأت لتطبيق أسس أخرى؛[1] ومن أهم تلك الأسس، هي تطبيق حكم الله بشأن المنافقين حيث قال: (يا أَيهَا النَّبِي جاهِدِ الْ?ُفَّارَ وَالْمُنافِقينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ! ) [2] ، ولو أن الجهاد مع المنافقين والغلظة عليهم قلّما نشهدها في صدر الإسلام، فإن ذلك ناجم من قلبة البصيرة عند الناس وقلة الخواص العارفين.[3] وهذان العاملان يمثلان جزءاً من أسرار وأسباب مظلومية أولياء الله.
                      الإش?ال الثاني: أساساً لا يتحقق الوضع المنشود بالكامل في ظل حكومة الموعود إلّا إذا انتهج الناس كلهم النهج الإلهي. بيد أنّ التجربة التاريخية لحياة البشر تكشف بأن أكثر الناس لا يخضعون للأوامر الإلهية. فيكيف أنهم سيتبعون الحق بعد ظهور الإمام بصورة شاملة وثابتة، ويعبّدون الطريق لاستقرار الحكومة الموعودة واستدامتها؟ هل ستتغير ذائقة الناس تغييراً غريزياً خاصاً، أم أنّ الخوف من حاكمية الدين تسلب منهم التجرؤ على المعصية؟ وبعبارة أخرى، هل ستسلب قدرة التفكير ضد الحق، أم سترتفع أرضية الحديث عن الآراء الباطلة من الأساس؟
                      يكمن الجواب عن هذه الأسئلة في سرّ حاكمية الحق. ولعل أهم سرّ لحاكمية الولاية الإلهية المطلقة هو أن المكر والجور سينقضي أمدهما في ظلّ هذه الحكومة سيما إذا وصلت إلى ذروة اقتدارها، وانقضاء فترة الطغيان وتحرّر الناس من أسر الطواغيب يوجب تعبيد الطريق لهدايتهم. وفي مثل هذه الأوضاع، سيتقبّل أكثر الناس الحق عقلاً وقلباً وبصورة طبيعية جداً وسيتخذون تلقائياً موقفاً صحيحاً تجاه الدين؛ ذلك الموقف الذي تقتضيه الفطرة ويؤكّد عليه الأنبياء.

                      حا?مية الطاغوت، سبب أ?ثر الانحرافات

                      على أساس هذا التحليل، فإنّ سبب أكثر الانحرافات والمزلات في الوقت الحاضر، هو عدم حاكمية الحق وبتعبير أدق، حاكمية الطاغوات. وقد صرّح القرآن بذلك معتبراً بأن الطاغوت أشدّ وقعاً على الناس من الكفر حيث قال: ( وَالَّذينَ ?َفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَي الظُّلُماتِ.) [4]
                      وإذا ما نظرنا اليوم إلى ساحة الفكر والعلم، لوجدنا بوضوح أنّ العلم لم يسلك طريقه الطبيعي، وأنّ هذه الأفكار الباطلة لم تتبلور إثر التفكير البشري. ولو أمعنّا النظر، لوجدنا أنّ الأفكار اللاإنسانية واللادينية هي إما وليدة هيمنة الطواغيت الفاسدين والمفسدين أو نتيجة غير مباشرة للفساد والظلم الذي أحلّوه بالمجتمعات البشرية. وغالباً ما نجد العلم والفكر على مرّ التاريخ رازحاً تحت سيطرة الجائرين وعبّاد الأموال، وكلّما اقتضت الظروف، استخدموا العلم وسيلة لتحقيق مطامعهم والوصول إلى مآربهم.

                      الحرية الكاملة تحت ظل حاكمية الولاية

                      وعندما يصل الناس إلى الحرية الكاملة على أثر حاكمية الولاية، وتوضع عن أفكارهم الأغلال والسلاسل،[5] يتفكرون ويتحدثون بشكل صحيح. وفي هذه الصورة تقترب المسافة من شمس الحقيقة ويغطّي النور الخافقين. ولا تبقى إلّا الخفافيش الميّالة إلى الظلمة التي انتهجت سوء التفكير لمرض في قلبها. فهم حينما لا يجدون موقعاً لهم في أوساط أهل البصائر، سيختمون على أفواههم الثرثارة ولا يبقى مجال لمهاتراتهم التي لا طائل من ورائها في المجتمع.
                      ولابد أن يعنى بهذه المسألة كل من ينزع إلى الأدب والثقافة طلباً للراحة؛ وهي أنه لا يمكن هداية الخلق من دون السعي لإقامة حكومة الحق؛ ولا يمكن بسط المعرفة والمعنوية من دون إمساك زمام الحكم. فإن دائرة تأثير أي جهد لهداية الناس في عهد حكومة الطاغوت محدودة للغاية.

                      يتبع إن شاء الله...

                      [1].عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: «قُلْتُ لَهُ: صَالِحٌ مِنَ الصَّالِحِينَ سَمِّهِ لِي - أُرِيدُ الْقَائِمَ (ع) - فَقَالَ: اسْمُهُ اسْمِي. قُلْتُ: أَيَسِيرُ بِسِيرَةِ مُحَمَّدٍ (ص)؟ قَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ يَا زُرَارَةُ. مَا يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ. قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لِمَ؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) سَارَ فِي أُمَّتِهِ بِاللِّينِ [بِالمِنًّةِ]، كَانَ يَتَأَلَّفُ النَّاسَ، وَالْقَائِمُ (ع) يَسِيرُ بِالْقَتْلِ، بِذَلِكَ أُمِرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي مَعَهُ، أَنْ يَسِيرَ بِالْقَتْلِ وَلَا يَسْتَتِيبَ أَحَداً، وَيْلٌ لِمَنْ نَاوَاهُ.» الغيبة النعماني، ص231.
                      وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ: «لَسِيرَةُ عَلِيٍّ (ع) فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَانَتْ خَيْراً لِشِيعَتِهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ. إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ لِلْقَوْمِ دَوْلَةً فَلَوْ سَبَاهُمْ لَسُبِيَتْ شِيعَتُهُ. قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْقَائِمِ (ع) يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ؟ قَالَ: لَا، إِنَّ عَلِيّاً (ع) سَارَ فِيهِمْ بِالْمَنِّ لِلْعِلْمِ مِنْ دَوْلَتِهِمْ، وَإِنَّ الْقَائِمَ عَجَّلَ اللَّهُ فَرَجَهُ يَسِيرُ فِيهِمْ بِخِلَافِ تِلْكَ السِّيرَةِ، لِأَنَّهُ لَا دَوْلَةَ لَهُمْ.» ال?افي، ج5، ص33.
                      وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُون‏ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) جَالِساً فَسَأَلَهُ مُعَلَّى بْنُ خُنَيْسٍ: أَ يَسِيرُ الْقَائِمُ (ع) بِخِلَافِ سِيرَةِ عَلِيٍّ (ع)؟ قَالَ: «نَعَمْ وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيّاً سَارَ بِالْمَنِّ وَالْكَفِّ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ شِيعَتَهُ سَيُظْهَرُ عَلَيْهِمْ [مِنْ بَعْدِهِ] وَإِنَّ الْقَائِمَ إِذَا قَامَ، سَارَ فِيهِمْ بِالسَّيْفِ وَالسَّبْيِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ شِيعَتَهُ لَمْ يُظْهَرْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.» تهذيب الأح?ام، ج6، ص154؛ الغيبة للنعماني، ص232.
                      علماً بأن بعض الروايات تشير إلى أن الإمام يعمل على سيرة رسول الله (ص) أو أمير المؤمنين (ع) في موضوع معين. (كالأحاديث الواردة في الهامش ص ؟؟؟) وبأدنى تأمّل يتضح أن لا تعارض بين هاتين الطائفتين من الروايات ويمكن الجمع بينهما. فإن الإمام (ع) يسير في بعض المسائل على سيرة النبي (ص) ويخالفه في البعض الآخر لتوافر أرضية تطبيق بعض الأحكام والأسس التي لم تكن متوافرة آنذاك. والروايات الواردة في الهامش ص ؟؟؟، قد تؤيّد هذا الرأي.
                      [2].سورة التوبة، الآية 73.
                      [3].فعلى سبيل المثال، قال رسول الله (ص) في سبب عدم مجازاة المتآمرين على قتله: «أَ?ْرَهُ أَنْ يتَحَدَّثَ النَّاسُ وَيقُولُوا إِنَّ مُحَمَّداً قَدْ وَضَعَ يدَهُ فِي أَصْحَابِهِ.» وذلك لفقدان البصيرة عند الناس. إعلام الوري، ص123. وأمير المؤمنين أيضاً لم يتعامل بشدة مع المنافقين حفظاً لشيعته، وأما في زمن ظهور الإمام الحجة (عج)، فسيتم التعامل مع المنافقين كالفكار، فعن الإمام الباقر (ع): «ثُمَّ يدْخُلُ الْ?ُوفَةَ فَيقْتُلُ بِهَا ?ُلَّ مُنَافِقٍ مُرْتَاب.» الإرشاد للمفيد،ج2،ص384. وعن الإمام الصادق (ع): «لَا يقْتُلُ أَحَداً مِنْهُمْ إِلَّا ?َافِرٌ أَوْ مُنَافِقٌ.» بحار الأنوار، ج52، ص386.
                      [4].سورة البقره، الآية 257.
                      في خصوص معنى الآية، أشكل البعض بأن الكافر كيف يكون له نور أو أنه في نور حتى يُخرجه الطاغوت من النور إلى الظلمة. يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، في ذيل هذه الآية: «... لكن يمكن أن يقال: إن الإنسان بحسب خلقته على نور الفطرة، هو نور إجمالي يقبل التفصيل، وأما بالنسبة إلى المعارف الحقة والأعمال الصالحة تفصيلاً فهو في ظلمة بعد لعدم تبين أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية.» الميزان، ج‏2، ص364.
                      ويقول آية الله الشيخ مكارم الشيرازي: «يمكن أن يقال أنّ الكفّار ليس لهم نور فيخرجوا منه، ولكن مع الالتفات إلى أنّ نور الإيمان موجود في فطرتهم دائما فينطبق عليه هذا التعبير انطباقاً كاملاً.» الأمثل، ج2، ص266.
                      ويقول آية الله الشيخ جوادي الآملي في تفسير هذه الآية: «ثمرة التمسّك بالعروة الوثقى، هي الإيمان الأمثل والنور، ونتيجة تقبل ولاية الطاغوت، هي ازدياد الكفر والظلمة. فإنّ الله يتولّى المؤمنين ويدفع أو يرفع عنهم الظلمة؛ أما الطاغوت الذي هو عدوّ للمؤمن والكافر، فهو يُلقي درس الطغيان ويرفع بذلك نور الفطرة ويدسّ الكافر في الظلمة.» تفسير تسنيم، ج12، ص194.
                      [5]. ( يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِمْ. ) سورة الأعراف، الآية 157.


                      تعليق

                      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                      حفظ-تلقائي
                      Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
                      x
                      يعمل...
                      X