أضاء نور الإيمان في تلك البيوت والأزقة المتواضعة التي لا تملك في هذه الدنيا إلّا هذا الإيمان الراسخ الذي لم يزلزله الفقر أو الفاقة
.
بيوت تستنشق من أحجارها رائحة الابتلاء الذي تلازم مع الحبّ الولائي لأمير المؤمنين عليه السلام..
يمتزج بهذه الرائحة عبق الصبر الجميل الذي ثبتت به جدران هذه البيوت..
ماذا يوجد خلف هذه الجدران؟
هناك نسوة يمسكنَ بحبال الصبر المعقود بوتد الإيمان..
نساء اتخذنَ من آسيا بنت مزاحم سلاحاً للوقوف بوجه الطغيان..
واتخذنَ من شجاعة السيّدة الزهراء عليها السلام ودفاعها عن الحق جلباباً لبسنه كدرع ضد رصاص الظلم..
واتخذنَ من صبر السيّدة زينب عليها السلامقوتاً نبت منه لحمهنّ ودمهنّ وعظامهنّ..
فماذا كانت النتيجة؟
أنجبنَ أبطالاً أدوا أدوار البطولة في معركة الطف الجديدة..
فقد ارضعنَ أولادهنّ شجاعة الحسين عليه السلام في الوقوف بوجه الباطل..
وغيرة العباس عليه السلام في الحفاظ على الشرف والعزّ والكرامة..
جعلوا أنفسهم طوعاً لسيّدهم ووالدهم الحنون..
قبل أن يشير استعدوا.. وقبل أن ينطق نفّذوا..
وقبل أن يأمر استشهدوا..
هذا ما أنجبته نساؤنا اللواتي وقفنَ وقفة العقيلة الحوراء عليها السلام في ملحمتها التاريخية الخالدة..
ذهبنا في جولة معهنّ:
سأذهب معك
نجا من الموت المحقق ثلاث مرات، ثم حملوه إليها جريحاً، فلم يثنِ هذا من عزمها أو يقلّل من إيمانها حبة خردل، فكانت ترعاه بقلبها بكلّ حنو
وبكلّ إصرار على أن يعود مرة أخرى إلى سوح القتال لينال إحدى الحسنيين، تراءى لنا وميض كلماتها وهي تشع نوراً من أعماقها وهي تخاطبه:
هذه المرة سأذهب معك بعد أن تتعافى لعلّ الله تعالى يرزقني الشهادة أو لأشهد موتك في سبيل الفتوى، فأكون قد شاركت سيّدة الصبر في مصابها،
أليست هذه ملحمة الطفوف، فلماذا لا أكون كمثل تلك الأم التي قُتل زوجها فدفعت بابنها للقتال، وحينما قُتل قاتلت الأعداء وهي ترتجز:
أنا عجوز سيّدي ضعيفة
أضربكم بضربة عنيفة
خاوية بالية نحيفة
دون بني فاطمة الشريفة
ضريح جدّي في خطر:
سيّدة من بيت علوي ترقرقت الدموع في عينيها وهي تستقبل سؤالنا: ماذا قلتِ لزوجك حينما عاد جريحاً؟
خنقتها العَبرة وهي تجيب
:
قلت له:" اذهب للدفاع عن ضريح جدّي" تضحياتنا لإمامنا ولمقدّساتنا ولديننا وللمذهب، فما هو الداعي لوجودنا إن لم ندافع عن هذه المقدسات؟
كلماتها كانت تنتفض حروفها التي اختلطت بعبراتها، نظراتها كانت خجولة خوفاً من التقصير بحقّ الفتوى المقدّسة، لم تُجدِ كلماتنا نفعاً أمام هذا
العشق الجنوني لآل الرسول عليهم السلام.
الفتوى أعطتنا الفرصة:
كانت يداها مخضبة من جراح زوجها وهي تفخر بذلك، وكأنها تستذكر صرخة السيّدة زينب عليها السلام: "اللهم تقبل منّا هذا القربان"
كانت تغمرها فرحة كونها تُساهم في كسب الأجر والثواب الذي فتحت الفتوى بابه على مصراعيه، استغربت حينما سألناها،
هل ستشجعينه على الذهاب مرة أخرى؟
أجابت:
نحن نطلب الثواب والأجر، ولا يوجد أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل، والفتوى أعطتنا الفرصة لذلك, ونحن بانتظار أن يشفى
ليعود إلى إخوانه في ساحات الجهاد والعزّ.
هؤلاء هنّ بنات السيّدة الزهراء عليها السلام، وربيبات السّيّدة زينب عليها السلام اللواتي عشنَ واقع الطف بشكل ملموس, وأخذن بأحضانهنّ
أبطاله, والتحفنَ بعطاياه, وتعلمنَ من دروسه ما جعلنه دستوراً لحياتهنّ, ووقفنَ لأزواجهنّ كما وقفن زوجات زهير وحبيب ووهب وأُمّه.
تعليق