إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الفقر مراتبه وثوابه عند الله عز وجلّ

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفقر مراتبه وثوابه عند الله عز وجلّ

    الفقر مراتبه وثوابه عند الله عز وجلّ

    الفقير) إما أن يكون راغباً في المال محباً له، بحيث لو وجد إليه سبيلا لطلبه، ولو بالتعب والمشقة، وإنما ترك طلبه لعجزه منه، ويسمى هذا فقيراً (حريصاً).
    أو يكون وجود المال أحب إليه من عدمه، ولكن لم يبلغ حبه له حداً يبعثه على طلبه، بل إن أتاه بلا طلب أخذه وفرح به، وان افتقر إلى سعي في طلبه لم يشتغل به، ويسمى هذا فقيراً (قانعاً).
    أو يكون بحيث لا يحبه ولا يرغب فيه، ويكره وجوده ويتأذى به، ولو أتاه هرب منه، مبغضاً له ومحترزاً عن شره، ويسمى هذا فقيراً (زاهداً). فاعراضه عنه وعدم سعيه في محافظته وضبطه لو وجده، إن كان لخوف العقاب فهو (فقر الخائفين). وإن كان لشوق الثواب فهو (فقر الراجين). وإن كان لعدم التفاته اللازم لاقباله على الله تعالى بشراشره من دون غرض دنيوي أو آخروي فهو (فقر العارفين).
    أو يكون بحيث لا يحبه حباً يفرح بحصوله ولا يكرهه كراهة يتأذى بها ويزهد فيه، بل يستوى عنده وجوده وعدمه، فلا يفرح بحصوله ولا يتأذى بفقده، بل كان راضياً بالحالتين على السواء، وغنياً عن دخوله وبقائه وخروجه من يده، من غير خوف من الاحتياج إذا فقد، كالحريص والقانع، ولا حذار من شره واضراره إذا وجد كالزاهد. فمثله لو كانت اموال الدنيا باسرها في يده لم تضره، إذ هو يرى الأموال في خزانة الله لا في يد نفسه، فلا تفريق بين أن تكون في يده أو في يد غيره، فيكون بحيث يستوى عنده المال والهواء المخلوق في الجو، فكما أن كثرة الهواء في جواره لا يؤذيه، ولا يكون قلبه مشغولا بالفرار عنه ولا يبغضه، بل يستنشق منه بقدر الضرورة، ولا يبخل به على احد، فكذلك كثرة المال لا يؤذيه ولا يشغل قلبه، ويرى نفسه وغيره فيه على السواء في المالكية.
    ومثله ينبغي أن يسمى (مستغنياً راضياً)، لاستغنائه عنه وجوداً وعدماً، ورضائه بالحالتين من دون تفاوت، ومرتبته فوق الزاهد، إذ غاية درجة الزهد كمال الأبرار، وصاحب هذه المرتبة من المقربين، فالزهد في حقه نقصان، إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين. والسر فيه: أن الزاهد كاره للدنيا، فهو مشغول بالدنيا، كما أن الراغب فيها مشغول بها والشغل بما سوى الله حجاب عن الله، سواء كان بالحب أو بالبغض. فكل ما سوى الله، كالرقيب الحاضر في مجلس جمع العاشق والمعشوق. فكما أن التفات قلب العاشق إلى الرقيب وبغضه وكراهته حضوره نقص في العشق، فكذلك التفات قلب العبد إلى غير الله تعالى وبغضه. وكراهته نقصان في الحب والأنس، كما أن التفاته بالحب نقص فيهما. إذ كما لا يجتمع في قلب واحد حبان في حالة واحدة، فكذلك لا يجتمع فيه حب وبغض في حالة واحدة، فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله كالمشغول بحبها، وإن كان الثاني أسوأ حالا من الآخر. إذ المشغول بحبها غافل في غفلته، سالك في طريق البعد، والمشغول ببغضها غافل، هو في غفلته سالك في طريق القرب، فيحتمل زوال غفلته وتبدلها بالشهود، فالكمال مرتقب له، إذ بغض الدنيا مظنة توصل العبد إلى الله.
    وهرب الأنبياء والأولياء من المال، وفرارهم عنه، وترجيحهم فقده على وجوده ـ كما أشير إليه في بعض الأخبار والآثارـ: إما نزول منهم إلى درجة الضعفاء ليقتدوا بهم في الترك، إذ الكمال في حقهم حب الترك وبغض الوجود، لأن مع وجوده يتعذر في حقهم استواء وجوده وفقده وكونه عندهم كماء البحر، فلو لم يظهر الأنبياء النفار والكراهة من المال ويقتدي الضعفاء بهم في الأخذ لهلكوا. فمثل النبي كمثل المعزم الحاذق، يفر بين يدي أولاده من الحية، لا لضعفه عن أخذها، بل لعلمه بأنه لو اخذها لأخذها أولاده أيضاً إذا رأوها؛ وهلكوا. فالسير بسيرة الضعفاء صفة الأنبياء والاوصياء. أو غير الهرب والنفار اللازمين للبغض والكراهة وخوف الاشتغال به، بل كان نفارهم منه كنفارهم من الماء، على معنى أنهم شربوا منه بقدر حاجتهم، وتركوا الباقي في الشطوط والأنهار للمحتاجين، من غير اشتغال قلوبهم بحبه وبغضه. ألا ترى أنه قد حملت خزائن الأرض إلى رسول الله وخلفائه، فأخذوها ووضعوها في موضعها، من غير هرب منه وبغض له، وذلك لاستواء المال والماء والحجر والذهب عندهم.
    ثم تسمية صاحب هذه المرتبة بالفقير والمستغني لا يوجب التنافي، إذ إطلاق الفقير عليه لمعرفته بكونه محتاجاً إليه تعالى في جميع أموره عامة وفي بقاء استغنائه عن المال خاصة، فيكون اسم الفقير له كاسم العبد لمن عرف نفسه بالعبودية وأقر بها، فانه أحق باسم العبد من الغافلين، وإن كان عاماً للخلق، ثم كل مرتبة من المراتب المذكورة للفقر، ما عدا الأخيرة، أعم من أن يكون بالغاً حد الاضطرار، بأن يكون ما فقده من المال مضطراً إليه، كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب، أم لا.
    وأنت، بعد ما فهمت اشتراك الفقر بين المعاني المذكورة، لم يشكل عليك الجمع بين ما ورد في مدح الفقر ـ كما يأتي ـ وبين ما ورد في ذمه، كقوله (ص): " كاد الفقر أن يكون كفراً "، وقوله (ص): " الفقر الموت الأكبر ". وقول أمير المؤمنين (ع): " من ابتلى بالفقر فقد ابتلى بأربع خصال: بالضعف في يقينه، والنقصان في عقله، والرقة في دينه، وقلة الحياء في وجهه فنعوذ بالله من الفقر! ".


    مراتب الفقر ومدحه
    قد عرفت أن بعض مراتب الفقر راجع إلى الزهد، وبعضها إلى ما هو فوقه، اعني الرضى والاستغناء، وبعضها إلى القناعة. ففضيلة هذه المراتب ظاهرة، والأخبار الواردة في فضيلة الزهد والرضى والقناعة تدل على فضيلة المراتب المذكورة من الفقر. وأما المرتبة الأولى المتضمنة للحرص، فهو أيضاً لا يخلو عن فضيلة بالنظر إلى الغنى المتضمن له والأخبار الواردة في مدح الفقر تتناول بعمومها جميع مراتبه، قال الله سبحانه:
    " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم[1]. وقال: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله... " الآية[2].
    ساق الله سبحانه الكلام في معرض المدح، وقدم وصفهم بالفقر على وصفهم بالهجرة والإحصار، وفيه دلالة جلية على مدح الفقر[3]. وقال (ص): " خير هذه الأمه فقراؤها، وأسرعها تصعداً في الجنة ضعفاؤها ". وقال (ص): " اللهم احيني مسكيناً وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين ". وقال (ص): إن لي حرفتين اثنتين، فمن أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني: الفقر والجهاد ". وقال (ص): " الفقر، أزين للمؤمنين من العذار الحسن على خد الفرس ". وسئل عن الفقر، فقال: " خزانة من خزائن الله ". وسئل عنه ثانياً، فقال: " كرامة من الله ". وسئل عنه ثالثاً، فقال: " شيء لا يعطيه إلا نبياً مرسلا أو مؤمناً كريماً على الله ". وقال (ص): " إن في الجنة غرفة من ياقوتة حمراء، ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء، لا يدخل فيها إلا نبي فقير أو مؤمن فقير ". وقال: " يوم فقراء أمتى يوم القيامة وثيابهم خضر، وشعورهم منسوجة بالدر والياقوت، وبايديهم قضبان من نور يخطبون على المنابر، فيمر عليهم الأنبياء، فيقولون: هؤلاء من الملائكة، وتقول الملائكة: هؤلاء من الأنبياء فيقولون: نحن لا ملائكة ولا انبياء! بل من فقراء أمة محمد (ص)، فيقولون: بم نلتم هذه الكرامة؟ فيقولون: لم تكن أعمالنا شديدة، ولم نصم الدهر، ولم نقم الليل، ولكن أقمنا على الصلوات الخمس، وإذا سمعنا ذكر محمد فاضت دموعنا على خدودنا " وقال (ص): " كلمني ربي فقال: يا محمد، إذا احببت عبداً اجعل له ثلاثة اشياء: قلبه حزيناً، وبدنه سقيما، ويده خالية من حطام الدنيا. وإذا أبغضت عبداً، اجعل له ثلاثة اشياء: قلبه مسروراً وبدنه صحيحاً، ويده مملوة من حطام الدنيا ". وقال (ص): " الناس كلهم مشتاقون إلى الجنة، والجنة مشتاقة إلى الفقراء ". وقال (ص): " الفقر فخري " وقال (ص): " تحفة المؤمن في الدنيا الفقر " وقال (ص): " يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيعتذر الله تعالى إليه كما يعتذر الأخر إلى أخيه في الدنيا، فيقول: وعزتي وجلالي! ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي، ولكن لما أعددت لك من الكرمة والفضيلة. اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف، فمن أطعمك في أو كساك في يريد بذلك وجهي، فخذ بيده فهو لك والناس يومئذ قد ألجمهم العرق. فيتخلل الصفوف. وينظر من فعل ذلك به ويدخله الجنة ". وقال (ص): " أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي، فان لهم دولة "، قالوا: يا رسول الله، وما دولتهم؟ قال: " إذا كان يوم القيامة، قيل لهم: انظروا إلى من اطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوباً، فخذوا بيده ثم امضوا به إلى الجنة ". وقال (ص): " ألا اخبركم بملوك أهل الجنة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله! قال: " كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذى طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره ". ودخل (ص) على رجل فقير، ولم ير له شيئاً، فقال: " لو قسم نور هذا على أهل الأرض لوسعهم ". وقال (ص): " إذا أبغض الناس فقراءهم، وأظهروا عمارة الدنيا، وتكالبوا على جمع الدراهم والدنانير، رماهم الله بأربع خصال: بالقحط من الزمان، والجور من السلطان، والجناية من ولاة الحكام، والشوكة من الأعداء"[4].
    وورد من طريق أهل البيت (ع): " إن الله تعالى إذا أحب عبداً ابتلاه، فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه. قيل: وما اقتناه؟ قال: لم يترك له أهلا ولا مالا ". وقال أمير المؤمنين (ع): " وكل الرزق بالحمق، ووكل الحرمان بالعقل، ووكل البلاء بالصبر " وقال الباقر (ع): " إذا كان يوم القيامة، أمر الله تعالى منادياً ينادي بين يديه: أين الفقراء؟ فيقوم عنق من الناس كثير، فيقول: عبادي! فيقولون: لبيك ربنا! فيقول: إني لم أفقركم لهون بكم علي، ولكن إنما اخترتكم لمثل هذا اليوم. تصفحوا وجوه الناس، فمن صنع إليكم معروفاً لم يصنعه إلا في فكافوه عني بالجنة " وقال الصادق (ع): " لولا إلحاح المؤمنين على الله في طلب الرزق، لنقلهم من الحال التي هم فيها إلى حال أضيق منها ". وقال (ع): " ليس لمصاص[5] شيعتنا في دولة الباطل إلا القوت، شرقوا إن شئتم أو غربوا، لن ترزقوا إلا القوت ". وقال (ع): " ما كان من ولد آدم مؤمن إلا فقيراً ولا كافر إلا غنياً، حتى جاء إبراهيم (ع)، فقال:
    " ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا "[6].
    فصير الله في هؤلاء أموالا وحاجة ". وقال (ع): " إن فقراء المؤمنين يتقلبون في رياض الجنة قبل اغنيائهم بأربعين خريفاً ". ثم قال: " سأضرب لك مثل ذلك: انما مثل ذلك مثل سفينتين مر بهما على عاشر، فنظر في إحداهما فلم ير فيها شيئاً، فقال: اسربوها. ونظر في الأخرى، فإذا هي موقرة، فقال: احبسوها ". وفي بعض الأخبار فسر الخريف بألف عام، والعام بألف سنة. وعلى هذا، فيكون المراد من أربعين خريفاً أربعين الف الف عام. وقال الصادق (ع): " المصائب منح من الله، والفقر مخزون عند الله ": أي المصائب عطايا من الله يعطيها عباده، والفقر من جملتها مخزون عنده عزيز لا يعطيه إلا من خصه بمزيد العناية. وقال (ع): " إن الله عز وجل يلتفت يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين شبيهاً بالمعتذر إليهم، فيقول: وعزتي وجلالي! ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم علي، ولترون ما أصنع بكم اليوم، فمن زود منكم في دار الدنيا معروفاً فخذوا بيده فأدخلوه الجنة "، قال " فيقول رجل منهم: يا رب، إن أهل الدنيا تنافسوا في دنياهم، فنكحوا النساء، ولبسوا الثياب اللينة، وأكلوا الطعام وسكنوا الدور، وركبوا المشهور من الدواب. فأعطنى مثل ما أعطيتهم. فيقول تبارك وتعالى: لك ولكل عبد منكم مثل ما أعطيت أهل الدنيا منذ كانت الدنيا إلى أن انقضت الدنيا سبعون ضعفاً ". وقال (ع): " إن الله جل ثناؤه ليعتذر إلى عبده المؤمن المحوج في الدنيا كما يعتذر الأخ إلى أخيه، فيقول: وعزتي وجلالي! ما أحوجتك في الدنيا من هوان كان بك على فارفع هذا السجف، فانظر إلى ما عوضتك من الدنيا. قال: فيرفع، فيقول: ما ضرني ما منعتني ما عوضتني ". وقال (ع): " إذا كان يوم لقيامة قام عنق من الناس حتى يأتوا باب الجنة، فيضربوا باب الجنة فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن الفقراء، فيقال لهم: اقبلوا الحساب فيقولون: ما أعطيتمونا شيئاً تحاسبونا عليه، فيقول الله عز وجل: صدقوا، ادخلوا الجنة ". وقال ـ لبعض اصحابه :" أما تدخل للسوق؟ أما ترى الفاكهة تباع والشيء مما تشتهيه؟ فقلت: بلى! فقال: أما إن لك بكل ما تراه فلا تقدر على شراه حسنة ". وقال الكاظم (ع): " إن الله عز وجل يقول: إن لم اغن الغني لكرامة به علي، ولم أفقر الفقير لهوان به علي، وهو مما ابتليت به الأغنياء بالفقراء، ولولا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة "[7]. وقال (ع): " إن الأنبياء وأولاد الأنبياء واتباع الأنبياء خصوا بثلاث خصال: السقم في الأبدان وخوف السلطان، والفقر ". وقال الرضا (ع): " من لقى فقيراً مسلما وسلم عليه خلاف سلامه على الغني، لقى الله يوم القيامة وهو عليه غضبان ". وقال (ع): " الفقر شين عند الناس وزين عند الله يوم القيامة " وقال موسى (ع) في بعض مناجاته: " إلهي من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك؟ فقال: كل فقير " وقال عيسى (ع): " إن أحب الأسامي إلي أن يقال: يا مسكين " وقال بعض الصحابة: " ملعون من أكرم الغني وأهان الفقير ". وقال لقمان لابنه: " لا تحقرن أحداً لخلقان ثيابه، فان ربك وربه واحد ".
    ومما يدل على فضيلة الفقر، إذا كان مع الرضى أو القناعة أو الصبر أو الصدق أو الستر، قوله (ص): " يا معشر الفقراء: اعطوا الله الرضى من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم، فان لم تفعلوا فلا ثواب لكم ". وقوله (ع): " إن احب العباد إلى الله الفقير القانع برزقه الراضي عن الله تعالى ". وقوله (ص): " لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضياً "، وقوله (ص): " يقول الله تعالى يوم القيامة: أين صفوتي من خلقي؟ فتقول الملائكة: من هم يا ربنا؟ فيقول: فقراء المسلمين القانعين بعطائي الراضين بقدري، ادخلوهم الجنة. فيدخلونها، ويأكلون ويشربون، والناس في الحساب يترددون ". وقوله (ص): " ما من أحد، غني ولا فقير، إلا ود يوم القيامة انه كان أوتى قوتا في الدنيا " وقوله (ص): " طوبى للمساكين بالصبر! وهم الذين يرون ملكوت السماوات والأرض ". وقوله (ص): " من جاع أو احتاج، فكتمه عن الناس وافشاه إلى الله تعالى، كان حقاً على الله ان يرزقه رزق السنة من الحلال". وقوله (ع): " إن لكل شيء مفتاحاً، ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء الصابرين وهم جلساء الله يوم القيامة ". وما روى: " ان الله أوحى إلى إسماعيل (ع): " اطلبني عند المنكسرة قلوبهم من أجلى. قال: ومن هم؟ قال الفقراء الصادقون ". وقال رسول الله (ص) لأمير المؤمنين (ع): " يا علي، إن الله جعل الفقر أمانة عند خلقه، فمن ستره أعطاه الله تعالى مثل أجر الصائم القائم، ومن أفشاه إلى من يقدر على قضاء حاجته فلم يفعل فقد قتله أما إنه ما قتله بسيف ولا رمح ولكنه قتله بما نكأ من قلبه ".
    ثم لا ريب في أن كل من لم يجد القوت من التعفف وستر احتياجه هذا وصبر ورضى يكون داخلا تحت هذه الأخبار وتثبت له الفضيلة التي وردت فيها، ولا ريب في أن هذه صفة لا توجد في الف الف واحد.
    وأما الفقير الحريص الذي يظهر فقره ويجزع معه، فظاهر بعض الأخبار وإن تناوله، إلا أن الظاهر خروجه منها كما أومأت إليه بعض الأخبار المذكورة وإن كان أحسن حالا من الغني الذي مثله في الحرص.


    (الموازنة بين الفقر والغنى)
    لا ريب في أن الفقر مع الصبر والقناعة وقصد الفراغ أفضل من الغنى مع الحرص والامساك، كما لا ريب في أن الغنى مع الأنفاق وقصد الاستعانة على العبادة أفضل من الفقر مع الحرص والجزع، وإنما وقع الشك في الترجيح بين الفقر والغنى في مواضع:
    (الأول) في الترجيح بين الفقر مع الصبر، والقناعة والغنى مع الأنفاق، وقصد الاستعانة على العبادة، فقال قوم إن الأول أفضل، لما روى: " أن رسول الله (ص) قال لاصحابه: أي الناس خير؟ فقالوا: موسر من المال يعطى حق الله تعالى من نفسه وماله، فقال نعم الرجل هذا وليس به المراد، قالوا فمن خير الناس يا رسول الله؟ فقال: فقير يعطي جهده " وما روى: " أن الفقراء بعثوا رسولا إلى رسول الله (ص) فقال: إني رسول الفقراء إليك، فقال: مرحباً بك وبمن جئت من عندهم، جئت من عند قوم أحبهم، فقال: قالوا إن الأغنياء ذهبوا بالجنة يحجون ولا نقدر عليه، ويعتمرون ولا نقدر عليه، وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم، فقال النبي (ص): بلغ عنى الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للاغنياء: أما (الأولى) فان في الجنة غرفا ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء، لا يدخلها إلا نبي فقير، أو شهيد فقير، أو مؤمن فقير، (والثانية) يدخل الفقراء الجنة قبل الاغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام. (والثالثة) إذا قال الغني: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر، وقال الفقير مثل ذلك، لم يلحق الغنى بالفقير وإن انفق فيها عشرة آلاف درهم، وكذلك أعمال البر كلها، فرجع إليهم، فقالوا رضينا ".
    وقال آخرون: الثاني أفضل، لأن الغنى من صفات الربوبية، والفقر من لوازم العبودية، ووصف الحق أفضل من وصف العبد.
    (واجيب عنه) بأن غنى الواجب سبحانه ليس بالأسباب والأغراض وغنى العبد بهما إذ هو غني بوجود المال ومفتقر إلى بقائه، فأنى يكون الغنى الذي يتصف العبد به من أوصاف الربوبيه، نعم الغنى بمعنى الاستغناء من وجود المال وعدمه جميعاً بأن يستوي كلاهما عنده يشبه أوصاف الحق، إلا أنك قد عرفت أنه نوع من الفقر، وبأن التكبر من أوصاف الربوبية، فينبغي أن يكون أفضل من التواضع، مع أن الامر ليس كذلك، بل الحق أن الأفضل للعبد إنما هو صفات العبودية كالخوف والرجاء، إذ صفات الربوبية لا ينبغي أن ينازع فيها، ولذلك قال الله سبحانه: " والعظمة ازارى، والكبرياء ردائي، فمن نازعنى فيهما قصمته ". وعلى هذا فالفقر أفضل من الغنى.
    والحق أن ترجيح واحد من صفات الربوبية وصفات العبودية على الآخر للعبد على الإطلاق غير صحيح، إذ كما ينتقض ترجيح الأولى على الثانية بالتكبر ينتقض العكس بالعلم والمعرفة والجهل والغفلة، فان العلم من صفات الربوبية، والجهل من صفات العبودية، مع أن الأول أفضل من الثاني ضرورة.
    والحق أن الأفضل من الفقر والغنى مالا يشغل العبد عن الله، فإن كان الفقر يشغله فالغنى أولى به، وإن كان الغنى يشغله عن الله فالفقر أولى به، وذلك لأن الغنى ليس محذوراً بعينه، بل لكونه عائقاً عن الوصول إلى الله، والفقر ليس مطلوبا لذاته، بل لعدم كونه عائقاً عن الله، وليس مانعية الأول وعدم مانعية الثاني كلياً، إذ رب فقير يشغله الفقر عن المقصد وكم من غني لا يصرفه الغنى عنه، إذ الشاغل ليس إلا حب الدنيا لمضادته حب الله تعالى، والمحب للشىء مشغول به، سواء كان في وصاله أو في فراقه. فاذن فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبهما بالمال وجوداً وعدماً، فان تساويا فيه تساوت درجتهما. وإن تفاوتا فيه فأيهما أقل تعلقاً درجته أعلى وأفضل، بل مع وجود تعلق لهما وتساويهما فيه يكون وجود قدر الحاجة من المال أفضل من فقده، إذ الجائع يسلك سبل الموت لا سبيل المعرفة والطاعة، ومع عدم تعلق قلبهما أصلا بحيث يستوي عندهما وجود المال وعدمه كان المال عندهما كهواء الجو وماء البحر ـ وبالجملة حصلت لهما المرتبة الأخيرة من الفقر، أعني الاستغناء والرضا ـ كان الواجد أفضل من الفاقد، لاستوائهما في عدم الالتفات إليه، ومزية والواجد باستفادة ادعية الفقراء والمساكين. ثم الحكم بانقطاع القلب رأساً عن المال وجوداً وعدماً إنما يتصور في الشاذ النادر الذي لا يسمح الدهر بمثله إلا بعد ازمنة متطاولة، وقلوب جل الناس غير خالية عن حب المال والتعلق به فتفصيل القول بأفضلية من هو أقل تعلقاً بالمال، واستواء درجتهما مع استوائهما في التعلق، ومزية الواجد على الفاقد مع انقطاع قلبهما بالكلية عنه مزلة الأقدام وموضع الغرور، إذ الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبه دفيناً في باطنه وهو لا يشعر به، وانما يشعر به إذا فقده، فما عدا الأنبياء والأولياء وشرذمة قليلة من أكابر الأتقياء لو ظنوا انقطاعهم عن الدنيا إذ جربوا أنفسهم باخراج المال من أيديهم يظهر لهم أنهم مغرورون وليس لهم تمام الانقطاع عن الدنيا، وإذا كان ذلك محالا أو بعيداً فليطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الناس وافضل، لإنه عن الخطر أبعد، إذ فتنة السراء من فتنة الضراء اشد، وعلاقة الفقير وانسه بالدنيا غالباً اضعف، وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب أذكاره وعبادته، إذ حركات اللسان والجوارح ليست مرادة لاعيانها بل ليتأكد بها الأنس بالمذكور وتأثيرها في إثارة الأنس في قلب فارغ عن غير المذكور أشد من تأثيرها في قلب مشغول، ولهذا وردت الأخبار مطلقة في فضل الفقر على الغنى، وفي فضل الفقراء على الأغنياء.
    (الثاني) في الترجيح بين الفقر مع الحرص والجزع، والغنى مع الحرص والامساك. والتحقيق فيه أن مطلوب الفقير إن كان ما لا بد منه في المعيشة وكان حرصه في تحصيل هذا القدر دون الزائد منه وكان قصده الاستعانة به على الدين، وكذا كان حرص الغني وامساكه في هذا القدر بهذا القصد، فحال الوجود أفضل لأن الفقد يصده عن أمور الدين لاضطراره في طلب القوت، وهو اولى بالتفضيل إذا كان قصد الغني ذلك وكان مطلوب الفقير فوق الحاجة، أو قدر الحاجة بدون قصد الاستعانة به إلى امر الدين. وان كان مطلوب كل منها فوق الحاجة أو لم يكن قصدهما الاستعانة به على امر الدين، فالفقد اصلح وأفضل، لانهما استويا في احرص وحب المال، وفي عدم قصد الاستعانة به على الدين، لكنهما افترقا في ان الواجد يتأكد حب الدنيا في قلبه، ويطمئن إليها لأنسه بها، والفاقد يتجافى قلبه عنها اضطراراً، أو تكون الدنيا عنده كالسجن الذي يطلب الخلاص منه. وهو أولى وأحرى بالتفضيل، إذا كان قصد الفقير ذلك وكان قصد الغني فوق الحاجة، أو قدر الحاجة بدون الاستعانة به على أمر الدين.
    (الثالث) في الترجيح بين فقير حريص متكالب على الدنيا ليس له هم سواه، وغني هو دونه في الحرص على حفظ المال، وتفجعه بفقد المال لو فقده أقل من تفجع الفقير بفقده، والظاهر حينئذ كون الفقير اسوأ حالا، إذ البعد عن الله بقدر قوة التفجع بفقد المال، والقرب بقدر ضعف التفجع به.

    [1] الحشر، الآية: 8.

    [2] البقرة، الآية: 273.

    [3] قال المحقق (الفيض) في (إحياء الأحياء): " لا دلالة في الآيتين على مدح الفقر، وانما سيقتا لبيان ان مصرف المال انما هم الفقراء المتصفون بهذه الصفات ".

    [4] هذه الأخبار كلها عامية، فصححناها على (إحياء العلوم)، و(إحياء الأحياء).

    [5] المصاص: خالص كل شيء. قاله الجوهري.

    [6] الممتحنة، الآية: 5.

    [7] صححنا اغلب الأحاديث المروية عن أهل البيت (ع) في هذا الفصل على (الكافي): باب الفقر. وعلى (سفينة الحار) 2/377. وعلى (إحياء الأحياء): كتاب الفقر.






    مقتبس من كتاب جامع السعادات




  • #2
    يا علي يانورك سبب فتح عجايب وأسباب

    اللهم صل على محمد وآله الطيبين الطاهرين

    النور الولائي الطيب / تقوى القلوب



    اللهم بحق شأن الامام الضامن الثامن تقضى كل حوائجكم للدنيا والآخرة

    أشكر طرحكم القيم

    الامام علي عليه السلام يقول:

    ( لا غنى كالعقل)

    ( القناعة كنز لا يفنى )

    اللهم اجعلنا من القانعين العاقلين

    دمتم للمنتدى بالعطاء والارتقاء
    sigpic

    تعليق


    • #3
      جزاكم الله خير الجزاء

      تعليق


      • #4
        حياكم الله اخوتي
        جزيتم خيرا



        تعليق

        المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
        حفظ-تلقائي
        Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
        x
        يعمل...
        X