بسم الله الرحمن الرحيم .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين (اللهم صل على محمد وآل محمد) واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .
لقد عاثت الأقلام المأجورة فساداً في التأريخ فمزقت صفحات الحقيقة والواقعية وكتبت تأريخاً مكذوباً مزوراً لكي تصدق به الأجيال اللاحقة .
ولم يكتفوا بذلك بل بيضوا الوجوه التي سودها التأريخ قبل التزوير ، وسودوا الوجوه التي بيضها التأريخ قبل التزوير .
ولكن يأبى الله أن تخفى الحقيقة عن الناس فسرعان ما يسطع شعاعها وإن غطيت بحجاب الكذب والتزوير .
وهذا ما حصل فعلا للمرأة التي تسمى بزرقاء اليمامة فإلى الآن وفي كتب المدارس يعلمون الأطفال على أن زرقاء اليمامة من النساء النادرات التي تمتلك القوى الخارقة ويصورونها بمنظر حسن ، بينما هي في الواقع امرأة يهودية عدوة لله سبحانه وتعالى وللدين الإسلامي الحنيف ، وقد حاولت إيقاع عبد الله والد النبي (صلى الله عليه وآله) في مصيبة كبيرة ، كما دفعت المال من أجل إغتيال والدة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن طريق خادمتها ، لعلمها بأن المولود سيمحي دين اليهود والمسيح .
والعجيب في الأمر أن يتهم بعض ممن يحسبون على الإسلام بأن والدي رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) كافران وقد ماتا على الكفر ومصيرهما إلى النار والعياذ بالله .
فمع الأسف الشديد أين وصل بنا الأمر في عمى البصر والبصيرة بسبب التصديق بالأخبار المزورة والموضوعة التي أدخلت في صفحات التأريخ .
روي أنه : ( ... أراد عبد الله يتزوج بآمنة بنت وهب ، وكان نور النبي صلى الله عليه وآله في وجهه ، وأن الزرقاء نظرت إليه وقد نزل بقصر من قصور اليمامة ، وذهب أبوه عبد المطلب في حاجة وتركه عند متاعه وسيفه عند رأسه ، فنزلت الزرقاء مسرعة ، وفي يدها كيس من الورق ، فوثبت عليه ثم قالت له : يا فتى حياك الله بالسلام ، وجللك بالانعام ، من أي العرب أنت ؟ فما رأيت أحسن منك وجها " ، قال : أنا عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، سيد الاشراف ، ومطعم الأضياف ، سادات الحرم ، ومن لهم السابقة في القدم ، فقالت : فهل لك يا سيدي من فرحتين عاجلتين ؟ قال : وما هما ؟ قالت : تجامعني الساعة ، وتأخذ هذه الدراهم ، وأبذل لك مائة من الإبل محملة تمرا " وبسرا " وسمنا "، فلما استتم كلامها قال : إليك عني ، فما أقبح صورتك يا ويلك ، أما علمت أنا قوم لا نركب الآثام ، اذهبي ، وتناول سيفا " كان عنده فانهزمت ورجعت خائبة ، فأقبل أبوه فوجده وسيفه مسلول وهو يقول شعرا :
أنرتكب الحرام بغير حل *** ونحن ذووا المكارم في الأنام .
إذا ذكر الحرام فنحن قوم *** جوارحنا تصان عن الحرام .
فقال له أبوه : يا ولدي ما جرى عليك بعدي ؟ فأخبره بخبره ، ووصف له صفاتها فعرفها ، وقال له : يا بني هذه زرقاء اليمامة ، قد نظرت إلى النور الذي في وجهك يلوح ، فعرفت أنه الشرف الوكيد ، والعز الذي لا يبيد ، فأرادت أن تسلبه منك ، والحمد لله الذي عصمك عنها ، ثم رحل به إلى مكة ، وزوجه بآمنة بنت وهب ، فلما رأته الزرقاء عرفته ، وعلمت أنه تزوج ، فقالت : ألست صاحبي باليمامة في يوم كذا ؟ قال لها : نعم ، فلا أهلا " بك ولا سهلا " ، يا ابنة اللخناء ، قالت : أين نور الذي كان في غرتك ؟
قال : في بطن زوجتي آمنة بنت وهب ، قالت : لا شك أنها لذلك أهل ، ثم نادت برفيع صوتها : يا ذوي العز والمراتب إن الوقت متقارب ، وإن الامر لواقع ، ما له من دافع ، فتفرقوا عني ، فقد جاء المساء ، وفي الصباح يسمع مني الاخبار ، وأوقفكم على حقيقة الآثار، فتفرقوا عنها .
قال : فلما مضى من الليل شطره مضت إلى سطيح ، وقد خرج من مكة فقالت له : ما ترى ؟
قال: أرى العجب ، والوقت قد قرب ، وحدثها بما قد جرى من قريش، قالت له: ما تشير به علي ؟ قال لها : أما أنا فقد كبر سني ولولا خيفة العار لأمرت من يريحني من الحياة ، ولكني سأذهب إلى الشام ، وأقيم بها حتى يأتيني الحمام ، فإنه لا طاقة لي به ، فإنه المؤيد المنصور ، ومن يعاديه مقهور ، قالت : يا سطيح وأين أعوانك؟ لم لا يساعدونك على هذا الامر، و يعينونك على هلاك آمنة قبل أن يخرج من الأحشاء ؟ قال لها : يا زرقاء وهل يقدر أحد أن يتعرض لآمنة ، فإن من تعرض لها عاجله التدمير ، من اللطيف الخبير ، أما أنا وأصحابي فلا نتعرض لها ، والآن أنصحك ، فإياك أن تصلي إلى آمنة ، فإن حافظها رب السماوات والأرض، فإن لم تقبلي، نصيحتي فدعيني وما أنا عليه، فلعلي أموت الليلة أو غدا "، فلما سمعت مقالته أعرضت عنه، وباتت ليلتها ساهرة، فلما أصبح الصباح أقبلت إلى بني هاشم، وقالت: أنعم الله لكم الصباح، لقد أشرفت بكم المحافل ، ووفقتم، إذ ظهر فيكم المنعوت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فيا ويل من يعاديه ، وطوبى لمن اتبعه ، فلم يبق أحد من بني هاشم إلا فرح بما ذكرت الزرقاء، ووعدوها بخير ، فقالت لهم: لست محتاجة إلى مال ولا رفاد ، ولكن ما جئت من الأقطار إلا لأخبركم بحقيقة الأخبار ، فقال أبو طالب: قد وجب حقك علينا، فهل لك من حاجة؟ قالت:
نعم، أريد أن تجمع بيني وبين آمنة حتى أتحقق ما أخبركم به، قال: سمعا " وطاعة "، فجاء بها إلى منزل آمنة، فطرق الباب، فقامت آمنة لفتح الباب فلاح من وجهها نور ساطع، وضياء لامع فسقطت الزرقاء حسدا "، وأظهرت تجلدا "، فلما دخلت المنزل أتوها بطعام فلم تأكل، وقالت: سوف يكون لمولودكم هذا عجب عجيب، وسوف تسقط الأصنام، وتخمد الأزلام، وينزل على عبادها الدمار، ويحل بهم البوار ، ثم إنها خرجت من المنزل متفكرة في قتل آمنة، وكيف تعمل الحيلة، وجعلت تتردد إلى سطيح وتطلب منه المساعدة، فلم يلتفت إليها ولا إلى قولها، فأقبلت حتى نزلت على امرأة من الخزرج اسمها تكنا ، وكانت ماشطة لآمنة، فلما كان في بعض الليالي استيقظت تكنا فرأت عند رأس الزرقاء شخصا " يحدثها، ويقول:
كاهنة اليمامة * جاءت بذي تهامةستدرك الندامة * إذا أتاها من له العمامة فلما سمعت الزرقاء ذلك، وثبت قائمة، وقالت له: لقد كنت صاحب الوفاء، فلم حبست نفسك عني هذه المدة، فإني في هموم متواترات، وأهوال وكربات، فقال لها:
يا ويلك يا زرقاء لقد نزل بنا أمر عظيم، لقد كنا نصعد إلى السماء السابعة، ونسترق السمع، فلما كان في هذه الأيام القليلة طردنا من السماء، وسمعنا مناديا " ينادي في السماوات: إن الله قد أراد أن يظهر المكسر للأصنام، ومظهر عبادة الرحمن، فامتنعوا جملة الشياطين من السماء، وتحدرت علينا ملائكة بأيديهم شهب من نار، فسقطنا كأننا جذوع النخل، وقد جئتك لأحذرك، فلما سمعت كلامه قالت له: انصرف عني، فلابد أن أجتهد غاية المجهود، في قتل هذا المولود، فراح عنها وهو يقول:
إني نصحتك بالنصيحة جاهدا " * فخذي لنفسك واسمعي من ناصح لا تطلبي أمرا " عليك وباله * فلقد أتيتك باليقين الواضح هيهات أن تصلي إلى ما تطلبي * من دون ذلك عظم أمر فادح فالله ينصر عبده ورسوله * من شر ساحرة وخطب فاضح عودي إلى أرض اليمامة واحذري * من شر يوم سوف يأتي كادح ثم إنه طار عنها، وتكنا تسمع ما جرى بينهما، وكأنها لم تسمع ما جرى، فلما أصبحت جلست بين يدي الزرقاء فقالت: ما لي أراك مغمومة؟ قالت لها: يا أختاه إن الذي نزل بي من الهموم والغموم لخروجي من الأوطان، وذهابي من البلدان، وتشتتي في كل مكان، وتفردي عن الخلان، قالت لها: ولم ذلك؟ قالت لها: يا ويلك من حامل مولود ، يدعو إلى أكرم معبود، يكسر الأصنام، ويذل السحرة والكهان، يخرب الديار، ولا يترك بمكة أحدا " من ذوي الابصار، وأنت تعلمين أن القعود على النار، أيسر من الذل والصغار، فلو وجدت من يساعدني على قتل آمنة بذلت له المنا، وأعطيته الغنا ، وعمدت إلى كيس كان معها فأفرغته بين يدي تكنا ، وكان مالا " جزيلا "، فلما نظرت تكنا إلى المال لعب بقلبها، وأخذ بعقلها ، وقالت لها: يا زرقاء لقد ذكرت أمرا " عظيما "، وخطبا " جسيما "، والوصول إليه بعيد، وإني ماشطة لجملة نساء بني هاشم، ولا يدخل عليهن غيري، ولكن سوف أفكر لك فيما ذكرت، وكيف أجسر على ما وصف، والوصول إلى ما ذكرت، قالت الزرقاء: إذا دخلت على آمنة وجلست عندها فاقبضي على ذؤائبها، واضربيها بهذا الخنجر، فإنه مسموم، فإذا اختلط الدم بالسم هلكت، فإذا وقع عليك تهمة، أو وجب عليك دية فأنا أقوم بخلاصك، وأدفع عنك عشر ديات غير الذي دفعته إليك في وقتي هذا، فما أنت قائلة؟ قالت: إني أجبتك، لكن أريد منك الحيلة بأن تشغلي بني هاشم عني، قالت الزرقاء: إني هذه الساعة آمر عبيدي أن يذبحوا الذبائح، ويعملوا الخمور، ويطرحوها في الجفان، فإذا أكلوا وشربوا من ذلك ظفرت بحاجتك، قالت لها تكنا : الان تمت الحيلة، فافعلي ما ذكرت، فصنعت الزرقاء ما ذكرت، وأمرت عبيدها ينادون في شوارع مكة أن يجمعوا الناس، فلم يبق أحد إلا وحضر وليمتها من أهل مكة، فلما أكلوا وشربوا وعلمت أن القوم قد خالط عقولهم الشراب أقبلت إلى تكنا وقالت: قومي إلى حاجتك، فقامت تكنا و جاءت بالخنجر ورشت في جوانبه السم، ودخلت على آمنة فرحبت بها آمنة ، و سألتها عن حالها، وقالت: يا تكنا ما عودتيني بالجفاء فقالت: اشتغلت بهمي و حزني، ولولا أياديكم الباسطة علينا لكنا بأقبح حال، ولا أحد أعز علي منك، هلمي يا بنية إلي حتى أزينك، فجائت آمنة وجلست بين يدي تكنا، فلما فرغت من تسريح شعرها عمدت إلى الخنجر وهمت أن تضربها به، فحست تكنا كأن أحدا " قبض على قلبها فغشى على بصرها، وكأن ضاربا " ضرب على يدها فسقط الخنجر من يدها إلى الأرض ، فصاحت : وا حزناه ، فالتفتت آمنة إليها وإذا الخنجر قد سقط من يد تكنا ، فصاحت آمنة فتبادرت النسوان إليها ، وقلن لها : ما دهاك ؟ قالت : يا ويلكن أما ترين ما جرى علي من تكنا ، كادت أن تقتلني بهذا الخنجر، فقلن : يا تكنا ما أصابك ؟
ويلك تريدين أن تقتلي آمنة على أي جرم ؟ فقالت : يا ويلكن قد أردت قتل آمنة ، و الحمد لله الذي صرف عنها البلاء ، فقالت : الحمد لله على السلامة من كيدك يا تكنا ، فقالت لها النساء: يا تكنا ما حملك على ذلك؟ قالت: لا تلوموني ، حملني طمع الدنيا الغرور ، ثم أخبرتهن بالقصة ، وقالت لهن : ويحكن دونكن الزرقاء اقتلنها قبل أن تفوتكن ، ثم سقطت ميتة ، فصاحت النسوان صيحة عالية، فأقبل بنو هاشم إلى منزل آمنة، فإذا بتكنا ميتة، وقد تجلل نور آمنة، ونظروا إلى الخنجر ، وحكوا لهم القصة ، فخرج أبو طالب ينادي : أدركوا الزرقاء وقد وصلها الخبر ، فخرجت هاربة فتبعها الناس من بني هاشم وغيرهم فلم يدركوها ولم يلحقوها ، فسمع أبو جهل ذلك فقال : وددت أنها قتلت آمنة ، ولكن حاد عنها أجلها ، وأرجوا بسطيح أن يعمل أحسن مما عملت الزرقاء ، فلما سمع سطيح بخبر الزرقاء أمر غلمانه أن يحملوه على راحلته، وسافر إلى الشام ) .
بحار الأنوار ، العلامة المجلسي ، ج 15 ، ص 317 - ص 323 .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين (اللهم صل على محمد وآل محمد) واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .
لقد عاثت الأقلام المأجورة فساداً في التأريخ فمزقت صفحات الحقيقة والواقعية وكتبت تأريخاً مكذوباً مزوراً لكي تصدق به الأجيال اللاحقة .
ولم يكتفوا بذلك بل بيضوا الوجوه التي سودها التأريخ قبل التزوير ، وسودوا الوجوه التي بيضها التأريخ قبل التزوير .
ولكن يأبى الله أن تخفى الحقيقة عن الناس فسرعان ما يسطع شعاعها وإن غطيت بحجاب الكذب والتزوير .
وهذا ما حصل فعلا للمرأة التي تسمى بزرقاء اليمامة فإلى الآن وفي كتب المدارس يعلمون الأطفال على أن زرقاء اليمامة من النساء النادرات التي تمتلك القوى الخارقة ويصورونها بمنظر حسن ، بينما هي في الواقع امرأة يهودية عدوة لله سبحانه وتعالى وللدين الإسلامي الحنيف ، وقد حاولت إيقاع عبد الله والد النبي (صلى الله عليه وآله) في مصيبة كبيرة ، كما دفعت المال من أجل إغتيال والدة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن طريق خادمتها ، لعلمها بأن المولود سيمحي دين اليهود والمسيح .
والعجيب في الأمر أن يتهم بعض ممن يحسبون على الإسلام بأن والدي رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) كافران وقد ماتا على الكفر ومصيرهما إلى النار والعياذ بالله .
فمع الأسف الشديد أين وصل بنا الأمر في عمى البصر والبصيرة بسبب التصديق بالأخبار المزورة والموضوعة التي أدخلت في صفحات التأريخ .
روي أنه : ( ... أراد عبد الله يتزوج بآمنة بنت وهب ، وكان نور النبي صلى الله عليه وآله في وجهه ، وأن الزرقاء نظرت إليه وقد نزل بقصر من قصور اليمامة ، وذهب أبوه عبد المطلب في حاجة وتركه عند متاعه وسيفه عند رأسه ، فنزلت الزرقاء مسرعة ، وفي يدها كيس من الورق ، فوثبت عليه ثم قالت له : يا فتى حياك الله بالسلام ، وجللك بالانعام ، من أي العرب أنت ؟ فما رأيت أحسن منك وجها " ، قال : أنا عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، سيد الاشراف ، ومطعم الأضياف ، سادات الحرم ، ومن لهم السابقة في القدم ، فقالت : فهل لك يا سيدي من فرحتين عاجلتين ؟ قال : وما هما ؟ قالت : تجامعني الساعة ، وتأخذ هذه الدراهم ، وأبذل لك مائة من الإبل محملة تمرا " وبسرا " وسمنا "، فلما استتم كلامها قال : إليك عني ، فما أقبح صورتك يا ويلك ، أما علمت أنا قوم لا نركب الآثام ، اذهبي ، وتناول سيفا " كان عنده فانهزمت ورجعت خائبة ، فأقبل أبوه فوجده وسيفه مسلول وهو يقول شعرا :
أنرتكب الحرام بغير حل *** ونحن ذووا المكارم في الأنام .
إذا ذكر الحرام فنحن قوم *** جوارحنا تصان عن الحرام .
فقال له أبوه : يا ولدي ما جرى عليك بعدي ؟ فأخبره بخبره ، ووصف له صفاتها فعرفها ، وقال له : يا بني هذه زرقاء اليمامة ، قد نظرت إلى النور الذي في وجهك يلوح ، فعرفت أنه الشرف الوكيد ، والعز الذي لا يبيد ، فأرادت أن تسلبه منك ، والحمد لله الذي عصمك عنها ، ثم رحل به إلى مكة ، وزوجه بآمنة بنت وهب ، فلما رأته الزرقاء عرفته ، وعلمت أنه تزوج ، فقالت : ألست صاحبي باليمامة في يوم كذا ؟ قال لها : نعم ، فلا أهلا " بك ولا سهلا " ، يا ابنة اللخناء ، قالت : أين نور الذي كان في غرتك ؟
قال : في بطن زوجتي آمنة بنت وهب ، قالت : لا شك أنها لذلك أهل ، ثم نادت برفيع صوتها : يا ذوي العز والمراتب إن الوقت متقارب ، وإن الامر لواقع ، ما له من دافع ، فتفرقوا عني ، فقد جاء المساء ، وفي الصباح يسمع مني الاخبار ، وأوقفكم على حقيقة الآثار، فتفرقوا عنها .
قال : فلما مضى من الليل شطره مضت إلى سطيح ، وقد خرج من مكة فقالت له : ما ترى ؟
قال: أرى العجب ، والوقت قد قرب ، وحدثها بما قد جرى من قريش، قالت له: ما تشير به علي ؟ قال لها : أما أنا فقد كبر سني ولولا خيفة العار لأمرت من يريحني من الحياة ، ولكني سأذهب إلى الشام ، وأقيم بها حتى يأتيني الحمام ، فإنه لا طاقة لي به ، فإنه المؤيد المنصور ، ومن يعاديه مقهور ، قالت : يا سطيح وأين أعوانك؟ لم لا يساعدونك على هذا الامر، و يعينونك على هلاك آمنة قبل أن يخرج من الأحشاء ؟ قال لها : يا زرقاء وهل يقدر أحد أن يتعرض لآمنة ، فإن من تعرض لها عاجله التدمير ، من اللطيف الخبير ، أما أنا وأصحابي فلا نتعرض لها ، والآن أنصحك ، فإياك أن تصلي إلى آمنة ، فإن حافظها رب السماوات والأرض، فإن لم تقبلي، نصيحتي فدعيني وما أنا عليه، فلعلي أموت الليلة أو غدا "، فلما سمعت مقالته أعرضت عنه، وباتت ليلتها ساهرة، فلما أصبح الصباح أقبلت إلى بني هاشم، وقالت: أنعم الله لكم الصباح، لقد أشرفت بكم المحافل ، ووفقتم، إذ ظهر فيكم المنعوت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فيا ويل من يعاديه ، وطوبى لمن اتبعه ، فلم يبق أحد من بني هاشم إلا فرح بما ذكرت الزرقاء، ووعدوها بخير ، فقالت لهم: لست محتاجة إلى مال ولا رفاد ، ولكن ما جئت من الأقطار إلا لأخبركم بحقيقة الأخبار ، فقال أبو طالب: قد وجب حقك علينا، فهل لك من حاجة؟ قالت:
نعم، أريد أن تجمع بيني وبين آمنة حتى أتحقق ما أخبركم به، قال: سمعا " وطاعة "، فجاء بها إلى منزل آمنة، فطرق الباب، فقامت آمنة لفتح الباب فلاح من وجهها نور ساطع، وضياء لامع فسقطت الزرقاء حسدا "، وأظهرت تجلدا "، فلما دخلت المنزل أتوها بطعام فلم تأكل، وقالت: سوف يكون لمولودكم هذا عجب عجيب، وسوف تسقط الأصنام، وتخمد الأزلام، وينزل على عبادها الدمار، ويحل بهم البوار ، ثم إنها خرجت من المنزل متفكرة في قتل آمنة، وكيف تعمل الحيلة، وجعلت تتردد إلى سطيح وتطلب منه المساعدة، فلم يلتفت إليها ولا إلى قولها، فأقبلت حتى نزلت على امرأة من الخزرج اسمها تكنا ، وكانت ماشطة لآمنة، فلما كان في بعض الليالي استيقظت تكنا فرأت عند رأس الزرقاء شخصا " يحدثها، ويقول:
كاهنة اليمامة * جاءت بذي تهامةستدرك الندامة * إذا أتاها من له العمامة فلما سمعت الزرقاء ذلك، وثبت قائمة، وقالت له: لقد كنت صاحب الوفاء، فلم حبست نفسك عني هذه المدة، فإني في هموم متواترات، وأهوال وكربات، فقال لها:
يا ويلك يا زرقاء لقد نزل بنا أمر عظيم، لقد كنا نصعد إلى السماء السابعة، ونسترق السمع، فلما كان في هذه الأيام القليلة طردنا من السماء، وسمعنا مناديا " ينادي في السماوات: إن الله قد أراد أن يظهر المكسر للأصنام، ومظهر عبادة الرحمن، فامتنعوا جملة الشياطين من السماء، وتحدرت علينا ملائكة بأيديهم شهب من نار، فسقطنا كأننا جذوع النخل، وقد جئتك لأحذرك، فلما سمعت كلامه قالت له: انصرف عني، فلابد أن أجتهد غاية المجهود، في قتل هذا المولود، فراح عنها وهو يقول:
إني نصحتك بالنصيحة جاهدا " * فخذي لنفسك واسمعي من ناصح لا تطلبي أمرا " عليك وباله * فلقد أتيتك باليقين الواضح هيهات أن تصلي إلى ما تطلبي * من دون ذلك عظم أمر فادح فالله ينصر عبده ورسوله * من شر ساحرة وخطب فاضح عودي إلى أرض اليمامة واحذري * من شر يوم سوف يأتي كادح ثم إنه طار عنها، وتكنا تسمع ما جرى بينهما، وكأنها لم تسمع ما جرى، فلما أصبحت جلست بين يدي الزرقاء فقالت: ما لي أراك مغمومة؟ قالت لها: يا أختاه إن الذي نزل بي من الهموم والغموم لخروجي من الأوطان، وذهابي من البلدان، وتشتتي في كل مكان، وتفردي عن الخلان، قالت لها: ولم ذلك؟ قالت لها: يا ويلك من حامل مولود ، يدعو إلى أكرم معبود، يكسر الأصنام، ويذل السحرة والكهان، يخرب الديار، ولا يترك بمكة أحدا " من ذوي الابصار، وأنت تعلمين أن القعود على النار، أيسر من الذل والصغار، فلو وجدت من يساعدني على قتل آمنة بذلت له المنا، وأعطيته الغنا ، وعمدت إلى كيس كان معها فأفرغته بين يدي تكنا ، وكان مالا " جزيلا "، فلما نظرت تكنا إلى المال لعب بقلبها، وأخذ بعقلها ، وقالت لها: يا زرقاء لقد ذكرت أمرا " عظيما "، وخطبا " جسيما "، والوصول إليه بعيد، وإني ماشطة لجملة نساء بني هاشم، ولا يدخل عليهن غيري، ولكن سوف أفكر لك فيما ذكرت، وكيف أجسر على ما وصف، والوصول إلى ما ذكرت، قالت الزرقاء: إذا دخلت على آمنة وجلست عندها فاقبضي على ذؤائبها، واضربيها بهذا الخنجر، فإنه مسموم، فإذا اختلط الدم بالسم هلكت، فإذا وقع عليك تهمة، أو وجب عليك دية فأنا أقوم بخلاصك، وأدفع عنك عشر ديات غير الذي دفعته إليك في وقتي هذا، فما أنت قائلة؟ قالت: إني أجبتك، لكن أريد منك الحيلة بأن تشغلي بني هاشم عني، قالت الزرقاء: إني هذه الساعة آمر عبيدي أن يذبحوا الذبائح، ويعملوا الخمور، ويطرحوها في الجفان، فإذا أكلوا وشربوا من ذلك ظفرت بحاجتك، قالت لها تكنا : الان تمت الحيلة، فافعلي ما ذكرت، فصنعت الزرقاء ما ذكرت، وأمرت عبيدها ينادون في شوارع مكة أن يجمعوا الناس، فلم يبق أحد إلا وحضر وليمتها من أهل مكة، فلما أكلوا وشربوا وعلمت أن القوم قد خالط عقولهم الشراب أقبلت إلى تكنا وقالت: قومي إلى حاجتك، فقامت تكنا و جاءت بالخنجر ورشت في جوانبه السم، ودخلت على آمنة فرحبت بها آمنة ، و سألتها عن حالها، وقالت: يا تكنا ما عودتيني بالجفاء فقالت: اشتغلت بهمي و حزني، ولولا أياديكم الباسطة علينا لكنا بأقبح حال، ولا أحد أعز علي منك، هلمي يا بنية إلي حتى أزينك، فجائت آمنة وجلست بين يدي تكنا، فلما فرغت من تسريح شعرها عمدت إلى الخنجر وهمت أن تضربها به، فحست تكنا كأن أحدا " قبض على قلبها فغشى على بصرها، وكأن ضاربا " ضرب على يدها فسقط الخنجر من يدها إلى الأرض ، فصاحت : وا حزناه ، فالتفتت آمنة إليها وإذا الخنجر قد سقط من يد تكنا ، فصاحت آمنة فتبادرت النسوان إليها ، وقلن لها : ما دهاك ؟ قالت : يا ويلكن أما ترين ما جرى علي من تكنا ، كادت أن تقتلني بهذا الخنجر، فقلن : يا تكنا ما أصابك ؟
ويلك تريدين أن تقتلي آمنة على أي جرم ؟ فقالت : يا ويلكن قد أردت قتل آمنة ، و الحمد لله الذي صرف عنها البلاء ، فقالت : الحمد لله على السلامة من كيدك يا تكنا ، فقالت لها النساء: يا تكنا ما حملك على ذلك؟ قالت: لا تلوموني ، حملني طمع الدنيا الغرور ، ثم أخبرتهن بالقصة ، وقالت لهن : ويحكن دونكن الزرقاء اقتلنها قبل أن تفوتكن ، ثم سقطت ميتة ، فصاحت النسوان صيحة عالية، فأقبل بنو هاشم إلى منزل آمنة، فإذا بتكنا ميتة، وقد تجلل نور آمنة، ونظروا إلى الخنجر ، وحكوا لهم القصة ، فخرج أبو طالب ينادي : أدركوا الزرقاء وقد وصلها الخبر ، فخرجت هاربة فتبعها الناس من بني هاشم وغيرهم فلم يدركوها ولم يلحقوها ، فسمع أبو جهل ذلك فقال : وددت أنها قتلت آمنة ، ولكن حاد عنها أجلها ، وأرجوا بسطيح أن يعمل أحسن مما عملت الزرقاء ، فلما سمع سطيح بخبر الزرقاء أمر غلمانه أن يحملوه على راحلته، وسافر إلى الشام ) .
بحار الأنوار ، العلامة المجلسي ، ج 15 ، ص 317 - ص 323 .
تعليق