بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
في وصية الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لهشام بن الحكم قال: (يا هشام إن لقمان قال لابنه تواضع للحق تكن أعقل الناس، يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان وشراعها التوكل وقيمها العقل ودليلها العلم وسكانها الصبر، يا هشام لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية ومطية العقل التواضع وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه). صدق سيدنا ومولانا الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر صلوات الله وسله عليه.
من المهم أن يكون للإنسان رؤية كونية بها يفلسف الدنيا ككل، ماهي هذه الدنيا؟ إلى أين تمضي؟ ما هو دورنا فيها؟ ما هو شأنها؟ كيف ينبغي أن تكون علاقتي بها؟، فهذا يمكن أن يسمى بالرؤية الكونية أو بمعرفة فلسفة الدنيا، وهذا من الأمور المهمة جداً لأننا قد نجد قسم من الناس عندهم تخصص في أدق المطالب العلمية، كأن يكون مهندساً متفوقاً يعرف قوانين الهندسة وما لذي يؤثر في استحكام البناء وما شابه ذلك بشكل دقيق ولكن عندما نأتي لكي نرى معرفته الكونية بالحياة نجدها ناقصة كما قال تعالى: ((ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)) فقط، فبقدر ما هذا الإنسان دقيق وفاهم في تخصصه إلا أن رؤيته للكون والحياة رؤية قاصرة، فالإنسان عندما تكون رؤيته للحياة رؤية واضحة، لماذا جاء؟ وإلى أين يمضي؟ ما هو المطلوب منه؟ ما هي القيمة والثمن لحياته؟، فهذا الإنسان تكون شهادته جداً مناسبة لأن أصل الطريق عنده طريق واضح وبين، لذلك نرى تأكيد الأئمة عليهم السلام والمعصومين وقبلهم القرآن الكريم حول توضيح الدنيا.
لذلك بدأ الإمام عليه السلام في قضيتين:
القضية الأولى: موضوع التواضع وربطه بأن من يكون متواضعاً هو أعقل الناس، ثم أخذ من لقمان بعض ما أوصاه لابنه، فهذه الوصية هي وصية زهدية أوصى بها لقمان ابنه وغالباً نجدها في الكتب الأخلاقية الزهدية، لكن الإمام عليه السلام انتخب منها أفضل ما فيها مما يرتبط بموضوعنا، فأولاً قال: (تواضع للحق تكن أعقل الناس)، فكيف يصل الإنسان إلى العقل بل إلى أن يكون أعقل الناس؟
الجواب هو: أن الإنسان لديه عقلان، عقل الطبع وهو أصل الخلقة وأصل الفطرة، وهناك عقل اكتسابي أما من خلال العلم وأما من خلال التجربة الشخصية أو من خلال تجارب الغير، فالعلم له طرق لمعرفته وبمقدار ما يزداد الإنسان علماً يفترض أن يزداد تعقله أيضاً، إلا إذا كان العلم غير نافع، وكذلك التجربة تعطي الإنسان حكمة في الحياة أكثر، وطريق الوصول إلى كلا الأمرين هو التواضع، فإذا لم يتواضع الإنسان بأن يشعر بالإستغناء والإكتفاء فمن هنا تبدأ عنده مرحلة الجهل، كما جاء في الحديث: (لا يزال المرء عالماً ما دام متعلماً، فإذا ظن أنه قد عَلِم فقد جهل)، ونجد أنه قليل جداً أن يجلس إنسان إلى متحدث أو يقرأ كتاباً فلا ينتفع منه لأنه قد تكون فكرة واحدة على الأقل من هذا الكتاب لم يكن يعرفها، فلا يعقل أنه يعرف كل سطر من ذلك الكتاب المكون من 200 صفحة مثلاً.
فحتى لو كان الإنسان عالماً فإنه قد يكون عارفاً لكل ما جاء في هذا الكتاب، لكن طريقة عرض الفكرة ليس بالضرورة أنه يعرفها وهذا يسمى تعلم في الأسلوب.
كذلك أيضاً عندما نستمع إلى خطيب، فقد يكون لديه إسلوب غير الموجود عندنا أو فكرة أو كلمة جديدة وهكذا، لكن إذا شعر الإنسان بالإستغناء فإنه يستكبر وإذا استكبر لم يتواضع وحينئذ يتوقف عقله ولا يصبح أعقل الناس، فقد جاء في الحديث أيضاً: (أعلم الناس من جمع علوم الناس إلى علمه)، وهذا لا يعني بأن يفتح الإنسان نفسه على كل شيء ضار ونافع وخبيث وطيب لأنه كما قال تعالى: ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً))، ولكن القصد أنه عندما نعرف بأن ذلك الشخص في الإتجاه السليم فلا ينبغي أن نستكبر عليه.
أحياناً قد لا يكون إحساس بالإستغناء ولكن قد يكون استكباراً على الشخص أو على الجماعة والمذهب، لذلك يحتاج الإنسان إلى أن يكون متواضعاً.
(تواضع للحق تكن أعقل الناس، يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير)، نتساءل هنا بأنه لماذا شبه لقمان الدنيا بالبحر العميق؟ وقد أمضى الإمام عليه السلام هذا التشبيه مع أن لقمان لم يكن نبياً وإنما عبد صالح نور الله قلبه وبصيرته فعرف الدنيا وله نصائح ومواعظ جاء بعضها في القرآن الكريم فكلامه ليس بحجة ويحتاج إلى إمضاء، لكن استشهاد الإمام عليه السلام به هو نوع إمضاء.
وجه التشبيه بالبحر من الدنيا هو تشبيه جداً جميل، فأولاً: البحر غير مستقر فهو في حالة عدم استقرار فتارة تكون هناك أمواج وتارة يكون هادئاً، وأن الدنيا أيضاً هكذا لمن يراها بعين البصيرة سيجدها غير مستقرة في سياستها واقتصادها وأحوال الإنسان فيها، وإذا كان الشيء غير مستقر فإنه لا يكون عاقلاً من يركن إليه، فهذا واحد من أوجه التشبيه وهو أن الدنيا غير مستقرة.
الوجه الثاني: أن البحر لا يتخذ للبقاء فيه وإنما هو ينتقل عبره، كالبحار الذي ينتقل في تجارته من مكان إلى مكان آخر عبر السفينة فهو يعتبر هذا البحر طريق للوصول إلى ما يريد، وأن الدنيا أيضاً هكذا فإنه يخطئ من يتخذ الدنيا محل قرار فهي مرر كما جاء في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام: (وخذوا من ممركم لمقركم)، فالدنيا دار جواز وليست دار استقرار وبقاء
الوجه الثالث: أنه إذا لم يتم أخذ الإحتياطات في البحر وأنه إذا غفل الإنسان فيه فسوف يغرق، فحتى لو أراد النوم في السفينة فلا بد من أخذ الإحتياطات المناسبة ولا سيما في البحر العميق فليس كل شخص جاء إلى البحر خرج ناجياً وسالماً، وأن الدنيا أيضاً لا تتحمل الغفلة وأن الطغاة فيها والفساق والمنحرفين قد غرقوا في بحر هذه الدنيا ولن يخرجوا منها سالمين.
إذاً ماذا يصنع الإنسان إذا كان هذا هو حال الدنيا؟
نقول هنا: (فلتكن سفينتك فيها تقوى الله)، إن البحر يحتاج إلى سفينة من الخشب والدنيا تحتاج إلى سفينة مصنوعة من تقوى الله عز وجل لا تجعل الإنسان يغرق فيها كما جاء في قوله تعالى: ((والعاقبة للمتقين)).
(وليكن حشوها الإيمان)، فهذه السفينة تحتاج إلى أن تملأ وتحشى ببضاعة وخصوصاً للأشخاص الذين يتاجرون، وكذلك هي الدنيا فإنها حشو سفينتها هو الإيمان بالله عز وجل وبرسوله وبالعقائد الحقة.
(وشراعها التوكل)، فكما أن السفينة تحتاج إلى شراع ولا تتحرك بدون شراعها، وكذلك شراع سفينتنا في الدنيا هو التوكل على الله عز وجل وتسليم الأمر إليه، فوراء كل شيء في الدنيا وقبله وبعده وفوقه رب يدبر الأمر، فلا يتصور الإنسان بأن أموره مربوطة به، فالإنسان في هذه الدنيا مدبَّر وليس مدبِر ولولا أن الله سبحانه وتعالى أعطاه البصيرة لكانت تخطيطاته كلها خاطئة، ولولا أن الله سبحانه وتعالى دفع عنه النوائب والمشاكل لكان لا يستطيع أن يحمي نفسه من فيروس صغير حتى.
(وقيمها العقل)، أي قائد هذه السفينة هو العقل، فيجب على الإنسان ألا يمشي إلا بتعقل وأن يتنحى عن موارد الهلكة وأن يجعل عقله يهديه.
(ودليلها العلم)، فكما يحتاج الإنسان إلى خريطة للوصول، فإنه بدلالة العلم يستطيع أن يصل لما يريد لأن الجهل لا يوصل إلى شيء.
(وسكانها الصبر)، معنى السكان هنا هو الموجه والمقود، فالسفينة وخصوصاً السفن القديمة لها موجه يوجهها لليمين أو اليسار أو إلى الأمام ويطلق عليه في اللغة العربية بالسكان، وهو يستخدم للحفاظ على الشيء من الإضطراب فيعطيه الاستقرار والسكينة.