بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم وصلنا إلى: (يا هشام أفضل ما يقترب به العبد إلى الله بعد المعرفة به الصلاة وبر الوالدين وترك الحسد والعجب والفخر)، القربات إلى الله سبحانه وتعالى كثيرة، القربات أصلها من الإقتراب كأن تقول: أصلى الصلاة الكذائية قربة إلى الله تعالى أي بقصد الإقتراب، إن الإقتراب الجغرافي غير متصوَّر، فعندما تقول: أقترب إلى المسجد، أي أنك تمشي خطوات حتى تصل إلى المسجد، أو أنك إذا أحببت شخصاً فإنك تقربه إليك إما جغرافياً أو أنك تقربه بأن ترفع شأنه وتمدحه وتوقر مقامه، أما بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى فإن هذا المعنى غير متصور لأن الله ليس محدوداً في مكان، ويكون معنى الإقتراب هنا هو الإقتراب المعنوي واقتراب الرضا والمحبة.
القربات كثيرة، فالعبادات كلها قربات والأعمال الاجتماعية التي يقصد بها وجه الله عز وجل كلها مقربة، وكذلك الأعمال العلمية التي يقصد بها رضا الله سبحانه وتعالى كلها مقربة، وهكذا، لكن ما هو الأفضل والأكثر تقرباً بين هذه المجموعة الكبيرة والهائلة من الأعمال القربية على اختلاف مجالاتها من عبادية، اجتماعية، تربوية، ومالية وغيرها؟، هذا النص يحدد عدَّة أمور ولا ننسى بأن المخاطب هو هشام بن الحكم وهو عقلية جبارة في العقائد والمعارف الدينية وهو فقيه من الفقهاء، فالكلام أيضاً على منزلته هو، فيقول إمامنا عليه السلام بحسب هذه الوصية: (يا هشام أفضل ما يقترب به العبد إلى الله بعد المعرفة) فأول شيء هي المعرفة الصحيحة والسليمة بالله عز وجل وكل هذه الأمور التي ذكرها الإمام هي بعد المعرفة بالله عز وجل، ولذلك ورد في كلام امير المؤمنين عليه السلام وهو مشهور جداً: (أول الدين معرفته) ومرتبتها تفوق كل المراتب لأنها في مرتبة الأصول الإعتقادية وهي أعلى من الفروع العملية، فعندنا في أمور الدين أصول كالإعتقاد بالله والنبي والإمام ويوم القيامة، فهذه الأصول العقائدية إجمالأً أهم من الفروع والعبادات كالصلاة والحج والزكاة وغيرها، فالأمور التي ترتبط بالحركة والفعل والجوارح هي عبادات، وأما ما يرتبط بالجوانح والقلب والإعتقاد والتعقل فيما يرتبط بالدين فهي اعتقادات، ولهذا نرى أن العبادات إنما تخدم الإعتقاد والإيمان، فعندما نقرأ الأذان في الصلاة نجد أن بدايته هو اعتقاد (الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله ...)، وكذلك سورة الفاتحة والتوحيد، ولعله لهذا السبب إن السورة الوحيد التي يستحب تكرارها في الصلاة مراراً هو سورة التوحيد، نجد أن العلماء يفتون في استحباب قراءة سور متعددة في الصلاة بعد الفاتحة كالقدر، العصر والكوثر وغيرها والأفضل عدم تكرارها إلا سورة التوحيد لعله لأن هذه السورة هي سورة المعارف الإلهية، إذاً فإن العبادات تخدم الإعتقاد.
الأمور التي يتقرب بها الإنسان إلى الله بعد المعرفة هي:
1 – الصلاة.
2 – بر الوالدين.
3 – ترك الحسد والعجب والفخر.
هذه ثلاثة نماذج لثلاثة أمور، أمر عبادي وأمر اجتماعي وأمر نفسي وتربوي، فالصلاة أولاً هي عمود الدين ورأس العبادات فإن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها وهي عهد الله إلى الناس، فإذا رفع أحدهم يده عن الصلاة رفع الله عهده عنه فلا يكون بينه وبين تارك الصلاة من عهد، فالصلاة هي صلة بين الله وبين عبده، فإذا رأى الإنسان نفسه موفقاً للصلاة أولاً ولصلاة الجماعة ثانياً وفي المسجد فإنه قد حيزت له النعمة من كل أطرافها لأنه قد يكون في مجتمعنا من لا تشكل الصلاة هماً له فلا يكون مداوماً عليها لأي سبب من الأسباب فإن ما بينه وبين الله عز وجل قد انتهى، فالصلاة هي رسالة جميع الأنبياء إلى اقوامهم وأممهم، فلا يوجد نبي جاء من عند الله عز وجل إلا وجاء بالصلاة بنحو من الأنحاء.
وهنا نشير إلى اقتراح للأخوة المؤمنين والأخوات المؤمنات وهو أن نفكر في تشكيل لجان للدعوة إلى الصلاة والأمر بها، أن الله سبحانه وتعالى عندما يصف أولئك الذين سيظهرهم في زمان الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف فإنه يقول: ((الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة))، فأنت أيها الإنسان ممكن، فالمدارس في المدرسة مسؤول من الناحية الشرعية أن يدعو للصلاة وينصح بها ويشجع عليها، وكذلك رئيس المؤسسة والشركة، والأب والأم بمقدار ما هم ممكنون فعليهم أن يأمروا بالصلاة ويصطبروا عليها وأن يحرضوا من حولهم، بل حتى إن لم يكن الإنسان ممكناً بهذا المعنى كأن يكتب مثلاً رسائل بها كلمات تحث على الصلاة وأحاديث تدل على فضل الصلاة، أو مسألة شرعية عن الصلاة وغيرها فينشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك لو استطاع أن يشكل مع اخوانه وأصحابه لجاناً للدعوة إلى الصلاة، فإن كان يصلي فليصلي في المسجد، وإن كان يصلي في المسجد فليصلي جماعة وفي اول الوقت، فأفضل ما يتقرب به العبد إلى الله بعد معرفته هو الصلاة من الجانب العبادي.
أفضل ما يتقرب به العبد من الجانب الاجتماعي هو بر الوالدين، فأول دائرة وهي صاحبة فضل عليك وفي وجودك في هذه الدنيا وفي هدايتك وغناك وتربيتك وشخصيتك هي دائرة الوالدين، فلولا والداك لما جئت لهذه الدنيا ولولا لم يربياك بتلك الطريقة التي نشأت فيها لما صرت هكذا، فأنت نتيجة غرسهم، ولذلك أوصانا الله سبحانه وتعالى بالوالدين إحساناً وعلمنا حتى الدعاء لهم، فلم يعلمنا القرآن كيف ندعو لزوجاتنا وأزواجنا، أو كيف ندعو لإخواننا وأخواتنا، ولكن بالنسبة للوالدين قال: ((واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً))، فعندما قال الله سبحانه وتعالى: ((كما ربياني صغيراً)) هنا إشارة إلى أنه في يوم من الأيام سيكبر الوالدان ويثقلان وتصبح حاجاتهم مملة وأحاديثهم غير مثيرة بالنسبة لك ولكن عليك أن تتذكر بأن والديك مع شدة الأمور وصعوبة الحياة ربياك صغيراً وأنفقا عليك وأعطياك من حشاشة قلبيهما، فسلام الله على آبائنا وأمهاتنا ورحمة الله عليهم، فإذا استثقل الإنسان والديه فعليه أن يرجع إلى دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه لأبويه حتى يرى المعناة التي عانياها حتى أوصلاه إلى ما هو فيه، فهذا ليس قضية مادية بأنهم كما ربياك تربيهم وكما اهتما بك تهتم بهم بل هذا أفضل ما يتقرب به إلى الله بعد المعرفة، فإن بررت بوالديك سيبرك أبناؤك كما جاء في الحديث: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم).
الأمر الثالث وهو أمر نفسي وتربوي وهو ترك الحسد والعجب والفخر، مختصر ذلك: اخرج من محورية ذاتك تكن من السالمين، العجب يختلف عن الرياء، فالعجب هو أن يغتر الإنسان بعمله ويعظمه ويحصل ذلك بعد إنجاز العمل، ولذلك علمنا سادتنا عليهم السلام أن من صفات المتقين أنهم لأنفسهم متهمون وهم من عملهم وجلون، فالعجب هو أن يعجب الإنسان بعمله ولكنه لا يخرجه إلى الناس، وأما إن أخرجه إلى الناس أصبح فخراً واستطالة وقد يتحول إلى كبر.
أسوأ السيئات أيضاً هو الحسد بأن يريد الشيء لنفسه ويتمنى لو أن تلك النعمة وذلك الخير قد خرج عن غيره، كأن يتمنى زوال علم شخص ما، أو زوال مال أحدهم وغير ذلك من الأمور، فالحسد أن يتمنى زوال النعمة من غيره حتى وإن لم تأتي إليه هو، فترك الحسد هو أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى.