يمكن اعتبار حضور الإمام في كربلاء ومواقفه في الشام، وتخطيطه في المدينة بعد عودته إليها هي المحطات الثلاث التي تؤشّر إلى الأبعاد الحقيقية في شخصيته الجهادية:
يمكن اعتبار حضور الإمام في كربلاء ومواقفه في الشام، وتخطيطه في المدينة بعد عودته إليها هي المحطات الثلاث التي تؤشّر إلى الأبعاد الحقيقية في شخصيته الجهادية:
المحطة الأولى: في كربلاء
تؤكّد المصادر التاريخية أنّ الإمام السجاد عليه السلام كان حاضراً في كربلاء إذ شهد واقعة الطفّ بجزئياتها وتفاصيلها وجميع مشاهدها المروّعة. ومن المتّفق عليه، أنّه كان يوم كربلاء مريضاً أو موعوكاً[1] وللحدّ الذي لا يستطيع الوقوف على قدميه، أو لا تحمله قدماه[2].
وورد ما يشير إلى أنّه قد حضر بعض القتال: "وكان علي بن الحسين عليلاً، وارتُثَّ يومئذٍ، وقد حضر بعض القتال، فدفع الله عنه وأُخِذ مع النساء"[3].
كلّ ذلك وغيره كثير يختزنه الإمام السجّاد عليه السلام ويطوي عليه قلبه وضلوعه، إذ لم يتسنَّ له أن يبذل مهجته، لجرحٍ أصابه، فأخرجه من المعركة، أو مرضٍ شديد أقعده عن المساهمة فيها، فيحمل تلك المشاهد ليستفيد عليه السلام مما شاهده في إبراز وحشية بني أمية وأتباعهم على الملأ.
المحطة الثانية: في الكوفة
يستحضر الإمام السجاد عليه السلام مصارع إخوته وأبناء عمومته، فيقف شامخاً في قصر الإمارة بالكوفة وهو يحمل بلاغة جدّه الإمام عليّ عليه السلام وعنفوان أبيه الحسين عليه السلام، فيتحدّث بخطبته أمام الطاغية عبيد الله بن زياد، ويضعه موقف المتّهم المباشر بسفك دماء الأبرياء، عندما رد عليه الإمام علي بن الحسين عليه السلام فقال: "الله يتوفّى الأنفس حين موتها.. وما كان لنفسٍ أن تموت إلاّ بإذن الله...". فغضب ابن زياد فأراد قتله على جرأته وتجاسره على الطاغية بتلك الأجوبة، فتشبّثت به عمّته زينب وتعلّقت به، وقالت لابن زياد: "يا ابن زياد، حسبُك منّا ما أخذت، أما رويتَ من دمائنا؟ وهل أبقيت مِنّا أحداً؟ أسألك الله ـ إن كنت مؤمناً ـ إن قتلته لمّا تقتلني معه..."[4].
المحطّة الثالثة: في الشام
أمّا في الشام وحيث الدور الإعلاميّ أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل، يقف الإمام السجّاد عليه السلام في مجلس يزيد، فينبري بعد أن يحمد الله ويثني عليه مسفّهاً الدعاوى الأموية التي حاولت تشويه نهضة أبيه، وتزييف أهداف ثورته، وعرّف عن نفسه لأنّ في بلاد الشام كانت الصورة عن أهل البيت عليهم السلام غير واضحة، بل مشوّهة تماماً، فقال: "يا معشر الناس: فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه نفسي، أنا ابن مكّة ومِنى، أنا ابن مروة والصفا، أنا ابن محمّد المصطفى... أنا ابن من علا فاستعلى، فجاز سدرة المنتهى، وكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء مثنى مثنى، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن عليّ المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المجزور الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتّى قضى، أنا ابن صريع كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى... أيُّها الناس إنّ الله تعالى ـ وله الحمد ـ ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن، حيث جعل راية الهدى والتُقى فينا، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا..."[5].
وبهذه الخطبة الموجزة أصبح الرمز الذي يقود مسيرة الإحياء ـ إحياء هذا الدين المضيّع ـ الذي شوّهته السلطة الأموية وحكمت أو تحكّمت باسمه... فتراه عليه السلام حين أراد يزيد أن يقطع حديثه بالأذان للصلاة، يُعلِّق على صوت المؤذّن الذي يقول: "أشهد أنّ محمداً رسول الله" بقوله: "يا يزيد! هذا جدّي أم جدّك؟ فإن قلت جدّك فقد كذبت! وإن قلت جدّي، فلمَ قتلتَ أبي وسبيت حرمه وسبيتني؟!"، ثمّ قال مخاطباً الناس: "أيُّها الناس، هل فيكم من أبوه وجدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟" فعلت الأصوات بالبكاء.
وهكذا يتجلّى دور الإمام السجاد عليه السلام في قيادة مشروع الإحياء وثورة التصحيح. ومن هذه المحطّة تبدأ رحلة الألف ميل مسافة وعمقاً من الشام إلى المدينة، ليستأنف الإمام عليه السلام مهمته الرسالية في استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة.
المحطّة الرابعة: في المدينة المنوّرة
دوره العلميّ:
ليس الحديث عن الدور العلميّ للإمام السجاد عليه السلام ممّا تجمعه السطور، أو تفي بالتعبير عنه، ولكن حسبها أنّها تأتي بمعالم تفصح بعض إفصاح عن ذلك الدور وما كان يتمتّع به صاحبه من منزلة.
فلقد عاش الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة المنوّرة، حاضرة الإسلام الأولى، ومهد العلوم والعلماء، في وقت كانت تحتضن فيه ثلّة من علماء الصحابة، مع كبار علماء التابعين، فكان بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم، الأعلم والأفقه والأوثق، بلا ترديد. فقد كان الزهريّ يقول: "ما كان أكثر مجالستي مع عليّ بن الحسين، وما رأيت أحداً كان أفقه منه". وممّن عرف هذا الأمر وحدّث به الفقيه الشهير سفيان بن عيينة[6]. وبمثل هذا كان يقول الشافعيّ محتجّاً بعليّ بن الحسين عليه السلام على أنّه كان (أفقه أهل المدينة)[7].
هذا، وقد كانت مدرسته تعجّ بكبار أهل العلم من حاضرة العلم الأولى في بلاد الإسلام، يحملون عنه العلم والأدب، وينقلون عنه الحديث، ومن بين هؤلاء: زيد ابنه، وكذلك ثوير بن أبي فاختة، وسعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل، الزهري، وعمرو بن دينار، وغيرهم، وقد حدّث عنه غير هؤلاء من الرجال من خاصّة شيعته من كبار أهل العلم، منهم: أبان بن تغلب، وأبو حمزة الثماليّ، ثابت بن هرمز الفارسي، جابر بن عبد الله الأنصاري، حبيب بن حسان بن أبي الأشرس الأسدي، وغيرهم الكثير[8].
هذا الجمع الغفير وغيرهم ممّن وصف بالخلق الكثير أخذوا عنه عليه السلام علوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه وأحكامه وآدابه، والسُنّة النبوية الشريفة روايةً وتدويناً في عصر كانت ما تزال كتابة الحديث فيه تتأثّر بما سلف من سياسة المنع من التدوين، السياسة التي اخترقها أئمّة أهل البيت عليهم السلام فكتب عنهم تلامذتهم والرواة عنهم الشيء الكثير، إلى أحكام الشريعة، حلالها وحرامها وآدابها، إلى فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد عمدت فيه السياسة إلى تعطيل الكثير من الأحكام وتبديل بعض السنن وإحياء بعض البدع، إلى الجهر في نصرة المظلوم، وضرورة الردّ على الظالم، وكشف أساليبه الظالمة للناس.
المرحلة المنعطف
إنّ مرحلة الإمام السّجاد عليه السلام يُمكن أن تُسجّل منعطفاً مهمّاً بين مرحلتين فاصلتين في عمل أئمّة أهل البيت عليهم السلام: الأولى: مرحلة التصدّي والصراع السياسيّ والمواجهة العسكرية ضدّ المنحرفين والمحرّفين من الفاسقين والمارقين والناكثين، وقبلهم الكفرة والمنافقون وأعداء الدين الواضحون.
الثانية: مرحلة المعارضة السياسية الصامتة، أو الرفض المسؤول الواضح للانحراف، أمام الضبابية والزيف الملفّع بالدين، وبعد ذلك بناء القاعدة الشعبية والجماعة الواعية التي تتحمّل عبء الرسالة لمواجهة الانحراف والتحريف اللذين أُغرقت أو استُغرقت فيهما الحالة الدينية تحت شعارات الإسلام نفسها ويافطات الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة.
تأسيساً على ذلك، كان على الإمام زين العابدين عليه السلام أن يُجذّر في عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يُراد لها أن تحفظ الإسلام عقيدةً ونظاماً، شريعةً ومنهاجاً، عدّة أمور منها:
1- تركيز ثورة الإمام الحسين عليه السلام في ضمائر الناس باعتباره خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه فعلاً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، داعياً لتحكيم دين الله، ولم يخرج (أشراً ولا بطراً)، بل لم يخرج على إمرة (أمير المؤمنين يزيد!!) ولم ينوِ تمزيق الصفّ المسلم أو تفريق جماعة المسلمين، وبالتالي فإنّه قُتل بسيف أعداء الدين، وليس (بسيف جدّه) كما كان يروّج الإعلام الرسميّ آنذاك، وبعض المؤرّخين المتخلّفين اليوم[9].
2- بناء الجماعة الواعية، أو كما تُسمّى القاعدة الجماهيرية الشعبية، المؤهّلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيداً عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي غطّت مساحات عريضة من الجمهور المسلم بحيث أضحت تلك الجماهير لا تفرّق بين المفاهيم ومصاديقها، أو بين الشعارات المرفوعة وضرورة تبنّيها، أو بين الأصيل والطارىء، الأمر الذي يُسبّب الفتنة فعلاً أو يُشعلها، ويحجب الرؤية الواضحة عن النفوس البريئة التي تتأثّر بالشعار ولا تغوص في أعماق الأمور.
3- تعميق مفهوم الإمامة والولاية في الجماعة الخاصّة بعد أن اهتزّت لدى العامّة تحت ضغط الإعلام المزّيف وأبواقه المأجورة، ومن ثمّ توضيح الخرق الفاضح الذي تمَّ خلاله فصل المرجعية الفكرية عن المرجعية السياسية أو الاجتماعية.
4- العمل بدقّة في مقطع زمنيّ بالغ الحساسية، يحسب على الإمام حركاته وسكناته، ويعدّ عليه أنفاسه وكلماته من جهة، وموازنة ذلك مع عمل إعلاميّ وتبليغيّ بالغ الصعوبة والتعقيد لكشف المعالم الحقيقية للدين، بعيداً عن عيون السلطة ورقابتها وأزلامها وجواسيسها المنتشرين في كلّ زاوية وزقاق، من جهة أخرى.
وبهذا استطاع الإمام السجاد عليه السلام أن يقود الأمّة ويكمل الثورة ويحقّق بقية أهدافها، لكن بما ينسجم مع طبيعة المرحلة وتعقيداتها، حتّى لو لم يتسلّم سلطة أو حكماً.
دروس تمهيدية في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والأئمة المعصومين عليهم السلام، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الارشاد، 231. القاضي النعمان المغربي، النعمان بن محمد، شرح الأخبار، ج 3، ص 250.
[2] اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 243 - 244، ومع وضوح هذا النص، فإنّ كلمة (ارتُثَّ) هذه تدلُّ على اشتراكه في القتال، لأنها تُقال لمن حُمل من المعركة بعد أن قاتل وأُثخن بالجراح، فأُخرج من أرضها وبه رمق، كما يقول اللغويون، أو أصحاب فقه اللغة.
[3] مجلة تراثنا، مؤسسة آل البيت، ج2، ص150 (عن كتاب تسمية من قبل مع الحسين، الفضل بن زبير الكوفي الأسدي).
[4] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 435.
[5] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 182.
[6] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، حسين الأسد، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1413 - 1993م، ط9، ج 4، ص 389.
[7] ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 274.
[8] الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص109، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
[9] صائب عبد الحميد، ابن تيمية حياته عقائده، ط2، ص 390. 2024-02-12