وذُلّت الأعناق
مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء
الدعم عبر الأخبار............
كان يعمل في الجهاز الشامل وهو داخل أحد معامل ناسا، فجلس يستريح برهة، ليتابع آخر أخبار إسهامات العالم في دعم رحلته.
فسمع إعلامي يقول عبر قناة فضائية عالمية بأن معدل الجريمة في العالم منذ علم البشر بأمر ثقب سحابة أورط كاد أن يقترب من الصفر، وعليه ظهرت ثروات لدى الناس لم تكن في حسبان أحد من علماء الاقتصاد؛ بل أدهشتهم؛ مما وفّر دعما لرحلة جاك الأمريكي بقيادة الناسا لم يتصوره أحد.
فهزه الخبر، اجتاز السرور كل جوارحه، مما دفعه لمعاينة أحوال العالم بنفسه.
فرصة...................
لم يكن لرجل مثل جاك أن يفوّت فرصة كهذه دون أن يشفي غليل نفسه من الحقد والبغضاء والعداوة التي ملأت نفوس البشر منذ بدء الخليقة.
سبب الفرصة ومثل وتمني..........
إنها فرصة ذهبية خلّقها ثقب سحابة أورط، فتذكر في نفسه كيف يتحد الأعداء وينسون ما في نفوسهم من شر وهم على متن سفينة تهددها الرياح العاتية لينجوا بأنفسهم من الموت غرقا.
وتمنى في نفسه شيئا عبر عنه بقوله: يا ليتك أيها الثقب المتربص بنا في السماء تنتظر طويلا علّ نفوس البشر التي اعتادت على العواء والزئير والفحيح تكف عن تلك العادات الوحشية التي لطالما انتشت بها وطربت لها آذانهم قرونا من الدهر، منذ أن كانوا شيئا مذكورا.
السير على الأرض بحديث النفس فحسب..............
فخرج، خرج ملثمًا كي لا يعرفه أحد مستقلا سيارته الطائرةً ليتجوّل شوارع واشنطن، وهو يعلم أنّ أهل واشنطن لا يختلفون في شيء عن باقي أهل الأرض، فالبشر كلّهم سواء.
قال في نفسه وهو يهز رأسه مستعبرا ومرارة الوجع طفحت في حلقه: الإنسان هو الإنسان، قلما يعالج عنفوان الأرض وسطوتها نفسَه الآثمة، والتأثير الحقيقي لقوة مهيمنة جبارة، ولا ترتكز إلا في السماء.
وبفضل القاضي الذي في سحابة أورط خشع الناس وآمنوا واستسلموا للحقّ والعدل والسلام.
وظل يسهب في حديث النفس حتى قال متوجعا خائفا: أخلاقهم الآن كأخلاق الملائكة، وكم أخشى أن أفجّر لهم الثقب فينتهجون أخلاق الشياطين؛ فمن يتّق تحت سلطان السيف يفجرْ عند كسره.
وقطع بسيارته مسافات شاسعة جدًا على حالته تلك، لا يدري أين هو بالضبط؛ فحديث النفس طغى على كل مداركه وحواسه فعاش في عالمها.
الطيران...........
وسمت نفسه، فدفعته لمعانقة الشواهق، فارتفع بالسيارة إلى أعلى وهو يستنشق الهواء بشهيق أحدث صوتا متواصلا من صفير الرياح الخفيف كأنما يعبئه بقدر ما يستطيع في جيوب أنفه لتمر في عروقه وتتخلل روحه، لنقائه المنقطع النظير والذي لطالما انتظر تلك النسمات الصافية الطيبة حينا من الدهر.
أحداث وهو نائم...........
وسكر في أحلام التمني، فغفت نفسه فرأى السيارة وسط أسراب هائلة من الحمائم ذات أجنحة خضر.
تساءل عندئذ في غفوته: رباه يا مالك الملك أين أنا؟ ربما في الجنة.
وأطلّ بعينيه فوجد كل ما حوله يتحرك داخل تموجات، فكانت الأشياء تظهر وعليها تموجات تصدر صوتا كالصوت الذي يصدر عن قيعان البحار.
كما ظهرت أمامه وكأنها محاطة بهالة من الموجات أو فيض مغناطيسي.
فكانت السيارة والحمائم ونسائم الهواء يتحركون داخل تلك التموجات.
وتساءل مرة أخرى في دهشة: رباه، أين أنا؟
وأجاب بنفسه: ربما في بعد الجاذبية الأرضية كما يقول أينشتاين.
ورأى، رأى تعانقًا في العوالي، تعانقت مآذن المساجد وقباب الكنائس، ورقد كلّ منهما بجانب الآخر يستأنسا ببعضهما ويعاضدا بعضهما.
وفجأة تفجع قلبه، حيث رأى طيورا جارحة لا حصر لها تقبل من بعيد متوجهة نحو الحمائم.
فقال خائفا مترقبا: رباه، سوف يذهب السلام بأنياب الغدر والخيانة.
وما إن انتهى من كلامه حتى رأى الكواسر تنظم نفسها ضمن خطوط سير أسراب الحمائم.
فطابت نفسه بعد أن ذهب الخوف من قلبه، وحمد الله.
وتساءل في شأن آخر وهو ينظر إلى هذه الأسراب الهائلة: أين أدخنة المصانع؟ أين إشعاعات القنابل النووية؟
فلما أدرك أنها لم تعد توجد انفرجت أساريره كالزهرة التي تتفتح لتلتقي بندى الماء بعد الفجر.
***
ونظر كذلك في غفوته كأنّ سيارته هبطت على الأرض، فوجد الناس ترتدي الأثواب البيضاء، والتيجان الخضراء، وهم عائدون من المقابر بعد أن ذبحوا الشر وكفنوه في أثواب من الشياطين.
وتعانقوا وهم يتبادلون التهاني بعد أن أدركوا كافة دروب السعادة الحقيقية.
كما وجد السجون تُفتح لإطلاق الأبرياء، والملاجئ فرغت من اللقطاء بعد أن اهتدى آبائهم وأمهاتهم إليهم.
ووجد الناس يتسابقون في نزع النفاق من قلوبهم، ذاك الذي عج في الأرض وأطّت به وحق لها أن تئط.
فوجدهم يتسارعون لأخذ مكان في صفوف عديدة، ليس لها نهاية، كل صف فيه أناس من ألوان وجوه أهل الأرض جميعا، وكذلك ألسنتهم، سمعهم يتكلمون بلهجات كافة أهل الأرض.
تسابقوا إلى نزع ذاك النفاق، فرأى الواحد منهم ينزع عن وجهه قناعا واحدا، وآخر ينزع قناعين، وثالث ينزع ثلاثة أقنعة.
وعلى بعد كبير من الصفوف يجد مجموعة منهم تنزع عشرات ومئات الأقنعة وهم يبكون بكاء الندم والتوبة.
فتقدم إليهم جاك وسألهم عن شأنهم فأجابوه بأنهم الرؤساء والرعاة والدعاة.
فلما انتهوا من نزع أقنعتهم وجد قبحا لم ير مثله قط، فتفجعت نفسه وكاد قلبه يتوقف لولا أن تلك الوجوه سرعان ما تبودلت، فبعد أن كانت أقبح ما تكون ظهرت في أجمل صورة.
وفي جانب آخر وجد مجموعة من الرجال يحاولون نزع قلوبهم بكل قوة وهم يعضون على أسنانهم؛ فسألهم عن ذلك فأجابوه بأن قلوبهم امتلأت من كل صنوف الشر.
فقال لهم: أحسنتم.
وعاد إلى سيارته وظل سائرا حتى وجد نورا يكتسي بلون أخضر يشع من بعيد، فأقبل إليه في شغف، ودقق النظر إليها، فتبين له أنها جزيرة ذات أشجار كثيفة، أغصانها من القناديل التي ينبثق منها نور أخضر.
وكل يحيط به تموجات تصدر أصواتا كأصوات قيعان البحار.
فنزل عن سيارته واقترب منها، روحه تسعى إليها قبل قدميه، فوجد نهرا جاريا، ماؤه ذو لون أخضر، فظمئت نفسه، فسعى إليه راكضا حتى إذا ما وصل إليه مد يده إلى الماء على جانب من النهر واغترف غرفة واحدة وارتشفها من كفه، فتعجب من شأن تلك الغرفة؛ حيث روت نفسه الظامئة إلى درجة ظنه بأنه لن يظمأ بعدها أبدا.
وفجأة وجد ظبية على بعد كبير من النهر الواقف على شاطئه، فأمعن النظر إليها، فشعر بأنها منهكة عطشانة، وهي تحاول أن تقترب من الشاطئ بيد أنها لا تستطيع لوجود منحدر قد يجذبها إلى النهر.
فقال: لا تستطيع الاقتراب خشية أن يشدها التيار فتقع فيه، والنهر تغشاه أمواج كأمواج الجبال.
ومضت لحظات، والظبية تحاول بيد أن كل محاولاتها باءت بالفشل، حينئذ أقبل تمساح نحوها بأقصى سرعته.
فتفجع قلبه، وركض نحو الظبية يدعوها للفرار من أنياب التمساح، لكنه تفاجأ بأنها لم تكترث له، وظلت تنتظر في أمن ويعلو وجهها بسمات.
فتعجب من شأنها، حتى إذا وصل التمساح عبأ فمه بالماء واقترب من الظبية وضخ ما في فمه من ماء لها فشربت وعادت.
ونظر في الأفق، فوجد الفهود بجانب الظباء، ووجد الذئاب تحفر في الأرض للحصول على ماء الينابيع للإبل الظامئة.
وقد وجدت المخلوقات الحية العطف والرأفة من الطبيعة، حيث غاضتْ البراكين الثائرة نحو الأرض السابعة، وهدأتْ الأعاصير حتى تحوّلتْ إلى نسمات من الهواء الرقيق المستنشق.
فاستحضر موعظة في نفسه قائلاً: فلما تراحموا فيما بينهم وأقاموا العدل رحمتهم الطبيعة.
وانتبه في دهشة، وسأل نفسه: كيف يحيط بهؤلاء الناس الهالات الموجية وهم على الأرض؟
وظل يصرخ، يريد أن يجيبه أحد، فمرّ عليه فهمان، فلاذ به جاك وسأله: يا فهمان، أين أنت؟ من جاء بك هنا؟ ألم تعبر جسر الشيطان وتذهب إلى إبليس؟ لماذا عدت؟
لم يجبه فهمان.
ردد عليه نفس الأسئلة وهو يصرخ، يصرخ لواذا به، فلما تأكد أنه لن يجيبه سأله عن الناس التي رآها في تموجات زمكانية.
فلم يجبه ومضى.
صرخ جاك، وسعى خلفه يريد أن يدركه بيد أن فهمان دخل في تموجات واختفى وهو يسمع صوت قيعان البحار.
عندها هوى على ركبتيه متحسرا يبكي، وفجأة سكت وقال: علمت.
في تلك اللحظة أفاق من غفوته فرأى مقدمة السيارة ترتفع إلى أعلى السماء بصورة رأسية، فعدل اتجاهه واستدار وتوجه إلى الأرض.
وقال وهو يهز رأسه: علمت، الآن تأكدت.
الناس تحت تأثير جاذبية الثقب المعنوي، ثقب سحابة أورط، فإن ذهب تأثيره عنهم رحلت كل التموجات المعنوية وظهروا على حقيقتهم. رباه ما أحقر نفوس البشر.
وأخيرًا سأل نفسه: أين كنت يا ثقب منذ زمن؟
ما أجفاك يا حقير! ليتك تظلّ تقبع هناك تلاعبنا ولا تأكلنا، تخدشنا ولا تقطعنا، حتى نظلّ نحيا في ظل ناموسك الأكبر، يا ليت يا ليت.
وظل يفكر فيما رآه من أحلام اليقظة،وقال في نفسه: كم أوحشتني والله يا فهمان.
وتملك جسده رعدة وقال بصوت فيه رعشة وتلعثم: لو تحطم هذا الرابض في السماء لتذئّب الناس وتوحشوا من أجل استرداد ما أعطوه سابقًا.
وسوف أجد الولايات المتحدة الأمريكية مستدانة لطوب الأرض.
وعندئذٍ يكون العواء في الجحور قبل القصور، وفي رنين الفخار قبل رنين الذهب.
ولما هبط توجه إلى الناسا وهو يتفكر بقوله: أخشى ما أخشى أن أقتل الثقب فيقتلون الناس أنفسهم، فحسنة الأمس سيئة الغدِّ، وفضيلة الأمس رذيلة الغدِّ، تتبدّل كلّ المفاهيم عند زوال سلطان السماء، وتُهدم الكنائس التي على مشارف المساجد، وتُشنُّ الحروب الإسلامية تحت راية الإسلام، كما تُشنّ الحروب الصليبيّة تحت راية الصليب، إذا فسد أئمتهم وتطرّف مواليهم.
مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء
الدعم عبر الأخبار............
كان يعمل في الجهاز الشامل وهو داخل أحد معامل ناسا، فجلس يستريح برهة، ليتابع آخر أخبار إسهامات العالم في دعم رحلته.
فسمع إعلامي يقول عبر قناة فضائية عالمية بأن معدل الجريمة في العالم منذ علم البشر بأمر ثقب سحابة أورط كاد أن يقترب من الصفر، وعليه ظهرت ثروات لدى الناس لم تكن في حسبان أحد من علماء الاقتصاد؛ بل أدهشتهم؛ مما وفّر دعما لرحلة جاك الأمريكي بقيادة الناسا لم يتصوره أحد.
فهزه الخبر، اجتاز السرور كل جوارحه، مما دفعه لمعاينة أحوال العالم بنفسه.
فرصة...................
لم يكن لرجل مثل جاك أن يفوّت فرصة كهذه دون أن يشفي غليل نفسه من الحقد والبغضاء والعداوة التي ملأت نفوس البشر منذ بدء الخليقة.
سبب الفرصة ومثل وتمني..........
إنها فرصة ذهبية خلّقها ثقب سحابة أورط، فتذكر في نفسه كيف يتحد الأعداء وينسون ما في نفوسهم من شر وهم على متن سفينة تهددها الرياح العاتية لينجوا بأنفسهم من الموت غرقا.
وتمنى في نفسه شيئا عبر عنه بقوله: يا ليتك أيها الثقب المتربص بنا في السماء تنتظر طويلا علّ نفوس البشر التي اعتادت على العواء والزئير والفحيح تكف عن تلك العادات الوحشية التي لطالما انتشت بها وطربت لها آذانهم قرونا من الدهر، منذ أن كانوا شيئا مذكورا.
السير على الأرض بحديث النفس فحسب..............
فخرج، خرج ملثمًا كي لا يعرفه أحد مستقلا سيارته الطائرةً ليتجوّل شوارع واشنطن، وهو يعلم أنّ أهل واشنطن لا يختلفون في شيء عن باقي أهل الأرض، فالبشر كلّهم سواء.
قال في نفسه وهو يهز رأسه مستعبرا ومرارة الوجع طفحت في حلقه: الإنسان هو الإنسان، قلما يعالج عنفوان الأرض وسطوتها نفسَه الآثمة، والتأثير الحقيقي لقوة مهيمنة جبارة، ولا ترتكز إلا في السماء.
وبفضل القاضي الذي في سحابة أورط خشع الناس وآمنوا واستسلموا للحقّ والعدل والسلام.
وظل يسهب في حديث النفس حتى قال متوجعا خائفا: أخلاقهم الآن كأخلاق الملائكة، وكم أخشى أن أفجّر لهم الثقب فينتهجون أخلاق الشياطين؛ فمن يتّق تحت سلطان السيف يفجرْ عند كسره.
وقطع بسيارته مسافات شاسعة جدًا على حالته تلك، لا يدري أين هو بالضبط؛ فحديث النفس طغى على كل مداركه وحواسه فعاش في عالمها.
الطيران...........
وسمت نفسه، فدفعته لمعانقة الشواهق، فارتفع بالسيارة إلى أعلى وهو يستنشق الهواء بشهيق أحدث صوتا متواصلا من صفير الرياح الخفيف كأنما يعبئه بقدر ما يستطيع في جيوب أنفه لتمر في عروقه وتتخلل روحه، لنقائه المنقطع النظير والذي لطالما انتظر تلك النسمات الصافية الطيبة حينا من الدهر.
أحداث وهو نائم...........
وسكر في أحلام التمني، فغفت نفسه فرأى السيارة وسط أسراب هائلة من الحمائم ذات أجنحة خضر.
تساءل عندئذ في غفوته: رباه يا مالك الملك أين أنا؟ ربما في الجنة.
وأطلّ بعينيه فوجد كل ما حوله يتحرك داخل تموجات، فكانت الأشياء تظهر وعليها تموجات تصدر صوتا كالصوت الذي يصدر عن قيعان البحار.
كما ظهرت أمامه وكأنها محاطة بهالة من الموجات أو فيض مغناطيسي.
فكانت السيارة والحمائم ونسائم الهواء يتحركون داخل تلك التموجات.
وتساءل مرة أخرى في دهشة: رباه، أين أنا؟
وأجاب بنفسه: ربما في بعد الجاذبية الأرضية كما يقول أينشتاين.
ورأى، رأى تعانقًا في العوالي، تعانقت مآذن المساجد وقباب الكنائس، ورقد كلّ منهما بجانب الآخر يستأنسا ببعضهما ويعاضدا بعضهما.
وفجأة تفجع قلبه، حيث رأى طيورا جارحة لا حصر لها تقبل من بعيد متوجهة نحو الحمائم.
فقال خائفا مترقبا: رباه، سوف يذهب السلام بأنياب الغدر والخيانة.
وما إن انتهى من كلامه حتى رأى الكواسر تنظم نفسها ضمن خطوط سير أسراب الحمائم.
فطابت نفسه بعد أن ذهب الخوف من قلبه، وحمد الله.
وتساءل في شأن آخر وهو ينظر إلى هذه الأسراب الهائلة: أين أدخنة المصانع؟ أين إشعاعات القنابل النووية؟
فلما أدرك أنها لم تعد توجد انفرجت أساريره كالزهرة التي تتفتح لتلتقي بندى الماء بعد الفجر.
***
ونظر كذلك في غفوته كأنّ سيارته هبطت على الأرض، فوجد الناس ترتدي الأثواب البيضاء، والتيجان الخضراء، وهم عائدون من المقابر بعد أن ذبحوا الشر وكفنوه في أثواب من الشياطين.
وتعانقوا وهم يتبادلون التهاني بعد أن أدركوا كافة دروب السعادة الحقيقية.
كما وجد السجون تُفتح لإطلاق الأبرياء، والملاجئ فرغت من اللقطاء بعد أن اهتدى آبائهم وأمهاتهم إليهم.
ووجد الناس يتسابقون في نزع النفاق من قلوبهم، ذاك الذي عج في الأرض وأطّت به وحق لها أن تئط.
فوجدهم يتسارعون لأخذ مكان في صفوف عديدة، ليس لها نهاية، كل صف فيه أناس من ألوان وجوه أهل الأرض جميعا، وكذلك ألسنتهم، سمعهم يتكلمون بلهجات كافة أهل الأرض.
تسابقوا إلى نزع ذاك النفاق، فرأى الواحد منهم ينزع عن وجهه قناعا واحدا، وآخر ينزع قناعين، وثالث ينزع ثلاثة أقنعة.
وعلى بعد كبير من الصفوف يجد مجموعة منهم تنزع عشرات ومئات الأقنعة وهم يبكون بكاء الندم والتوبة.
فتقدم إليهم جاك وسألهم عن شأنهم فأجابوه بأنهم الرؤساء والرعاة والدعاة.
فلما انتهوا من نزع أقنعتهم وجد قبحا لم ير مثله قط، فتفجعت نفسه وكاد قلبه يتوقف لولا أن تلك الوجوه سرعان ما تبودلت، فبعد أن كانت أقبح ما تكون ظهرت في أجمل صورة.
وفي جانب آخر وجد مجموعة من الرجال يحاولون نزع قلوبهم بكل قوة وهم يعضون على أسنانهم؛ فسألهم عن ذلك فأجابوه بأن قلوبهم امتلأت من كل صنوف الشر.
فقال لهم: أحسنتم.
وعاد إلى سيارته وظل سائرا حتى وجد نورا يكتسي بلون أخضر يشع من بعيد، فأقبل إليه في شغف، ودقق النظر إليها، فتبين له أنها جزيرة ذات أشجار كثيفة، أغصانها من القناديل التي ينبثق منها نور أخضر.
وكل يحيط به تموجات تصدر أصواتا كأصوات قيعان البحار.
فنزل عن سيارته واقترب منها، روحه تسعى إليها قبل قدميه، فوجد نهرا جاريا، ماؤه ذو لون أخضر، فظمئت نفسه، فسعى إليه راكضا حتى إذا ما وصل إليه مد يده إلى الماء على جانب من النهر واغترف غرفة واحدة وارتشفها من كفه، فتعجب من شأن تلك الغرفة؛ حيث روت نفسه الظامئة إلى درجة ظنه بأنه لن يظمأ بعدها أبدا.
وفجأة وجد ظبية على بعد كبير من النهر الواقف على شاطئه، فأمعن النظر إليها، فشعر بأنها منهكة عطشانة، وهي تحاول أن تقترب من الشاطئ بيد أنها لا تستطيع لوجود منحدر قد يجذبها إلى النهر.
فقال: لا تستطيع الاقتراب خشية أن يشدها التيار فتقع فيه، والنهر تغشاه أمواج كأمواج الجبال.
ومضت لحظات، والظبية تحاول بيد أن كل محاولاتها باءت بالفشل، حينئذ أقبل تمساح نحوها بأقصى سرعته.
فتفجع قلبه، وركض نحو الظبية يدعوها للفرار من أنياب التمساح، لكنه تفاجأ بأنها لم تكترث له، وظلت تنتظر في أمن ويعلو وجهها بسمات.
فتعجب من شأنها، حتى إذا وصل التمساح عبأ فمه بالماء واقترب من الظبية وضخ ما في فمه من ماء لها فشربت وعادت.
ونظر في الأفق، فوجد الفهود بجانب الظباء، ووجد الذئاب تحفر في الأرض للحصول على ماء الينابيع للإبل الظامئة.
وقد وجدت المخلوقات الحية العطف والرأفة من الطبيعة، حيث غاضتْ البراكين الثائرة نحو الأرض السابعة، وهدأتْ الأعاصير حتى تحوّلتْ إلى نسمات من الهواء الرقيق المستنشق.
فاستحضر موعظة في نفسه قائلاً: فلما تراحموا فيما بينهم وأقاموا العدل رحمتهم الطبيعة.
وانتبه في دهشة، وسأل نفسه: كيف يحيط بهؤلاء الناس الهالات الموجية وهم على الأرض؟
وظل يصرخ، يريد أن يجيبه أحد، فمرّ عليه فهمان، فلاذ به جاك وسأله: يا فهمان، أين أنت؟ من جاء بك هنا؟ ألم تعبر جسر الشيطان وتذهب إلى إبليس؟ لماذا عدت؟
لم يجبه فهمان.
ردد عليه نفس الأسئلة وهو يصرخ، يصرخ لواذا به، فلما تأكد أنه لن يجيبه سأله عن الناس التي رآها في تموجات زمكانية.
فلم يجبه ومضى.
صرخ جاك، وسعى خلفه يريد أن يدركه بيد أن فهمان دخل في تموجات واختفى وهو يسمع صوت قيعان البحار.
عندها هوى على ركبتيه متحسرا يبكي، وفجأة سكت وقال: علمت.
في تلك اللحظة أفاق من غفوته فرأى مقدمة السيارة ترتفع إلى أعلى السماء بصورة رأسية، فعدل اتجاهه واستدار وتوجه إلى الأرض.
وقال وهو يهز رأسه: علمت، الآن تأكدت.
الناس تحت تأثير جاذبية الثقب المعنوي، ثقب سحابة أورط، فإن ذهب تأثيره عنهم رحلت كل التموجات المعنوية وظهروا على حقيقتهم. رباه ما أحقر نفوس البشر.
وأخيرًا سأل نفسه: أين كنت يا ثقب منذ زمن؟
ما أجفاك يا حقير! ليتك تظلّ تقبع هناك تلاعبنا ولا تأكلنا، تخدشنا ولا تقطعنا، حتى نظلّ نحيا في ظل ناموسك الأكبر، يا ليت يا ليت.
وظل يفكر فيما رآه من أحلام اليقظة،وقال في نفسه: كم أوحشتني والله يا فهمان.
وتملك جسده رعدة وقال بصوت فيه رعشة وتلعثم: لو تحطم هذا الرابض في السماء لتذئّب الناس وتوحشوا من أجل استرداد ما أعطوه سابقًا.
وسوف أجد الولايات المتحدة الأمريكية مستدانة لطوب الأرض.
وعندئذٍ يكون العواء في الجحور قبل القصور، وفي رنين الفخار قبل رنين الذهب.
ولما هبط توجه إلى الناسا وهو يتفكر بقوله: أخشى ما أخشى أن أقتل الثقب فيقتلون الناس أنفسهم، فحسنة الأمس سيئة الغدِّ، وفضيلة الأمس رذيلة الغدِّ، تتبدّل كلّ المفاهيم عند زوال سلطان السماء، وتُهدم الكنائس التي على مشارف المساجد، وتُشنُّ الحروب الإسلامية تحت راية الإسلام، كما تُشنّ الحروب الصليبيّة تحت راية الصليب، إذا فسد أئمتهم وتطرّف مواليهم.
تعليق