( ١ ) العبادات أبواب معرفة الله تعالى ، وكلٌّ عبادة عبارة عن حيثية من حيثيات هذه المعرفة المقدّسة ، فلمعرفة الله تعالى طرق وحيثيات متعددة ، ومن أهمّها العبادات المرسومة لنا من قبل الشريعة والمطلوب منّا أدائها بكلِّ أقسام الطلب ، الإلزامي أو الترخيصي ، الفعل أو الترك ..
ومعرفة الله أهمّ وأفضل وأغلى ما في هذا الوجود ، عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) أنه قال : " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي فَضْلِ مَعْرِفَةِ الله عَزَّ وَ جَلَّ مَا مَدُّوا أَعْيُنَهُمْ إِلَى مَا مَتَّعَ الله بِهِ الْأَعْدَاءَ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا ، وَكَانَتْ دُنْيَاهُمْ أَقَلَّ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَطَئُونَهُ بِأَرْجُلِهِمْ ، وَلَنُعِّمُوا بِمَعْرِفَةِ الله جَلَّ وَ عَزَّ ، وَ تَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذُّذَ مَنْ لَمْ يَزَلْ فِي رَوْضَاتِ الْجِنَانِ مَعَ أَوْلِيَاءِ الله " الكافي ٨ / ٢٤٧ .
وإرتباط المعرفة بالعبادة إرتباط وثيق بحيث تدور العبادة مدار المعرفة المتحصلة منها من قبل العابد ، عن الإمام الباقر (عليه السلام) : " إنّما يعبد الله مَن عرف الله ، فأمّا مَن لا يعرف الله كأنّما يعبد غيره هكذا ضالاً ". تفسير العياشي ٢ / ١٥٥.
ويأتي لنا عن المعصوم تفسير ( ليعبدون ) في قوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) بمعنى ( ليعرفون ) لنفهم أن العبادة هي معرفة والمعرفة هي عبادة ..
فالصوم عبادة ، وكل عبادة معرفة ، فالصوم معرفة.. هكذا نستلم النتيجة بكل سهولة . ففي حديث المعراج ، يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله ربَّه جلَّ وعلا فيجيبه : " يا رب ما أوّل العبادة ؟ قال : أول العبادة الصمت والصوم ، قال : يا رب وما ميراث الصوم ؟ قال : الصوم يورث الحكمة والحكمة تورث المعرفة ، والمعرفة تورث اليقين ، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح ، بعسر أم بيسر " . بحار الأنوار ج٧٤ ص ٢٧
( ٢ ) فطرَ الله تعالى الإنسان على المعرفة ، والفطرة كما يعرّفها السيد الخميني قدس سره عبارة عن : " مجموعة من الصفات والقابليات التي تُخلَق مع المولود ، ويتّصف بها الإنسان في أصل خلقته سواء القابليات البدنية ، أو النفسية ، أو العقليّة " . ( الأربعون حديثا ص24 ) .
وما يؤيّد هذا الإستعداد الفطري للمعرفة ما ورد عن زرارة ، عن الإمام الباقر عليه السلام قال : سألته عن قول الله عز وجل ﴿حنفاء لله غير مشركين به﴾ وعن الحنيفية ، فقال : ( هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، وقال : ( فطرهم الله على المعرفة ) التوحيد للشيخ الصدوق ص ٣٣٠.
وفي تفسير الميزان : فقوله ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) إشارة منه تعالى إلى ما فطر ، أي أبدع وركز في الناس من معرفته ، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوّته على معرفة الإيمان وهو المشار إليه بقوله : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) ١٠ / ٢٩٩
وما هو فطري فهو ثابت وغير قابل للمسخ أو النسخ ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) الروم ٣٠
نعم ، يغشى هذه الفطرة ظلمات الذنوب وحجُب المعاصي فيُحرَم الإنسان من أنوارها وجمالها ( كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) المطففين ١٤
وهنا يأتي دور الصوم بعملية الجلاء والنقاء لجوارح الإنسان وجوانحهِ حيث يعمل على رفع ذلك الرين وتلك الأغشية الحاجبة للفطرة - التي هي مِلاك ومقتضي المعرفة - والمانعة من إستفادة الإنسان ، وذلك ضمن إجرائين :
الأول : إيقاف الصائم عن إكتساب المآثم وإرتكاب المحارم ، فلا يُكتفى بالإمساك عن الأكل والشرب وإنما ينبغي أن يتعدّى إلى أكثر من ذلك ، فمن صام صامت جوارحه كما في الخبر ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك من الحرام ، وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح ، ودع عنك الهذي وأذى الخادم ، وليكن عليك وقار الصيام ، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر الله ، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك .." ميزان الحكمة ج٢ص١٦٨٨
الثاني : غفران الذنوب والتكفير عن السيئات ، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( من صام شهر رمضان إيماناً وإحتساباً غفر الله له ما تقدّم من ذنبه ) . البحار ٩٤ / ١٧
بهذين الإجرائين المهمّين للصيام إذا ما أحسن الصائم في أداء الأول على أتمّ وأكمل وجه واستحقّ الثاني على أتمّ الإستحقاق يكون عندها الصوم قد بلغ غايته والصائم قد هيّأ لنفسه مقدّمات المعرفة وموجبات نيلها والفوز بكرامتها ..
( ٣ ) الصوم من العبادات التي تُعرِّف الإنسان على نفسه ، وتُطلعهُ على أحوالها ، وذلك لما فيه من مشقّة الجوع والعطش والتشديد في تقييد استعمال الجوارح ومطلوبية تحسين الخُلق في شهر الصيام .. ، أضف الى قائمة التروك هذه قائمة أخرى من أعمال ومستحبّات ترافق الصيام وتستوعب معظم يومه وعلى طول شهرٍ كامل .. حتى كان الصيام أحد معاني الصبر في قوله تعالى ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) ، عن الإمام الصادق عليه السلام : ( الصبر الصيام ، وإذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم ، فإن الله تعالى يقول : واستعينوا بالصبر والصلاة ) الوسائل ١٠ / ٤٠٨ ، ويعرّف السيد السبزواري قدس سره الصبر : ( هو كفّ النفس عن الهوى ، مع مراعاة تكليف المولى ) مواهب الرحمن ١ / ٢٩١ .
فالصوم اذن امتحان واختبار حقيقي لإمكانيات المكلّف وإستعداده لتحمّل هكذا تكاليف ومهامّ شرعية ، وبالتالي هي إطلالة جيدة يتعرّف من خلالها المرء على ما أنطوت عليه نفسه من نقاط قوّة أو ضعف ..
ولا يقتصر الصوم على قراءة صفحات النفس وإنما بنفس الوقت يؤدّي مهمّة إلجامها وتذليل قوى التمرّد فيها وتعزيز مقابض السيطرة عليها وتوجيه دفّة القيادة الى حيث ما ينبغي أن تتجه نحوه ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ) النازعات ٤٠-٤١.
ثم أنّ معرفة النفس - قراءةً وقيادة - من أوسع أبواب معرفة الله جلّ وعلا ، وكما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) ، وهذه الملازمة بين المعرفتين دلّت عليها الكثير من النصوص الشريفة وبألسنة مختلفة ، نقتصر على هذه الرواية الكافية والشافية في بيان المطلب إن شاء الله تعالى :
دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رجل أسمهُ مجاشع ، فقال : يا رسول الله ، كيف الطريق إلى معرفة الحق ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : " معرفة النفس " فقال : يا رسول الله ، فكيف الطريق إلى موافقة الحق ؟ قال؛: " مخالفة النفس" ، فقال : يا رسول الله ، فكيف الطريق إلى رضا الحق ؟ قال : " سخط النفس " ، فقال : يا رسول الله ، فكيف الطريق إلى وصل الحق ؟ قال : " هجر النفس" ، فقال : يا رسول الله ، فكيف الطريق إلى طاعة الحق ؟ قال : "عصيان النفس" ، فقال : يا رسول الله ، فكيف الطريق إلى ذكر الحق ؟ قال : " نسيان النفس" ، فقال : يا رسول الله ، فكيف الطريق إلى قرب الحق ؟ قال : " التباعد من النفس" ، فقال : يا رسول الله ، فكيف الطريق إلى أُنس الحق ؟ قال : " الوحشة من النفس" ، فقال : يا رسول الله ، فكيف الطريق إلى ذلك ؟ قال : " الاستعانة بالحق على النفس" . ميزان الحكمة ج٣ ص١٨٧٧
فالصوم طريق لمعرفة النفس ، والنفس طريق لمعرفة الله .. رزقنا الله وإيّاكم فضل وشرف المعرفتين ، فهو نِعمَ المولى ونِعمَ المُجيب .
( ٤ ) الصوم من العبادات التي تجعل المكلّف يعيش حالة من الإستشعار أو الإقتران المعرفي مع أشخاص يمرّون بحالة من الشدّة والمجاهدة مع الحاجة الشديدة الى الرحمة والمساعدة .. ومنها استشعار حال الذي يكابد الفقر والفاقة في الدنيا وحال الإنسان وهو في عرصات القيامة وفي ذلك الموقف المُذهل والمصير النهائي لوجوده .
عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) - في علة وجوب الصوم - : " لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش ، ويستدلّوا على فقر الآخرة ، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً لما أصابه من الجوع والعطش ) ميزان الحكمة ج٢ص١٦٨٥ . وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله : " وإذكروا بجوعِكُمْ وعطشِكُم فيهِ جوعَ يومِ القيامةِ وعطشِهِ " .
وكلّما انقطع الإنسان بحاجته وفاقته الى الله تعالى وتخلّى عن كلِّ ما سواه وجاهد في تحملّها كلما كان أقرب الى الله تعالى ، فمن جاهدَ شاهد كما يقول أصحاب الرياضات الروحية .. عن الإمام الصادق عليه السلام : ( إن الله عزوجل يقول : يحزن عبدي المؤمن أن قتّرت عليه وذلك أقرب له مني ، ويفرح عبدي المؤمن أن وسّعت عليه وذلك أبعد له مني ) الكافي ج2 ص141 ، وسُئل رسول الله صلى الله عليه واله عن الفقر فقال : ( خزانة من خزائن الله ، كرامة من الله ، شيء لا يعطيه الله الا نبياً مرسلا أو مؤمناً كريماً على الله ) جامع السعادات ج2 ص84 .
وطريق الإستشعار والاقتران المعرفي مع أشخاص يمرّون بحالات هُم بأمس الحاجة الى الرحمة والمساعدة والمواساة من أقصر الطرق الى الله تعالى ، سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله : أين الله ؟ ، فقال : " عند المنكسرة قلوبهم " . ولهذا أعدّ لنا رسول الله في الخطبة التي استقبل بها شهر رمضان قائمة من العناوين التي تستحق هذا النوع من التفاعل :
+ وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم .
+ ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم .
+ وتحننوا على أيتام الناس كما يتحنن على أيتامكم .
وربما هناك تفاعل قهري يحصل بين شخصين بينهما علقة أو رابطة معينة ، فتحدثنا الروايات عما يحصل بين المؤمن وأهل البيت عليهم السلام من مفاعلة ، عن أبي بصير : دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ومعي رجل من أصحابنا ، فقلت له : جعلت فداك يا بن رسول الله إني لأغتم وأحزن من غير أن أعرف لذلك سببا ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( إن ذلك الحزن والفرح يصل إليكم منا ، لأنا إذا دخل علينا حزن أو سرور كان ذلك داخلاً عليكم ، لأنا وإياكم من نور الله عز وجل ) . ميزان الحكمة ج١ص٦١٤
( ٥ ) يتميّز الصوم عن غيره من العبادات بإمكانية إخفاءه عن الآخرين ، وفيه خصوصية السريّة بين العبد وربّه ، مما يقطع عن هذه العبادة كلَّ أسباب الشرك والرياء لمن أجاد أداءها والحفاظ على خصوصيتها .. غير باقي الفرائض التي قد يصعب على المكلّف اخفاءها إن لم يكن ممتنعاً أصلا ، فالصلاة مثلاً لها هيئة واضحة وكذا الحج والجهاد ، والزكاة فيها طرف آخر ، وكذا سائر الفرائض الأخرى مما يجعل فيها الإخلاص أكثر صعوبة وأعقد إحرازا ..
وما يؤيّد ميزة الصوم بالإخلاص وخصوصية السريّة هو تعبير الحديث القدسي الوارد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بـ « الصوم لي » : ( كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) . وتقول سيدتنا الزهراء عليها السلام : ( فرض الله الصيام تثبيتاً للإخلاص ) .
وثمرة الإخلاص هي لقاء الله ، قال تعالى ( فمن كان يرجو لقاءَ ربِّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادةِ ربِّه أحداً ) الكهف ١١٠ ، والإخلاص بنفسه ثمرة متقدمة للمعرفة ، حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام ( أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاخلاص له .. ) ، نفهم أن الصوم هو عبادة تطوي عدداً من مراحل المعرفة ( معرفة » تصديق » توحيد ) لتقدّم لنا الإخلاص المتصل بلقاء الله تعالى وهو غاية المنى ..
( ٦ ) عند المقارنة بين بعض الروايات الواردة في فضل الصوم وثواب الصائم والبعض الآخر الذي يبيّن فيه النص الشرعي فضل العلم والعلماء ، يُلحظ من هذه المقارنة المشابهة بين الطرفين ويُعرف منها أن الصائم قد دخل في امتيازات العلماء والعارفين فعلاً وأصبح ضمن صفوفهم وشملته استحقاقاتهم ..
فما أشبه القول المرويّ عن الإمام علي ( عليه السلام ) في الصائم : ( نوم الصائم عبادة ، وصمته تسبيح ، ودعاؤه مستجاب ، وعمله مضاعف .. ) مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله في العلماء ( يا علي نوم العالم أفضل من عبادة العابد ، يا علي ركعتان يصليهما العالم أفضل من سبعين ركعة يصليها العابد ) ..! وبين قوله صلى الله عليه واله ( وكان لله فيه - شهر رمضان - عند كل فطر عتقاء يعتقهم الله من النار ) مع قوله صلى الله عليه وآله ( من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلّمين ) ..!
بل جُعل الصوم مقياساً لثواب العلم ، عنه صلى الله عليه وآله ( من طلب العلم فهو كالصائم نهاره القائم ليله ) ..
ولو أمعنّا النظر لوجدنا أن المكلّف في شهر رمضان - بالإضافة الى حيثية الصوم - يدخل في دورة تعليمية معرفية عالية المستوى ، سواء في تلاوة القرآن الكريم بتدبّر وخشوع أم في قراءة الأدعية الشريفة بتوجّه وحضور قلب .. وهذه النتيجة قد تتفرّع عنها نتيجة أخرى وهي أن تلاوة القرآن والدعاء - بشروط قراءتهما - في الشهر الفضيل من قيود الصوم المورث للمعرفة والموجب للإستحقاقات العالية التي يشترك بها الصائم مع العالِم ..
وهذا تفرّد كبير للصوم عن باقي الفرائض الأخرى ، يقول ابن عربي في الفتوحات المكية : " وليس له مثيل - أي الصوم - بين العباداتِ التي شرعها الحقُّ ، ومن أجل ذلك شابهتْ هذه العبادةُ في تَفَرُّدِها الحقَّ الذي لا نظيرَ له ، و« لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » في الوجود ، وما جاء في الحديث من فرحة الصائم بصومه إذا لقِيَ رَّبه دليل على هذا المعنى ، إذ يفرح في الحقيقة بدرجةِ نفيِ المُمَاثَلَةِ التي حصَّلَها مُدَّة صيامِه " .
( ٧ ) ثنائية العلم والتقوى من المسلّمات المعرفية في الإسلام ، دلّت عليها النصوص الشرعية وبرهنت عليها تجارب العلماء وسيرة العرفاء ..
قال تعالى : ( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ) أي القدرة على تمييز الحق من الباطل ، وآية أخرى جعلت العلم من أسباب التقوى - على رأي - في قوله تعالى : ( وَاتّقُواْ اللّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ، وجاء وعد الله صريحاً في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) ..
ويكفي أن يتقيّد هدى القرآن الكريم بالمتقين : ( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ..
وفي وصيّة الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام : " أشعر قلبك التقوى تنل العلم " ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : "ما ازداد عبد علمًا فازداد في الدنيا رغبة إلا ازداد من الله بعدًا ".
والتقوى بحسب تعريف الإمام الصادق عليه السلام : ( أن لا يفقدك الله حيث أمرك ، ولا يراك حيث نهاك ) ..
وبعد أن ثبتت الملازمة بين التقوى والعلم ، يأتي دور الصيام ليقدّم لنا هذه التحفة ويزرع بنا هذه الجوهرة ويُكرمنا بالتقوى ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة ١٨٣ . ومن أُعطيَ التقوى فقد أعطي الفرقان والعلم والنور ، وهذا غيض من فيض كرَمِ شهر رمضان ومائدته الشريفة المنيفة ..
وربما نتسائل عن سبب هذه الملازمة بين العلم والتقوى ، وقد تزدحم الأجوبة في الذهن عند الإجابة ولكن ما أريد أن أذكره دون غيره هو أن التقوى عنصر أمان تمنع من الاستغلال السيء لكل قوة أو علم أو مهارة ، مادية كانت أو روحية .. وخاصة تحصيل العلوم وتطوير تطبيقاتها وتقدّم استخداماتها ، فإنها إن لم يُحسن استخدامها فستكون وبالاً على البشرية وعنصر قتل وفساد أو ضلال بين الناس ..
( ٨ ) العبادات في الإسلام ليست عبادات رهبانية صوفية كما قد يتصور البعض بقدر ما هي جزء من نظام إسلامي تم تصميمه لأفضل وأسمى حياة على هذه الأرض والوصول الى مستوى واستحقاق خلافة الله فيها .
فهي عبادات روحية معرفية مهمتها تقرّب الإنسان من مبدأه وتجعله جزءاً من أنساق كونية غيبية تسير نحو تكاملها المرسوم لها.. من جهة .
ومن جهة أخرى هي جزء من اجراءات استعمار الأرض من قبل الإنسان .
قد نهتم كثيراً بالوظيفية الأولى، ونطمئن أن لها ثواباً آخروياً وأنها تورث القرب والمحبوبية الربانية، ولكن ليس بنفس القدر نهتم ونؤمن ونطمئن الى الوظيفة الثانية لهذه العبادات وأنها جزء من نظام حياة وأنها عبارة عن برنامج لسعادة البشرية ورفاهيتها ..
فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .. فهي ذات وظيفة اجتماعية واضحة اذن ، والزكاة ذات وظيفة اقتصادية ، والجهاد وظيفة دفاعية .. وأما الصوم فهو العبادة التي تدعم كل العبادات الأخرى من خلال التقوى التي يوفرها عند الفرد ، والتقوى عبارة عن التزام دقيق بكل ما أمر ونهى الله تعالى .. وعندها يكون الصوم ذا وظائف اجتماعية واقتصادية ودفاعية .. الخ بالاضافة الى وظائفه القربية والغيبية الأخرى ..
قال تعالى ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف ٩٦
تعليق