بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
إن سورة “القمر” فيها عرض للأمم السابقة، فقد تم ذكر خمسة أقوام في هذه السورة.. فهي من أولها إلى آخرها فيها إنذار، وذكر لعذاب تلك الأمم ماعدا الآيتين الأخيرتين.
﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾.. أي أيها الكفار!..
أولاً: هل أنتم أحسن حالاً من قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون!.. أنتم لستم بأفضل منهم: لا في القوة، ولا في الثروة، ولا في كثرة العدد والعدة!..
ثانياً: هل استثناكم أحد من العذاب؟.. هل لكم براءة من العذاب في الكتب السالفة: أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية، وأن لكم أماناً من الله -عز وجل-؟..
﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾.. أم أنتم معتمدون على قوتكم وعددكم؟.. “بل أ يقولون -أي الكفار-: نحن قوم مجتمعون متحدون، ننتقم ممن أرادنا بسوء، أو ينصر بعضنا بعضاً فلا ننهزم”.
﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾.. والمعنى: “أي جمع كفار مكة «ويولون الدبر» أي ينهزمون، فيولونكم أدبارهم في الهزيمة.. ثم أخبر سبحانه نبيه (ص) أنه سيظهره عليهم ويهزمهم، فكانت هذه الهزيمة يوم بدر”.
﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾.. أي: “أن ما يجري عليهم من القتل والأسر يوم بدر وغيره، لا يخلصهم من عقاب الآخرة، بل عذاب الآخرة أعظم في الضرر، وأقطع وأمرّ؛ أي أشد مرارة من القتل والأسر في الدنيا.. وقيل: الأمرّ: الأشد في استمرار البلاء؛ لأن أصل المرّ النفوذ”.
مسألة عقاب الأمم السابقة:
إن الله -عز وجل- أنزل العقوبة على قوم لوط، وأغرق قوم فرعون، وأرسل ريحاً صرصراً على قوم عاد… الخ؛ ولكنه لم يعذّب الأقوام في زمان النبي (ص) وذلك لسببين؛ والله العالم بحقائق الأمور:
أولاً: إكراماً للنبي (ص) رفع رب العالمين عذاب المسخ، والعذاب الذي كان في الأمم السابقة، يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
ثانياً: لعل عذاب الكفار في زمان النبي (ص)، أشد من عذاب الكفار في زمان قوم لوط ونوح؛ لأن قوم لوط لو بقوا أكثر من هذا، لتمادوا في معصيتهم.. ولكن رب العالمين قطع أعمارهم، وأعمار قوم نوح وعاد وثمود.. فغير المؤمن كلما عُجّل في موته؛ كان خيراً له.. بعض الأوقات رب العالمين رأفة بأبوين صالحين، يقبض روح ولدهم الشاب؛ كرامة لهما.. لأن هذا الشاب لو بقي حياً، لن يلد إلا فاجراً كفاراً، وكلما طال عمره كثرت خطاياه.. لذا، فإن الموت للبعض نعمة!.. ولهذا في زماننا -زمان غلبة الفساد- لو ابتلي الأب بفقد عزيز شاب؛ فإنه يبكي؛ لأن القلب يحزن، والعين تدمع، ولكن في أعماق نفسه يقول: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.. وهذا المعنى وارد في أدعية أهل البيت (ع)، فعن الإمام السجاد -عليه السلام-: (وعمرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان، فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إلي).. وفي مناجاته -عليه السلام- يقول: (أ للشقاء ولدتني أمي، أم للعناء ربتني.. فليتها لم تلدني ولم تربني).. هذا الكلام من المعصوم بلسان حال الأمة!.. وبالتالي، فإنه يمكن أن نقول: أن عذاب الأمم اللاحقة، أعظم من عذاب الأمم السابقة!..
﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ﴾.. هذه هي نهايتهم؛ في النار المسعرة، يقول صاحب تفسير الميزان: “قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ﴾ جمع سعير، وهي النار المسعرة.. وفي الآية تعليل لما قبلها من قوله: ﴿وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾، والمعنى: إنما كانت الساعة أدهى وأمرّ لهم؛ لأنهم مجرمون.. والمجرمون في ضلال عن موطن السعادة وهو الجنة، ونيران مسعرة”.
﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾.. أي يُجرّون على وجوههم في حصب جهنم، فيا له من منظر مخيف!.. ويقال لهم: ذوقوا حرّ النار؛ جزاء استكباركم في الحياة الدنيا.
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.. أي أن العالم يدار من خلال القوانين، فكل شيء له قانون، حتى دخول الكافر جهنم، فهو مقدر: من أي باب، وكم سنة، وبأي عذاب؟!.. ولكن علماء التفسير والعقائد يقولون: أن هذا التقدير مربوط بعمل العبد بالقوانين الإلهية في العقاب والثواب.. فمثلاً: كتب رب العالمين في لوحه المحفوظ: من عمل هذا العمل؛ فإن جزاءه دخول جهنم، والسحب على الوجه ﴿يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾، ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾.. فهذه كلها مقدرات لمن قام بأعمال معينة، والإنسان باختياره قام بتلك الأعمال؛ لذا فإنه ينال هذا الجزاء.. وكذلك بالنسبة لأهل الجنة!.. فإذن، هناك قواعد ونظريات وأسس، ونحن الذين ندرج أنفسنا تحت هذه اللوائح.. جاء في تفسير البيان: “أي كل شيء خلقناه مقدراً بمقدار توجبه الحكمة، لم نخلقه جزافاً، ولا تخبيتاً.. فخلقنا العذاب أيضاً على قدر الاستحقاق، وكذلك كل شيء في الدنيا والآخرة خلقناه مقدار بمقدار معلوم”.
﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾.. إن الأمر مذكّّرٌ، فلمَ قال: واحدة؟.. يقولون: هنا مقدر كلمة “الكلمة” أي: إلا كلمة واحدة كلمح بالبصر.. فرب العالمين ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.. قال: كن!.. وخلق السموات والأرض في ستة أيام؛ لأنه -سبحانه وتعالى- أرادها تدريجاً.
الدرس العملي:
كأن رب العالمين يريد أن يقول: يا أصحاب الحوائج العظام، إن كنتم تريدون المقامات الراقية؛ فعليكم بالدعاء!.. إن البعض قد يطلب مقامات المنقطعين إلى الله -عز وجل- وهي مقامات عالية جداً؛ رغم أنه قريب عهد بالبلوغ.. وهذا أمر لا بأس به!.. فليسأل الله -عز وجل- أن يهبه كمال الانقطاع إليه.. فلعله في ليلة من الليالي، رب العالمين يستجيب له ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾.. لذا، عليه أن لا ييأس من روح الله، فالأيام كفيلة بأن يصل إلى هذه الدرجات إن شاء الله -تعالى-.. مثلاً: بالنسبة لجهاز الحاسوب: بعض الأوقات يستخدمه الإنسان للكتابة، وهذا أمر بسيط.. وأحياناً يتصرف بالشاشة، فالمهندس البارع يدخل في لب الجهاز، ليتصرف في الأوامر الداخلية؛ عندئذ الجهاز كله يتبرمج.. ورب العالمين بيده الحاسوب الأعظم ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾: فالإنسان الذي يدعو في جوف الليل، أو في ساعة الاستجابة، أو في حال السجود كأنه يقول: يا رب، غيّر الجهاز الداخلي، ليتغير البرنامج من أساسه.. فالقضية ليست قضية عوارض وأمور طارئة.
فإذن، المؤمن بإمكانه أن يغيّر المقدرات، لأن الدعاء يردّ البلاء، وقد أبرم إبراماً.. مثلاً: كُتب للإنسان حادث سير مروّع، بحيث تتحوّل سيارته إلى تابوت.. ولكنه في سجدة صلاة العشاء قال: يا ولي العافية، نسألك العافية!.. فيأتي الأمر الإلهي من الحاسوب العملاق: ارفعوا عنه الحادث.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾.. هناك آيات تذكر نهر من خمر، أو من ماء، أو.. الخ، ولكن العبارة هنا مبهمة ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾، فما هذا النهر؟.. جاء في تفسير الميزان: “أي في جنات عظيمة الشأن، بالغة الوصف.. ونهر كذلك، قيل: المراد بالنهر الجنس، وقيل: النهر بمعنى السعة”.
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾.. بعض نعيم الجنة يحتاج إلى دخول الجنة؛ أي: الموت أولاً، ثم البرزخ، ثم القيامة، والنفخ في الصور، وعبور الصراط، ثم دخول الجنة والتنعم بها.. فالذي يتمنى الحور العين وهو في الدنيا، هذا الإنسان لا يحقق مبتغاه.. ولكن بعض نعيم الجنة، من الممكن أن نحوز عليه من الآن، ومنه ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾.. فهذا الكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ما هي صفته؟.. يقول صاحب تفسير الميزان: “ويمكن أن يراد به كون مقامهم، وما لهم فيه صدقاً لا يشوبه كذب، فلهم حضور لا غيبة معه، وقرب لا بعد معه، ونعمة لا نقمة معها، وسرور لا غم معه، وبقاء لا فناء معه”.. كل هذه الدرجات، من الممكن أن نصل إليها في دار الدنيا.. عن جابر قال: بينا رسول الله (ص) يوماً في مسجد المدينة، فذكر بعض أصحابه الجنة، فقال النبي (ص): (يا أبا دجانة!.. أما علمت أن من أحبنا، وابتلي بمحبتنا؛ أسكنه الله -تعالى- معنا؟.. ثم تلا: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾).. بعض الأوقات يبتلى الإنسان بمحبة أهل البيت (ع): فالأعداء يشمتون به، ويستهزؤون به، ويثيرونه بالاستهزاء بعقائده؛ ولكن جزاءه الجنة مع النبي (ص) وآله في الآخرة.
فإذن، إذا أوذي الإنسان في الله -عز وجل-، وفي طاعة الله -عز وجل-، وعُيّر بمحبة علي وآل علي (ع)؛ فهو مرشح لأن يكون في مقعد الصدق.