04-04-2024
تفسير سورة الحمد([1]).. إنّ ألفاظ هذه السورة ومعانيها سهلة وواضحة، فهي لا تتضمّن مفردات غريبة أو معاني تركيبية معقدة ولو على وجه التعقيد العارض كما قد يتفق في بعض السور والآيات القرآنية، ولكننا نريد أن نتأملها مزيد تأمل ونستنطقها عن المعاني العامة المنظورة بها.
موضع السورة نزولاً: وهي على المشهور السورة الخامسة في النزول بعد العلق والقلم والمزمل والمدثر، وقيل إنها الثانية وقيل إنها الأولى، وهي على كل حال من السور القصار الأوائل، ولذا ينبغي النظر في مقام تفسيرها إلى موقعها.
لكننا مع ذلك تحدثنا عن البسملة فيها حتى كأنها أوّل السور المشتملة عليها وإن كان الذي رجحناه كون البسملة جزء من سورة العلق وسائر السور التي قد تكون قد نزلت قبلها [أو بعدها]، على أنّ سورة العلق على كل حال هي أوّل سورة تتضمن أدب التسمية إذ جاء فيها بعد البسملة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾([2]) إلا أنّ حديث المفسرين عن التسمية في سورة الحمد اقتضى حديثنا أيضاً عنها في هذا الموضع.
البيان الإجمالي لسورة الحمد
ونتطرق أوّلاً لتوضيح إجمالي لمفاد هذه السورة، ثم نعود إلى الحديث عن كل فقرة فيها لتأمّل مداليلها أو بعض ما شابها في كلمات بعض الباحثين تفصيلاً.
تتميّز هذه السورة بين السور القصار أنّها تركز على إثبات كل الأمور الراجعة إلى الإله لله سبحانه حصراً ونفيها عمّا يعبد مع الله سبحانه أو من دونه، فالله سبحانه هو المستوجب للحمد في ما يشهده الإنسان في الكون من الإبداع وينتفع به من نِعَمٍ، وهو رب الإنسان ـــ المعني به ـــ كسائر العالمين، وهو الذي يرحم الإنسان في مواضع الحاجة، وهو صاحب يوم القيامة الحاكم فيه، ولذلك فإنّ الإنسان الراشد الواعي يعبد الله سبحانه وحده ويستعين به ويستهديه في مسيرته في هذه الحياة التي تنتهي إلى الله سبحانه، فهذه السورة هي رسالة إلهية قصيرة ومعبّرة إلى الخلق.
الآية الأولى
وقد بدأت بالأدب الذي أُسس له منذ السورة الأولى وهي سورة العلق، حيث بُدئ فيها ـــ أي سورة العلق ـــ بالبسملة لتكون جملة منسقة مشتركة بين بدايات السور، وأُوضحَت هذه البسملة بقوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾([3])، فكانت البسملة بياناً للأدب اللائق لبداية الرسالة الإلهية كما كانت أدباً متعارفاً قبل الإسلام في الرسائل، وقد جاء أنهم كانوا يكتبون: (بسمك اللهم)([4])، وجاء قبل ذلك بمئات السنين عن سليمان (على نبينا وآله وعليه السلام) ـــ الذي ذكر أنه تُوفي سنة (914) قبل الميلاد ـــ أنه كتب في رسالته إلى ملكة سبأ: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ﴾([5])، فكانت بداية الرسالة تسمية لله سبحانه.
فهذا فيما يبدو أدب كان سائداً، وربما كان هذا الأدب مما أرساه الله سبحانه من خلال رسله (عليهم السلام)، ثم وقعت تسريته إلى سائر الآلهة وغيرها.
وقد اختير في هذا الأدب توصيف الله سبحانه بالرحمن كلقبٍ له، وهو لقب كان معهوداً في القسم [الجنوبي الغربي] من الجزيرة العربية ـــ أي اليمن ـــ، وربما كان من آثار الرسل السابقة في تلك البقعة أو غيرها، وكأن هذا الاختيار كان لأمرين:
1-رفع توهم تعدّد الآلهة في الجزيرة العربية وإزالة العصبية بين أهل الجزيرة وبين أهل اليمن في الإله المعبود، حيث كان التعبير السائد عند أهل الجزيرة عن الله سبحانه هو لفظ الجلالة (الله)، والتعبير السائد عند اليمنيين هو (الرحمن)، وربما يكون مثل هذا التعدد مبعثاً للمِراء والمجادلة بأنّ الإله الأعظم لأهل الجزيرة غير الإله الأعظم لأهل اليمن وما إلى ذلك، فاستُخدم لفظ (الرحمن) لدفع توهم تعدد الآلهة([6]).
2-التعبير عن الصفة المميزة التي يُحب الله سبحانه أن يُعرف بها كلقب له، فإنّ الألقاب تعبّر عن الصفات المميزة للأسماء، مثل لقب الأمين للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الجاهلية، ولقب الرسول له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الإسلام، ولقب أمير المؤمنين للإمام علي (عليه السلام)، ولقب زين العابدين لحفيده علي بن الحسين (عليهم السلام) وهكذا، فالرحمان المعبِّر عن سعة الرحمة بصيغة المبالغة فيها هو الوجه الذي أراد الله سبحانه أن يكون لقبه الخاص بين عباده كما قال سبحانه: ﴿رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾([7])، فجعلت صفة الذات الإلهية العامة هي الرحمة تعبيراً عما يليق بها وليكون ذلك باعثَ اهتداءٍ إليه، إذ كانت حاجة الفرد إلى الإله إنّما هي رغبةً في رحمته وعنايته.
وقد أكّد ذلك بصفة (الرحيم) لأنّ البُعد الوصفي في اللقب يضعف بصيرورته لقباً، بل قد تبقى دلالته على معناه الوصفي كتلميح فقط من غير تركيز عليه، وربما يُغفل عنه، فعقّب سبحانه كلمة الرحمن عنايةً بتمثيل صفة الرحمة عن نفسه بلفظ (الرحيم) ليؤكد على صفة الرحمة قبل كل شيء في بداية الكلام ليكون مخرج الكلام منذ بدايته مخرج الاسترحام والاستعانة بالله سبحانه وليبطل الالتجاء لطلب الرحمة من الأصنام في مستوى الشرك كما كانت عليه البيئة التي نزلت الآية فيها.
فهذا المعنى الذي تمثله البسملة على الإجمال، وذلك أمر مشترك بين سورة الحمد وسائر السور بعد ما تقدّم من أنّ البسملة جزء من السور جميعاً، وأنّ سورة الحمد ليست هي أوّل السور نزولاً، وإنّما سلمت سورة الحمد عن توهم أنّ البسملة ليست جزءاً منها إلى حدٍ كبير بالمقارنة مع باقي السور باعتبار الإشارة إلى عدد آياتها في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾([8])، ووقوع التركيز عليها في بداية الصلاة والمواظبة المروية على البسملة فيها من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإلّا فالبسملة جزء مشترك بين السور على ما رجحناه ولا تمتاز بها هذه السورة عن غيرها.
وأما امتياز هذه السورة عن باقي السور القصار فهي بما بعد البسملة من مضامين السورة.
الآية الثانية
لقد كانت هذه السورة مميزة بين السور بالثناء الجميل على الله تعالى وشد الإنسان إليه تعالى رغم قصرها، فبدأت بحمد الله سبحانه معبِّرةً بذلك أنّ كل حمد يُستوجَب بموجب الألوهية في هذا الكون والوجود فهو كله لله سبحانه مشيرةً بهذا إلى أنّه تعالى الإله الوحيد للخلق والمخلوقات كلّها والمدبّر لأمورها، فكل حمد وثناء يحفّز عليه هذا الوجود بما فيه من أنواع الخلق والمخلوقات وبدائع صنعها وسنّ سننها والملاءمة بينها سواء في البعد الكوني العام في السماء والأرض أو في البعد المتعلّق بالإنسان نفسه من حيث خلق الإنسان في أحسن تقويم وجعله في ضمن مجتمع يتناسل ويكون له أولاد وأقرباء وحفدة وأصحاب ويكون الناس شعوباً وأقواماً يتضامنون في المصالح، أو كان في سائر أنواع الكائنات من الحيوانات والنباتات وتسخيرها للإنسان، فللّه سبحانه الحمد في صناعة كل ذلك وتدبيره كما تواتر ذكر هذا المعنى في السور القرآنية المتوسطة والمفصلة.
وهذا الكون بما فيه من دقائق وإبداع ينطق كله بالحمد والثناء لله سبحانه، ولكننا قد نحتاج إلى نفض غبار الاعتياد عنه، ولولا الاعتياد على هذا الكون لشعرنا بمدى مستوى الإتقان والإبداع والقدرة والدقة في تفاصيل هذا الكون وفي أنواع الكائنات والملاءمة بينها وسننها وخصوصياتها حقاً كما يعرض القرآن الكريم في كثير من آياته، فهذا الكون معرض الصنائع الإلهية والقدرة الإلهية والفن والإبداع الإلهي، وكل هذه المقدرة والفن والإبداع من يُثنَى عليه بها هو الله سبحانه حقاً، فإذا أثنينا على شيء بأن قلنا ـــ مثلاً ـــ كم هذه الزهرة جميلة، كم هذا الشيء عجيب، كم هذا الشيء مذهل، كم هذه السماوات واسعة، فذلك ثناء على الله سبحانه، وإذا نطقنا بحمد وثناء وإعجاب وإكبار لشيءٍ ما في الكون من الإنسان، وقدراته، وقابليته على الاكتشاف والاختراع والاهتداء والتحليل والتفكير، وكل ما أثنينا به في شيء ومدحنا شيئاً وأُعجبنا بشيء وراقنا شيء فهذا الحمد في الحقيقة يعود إلى الله سبحانه، فالإنسان يبدي الإعجاب بالمعرض الكوني والمعروضات فيه ولكنه لغفلته لا يعرف صاحب هذا المعرض ولا ينتقل إلى صاحب هذا المعرض، فالحمد حقاً كله لله سبحانه.
ثم نَبَّه الله سبحانه على ربوبيته للعالمين كلهم بقوله بعد الحمد لله: (ربّ العالمين)، وذلك أنّ للّه سبحانه دَوْران:
دور الخلق: الذي كانت تعترف به الأقوام عموماً، وكان محل إذعان العرب في الجزيرة رغم شركهم، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ﴾([9]).
ودور الربوبية: وهو دور التعهد بتدبير الخلق وقضاء حوائجهم وأمورهم، وهو المعبَّر عنه بدور الربوبية، فرَبُّ الشيء هو الذي يكون صاحبه المعني به، مثلاً: ربُّ الغنم يطلق على مالك الغنم باعتبار عنايته، وقد يطلق على الراعي الذي يدبرها ويذهب بها للرعي.
فالربوبية تعني أنّ الرب صاحب هذا الشيء والمعني به.
هذا، وكأنّ الناس بطبيعتهم يميلون إلى اتخاذ إله أدنى مشهودٍ لهم، قريب إلى أحاسيسهم، يتكفل حوائجهم ويُعنى بهم، ولذا كانت الأديان التوحيدية دائماً تُحرَّف إلى أديان شركية، وربما تتمحّض في الشرك أصلاً أو يُترك فيها الله سبحانه تدريجاً؛ لأنّ هذا الكائن الأدنى يتبدل إلى الأيقونة التي يتمثل فيها الإله، ولا يعتقدون بشيء وراءه، فهذا من الميول البشرية الملحوظة، والتي أفسدت كثيراً من الأديان كدين المسيح (عليه السلام).
وربما كانوا يعتقدون بأنّ هذا إله أدنى وفي السماء إله أعلى، وكأنّ الإله الأعظم ــــ وهو الله سبحانه ــــ غير معني بالأرض وبالإنسان، إذ ليس قريباً منهم، فهو ـــ مثلاً ـــ معني بالملائكة الذين هم في السماء، فيحتاج الإنسان إلى ربٍّ يتعهده ويتكفل حوائجه، ومثل هذه الأوهام هي سبب بحث الناس عن آلهة أخرى.
فالمراد بقوله ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ التأكيد للناس في سياقٍ مرتبطٍ بالرحمة الإلهية العامة أنّه سبحانه معني بالإنسان وهو ربه وصاحبه كما قال عز من قائل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾([10])، فلماذا يذهبون يميناً وشمالاً؟ ولماذا يبحثون عن أرباب مصطنعة؟ ولماذا يتيهون؟ فهو سبحانه ربّ العالمين كلهم، وليس خصوص الملائكة التي كان بعض العرب يفترض أنّ الله سبحانه معني بها وهي بنات الرحمن باعتبارها في السماء مثلاً حسب طرق تفكيرهم، ولذلك قال عز من قائل في رد هذا الوهم: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَـهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَـهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾([11])، إذن هؤلاء يعتبرون الله تعالى إلهاً معنياً بالسماء وأنّه لا يعتني بالبشر، ولذلك قال الله سبحانه: إنّه رب العالمين جميعاً.
الآية الثالثة
وعقّب ذلك سبحانه مرة أخرى بالرحمن الرحيم تأكيداً على ما يحتاجه الإنسان من جهة ضعفه البالغ في نفسه وفي خضم تحديات هذه الحياة من الرحمة في شؤونه كلها، فهو سبحانه فاتحٌ أبواب عطائه بالرحمة للخلق، فربوبيته للخلق هي ربوبية رحمة ورفق وتيسير، وهذا المعنى من شأنه أن يشدَّ الإنسان إلى الله تعالى ويوجه أمله إليه، لأنّ الإنسان يبحث عن اللفتة الحانية والرحيمة والودودة والرؤوفة.
فلم يكتفِ سبحانه بذكر الرحمن الرحيم في البسملة، وكأنه من جهة أنّ البسملة بعد أن أصبحت أدباً عاماً لبداية الكلام قلّ التركيز فيها بالنسبة إلى ما يَرِد فيها من توصيف، فلذلك اعتنى بتكرار هذا المعنى تأكيداً على أنّ ربوبيته ربوبية رحيمة ومقرونة بالرحمة مؤكداً، كما يقتضيه لقبه: الكريم (الرحمن).
الآية الرابعة
ثمّ عقّب ذلك سبحانه بـ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، بلسان فارغ عن ثبوت يوم الدين الذي كانت كثير من الأقوام لا تؤمن به، مثل عامة العرب في مكة والجزيرة العربية، وهم يرون فناء الإنسان بالممات، ويرجون الإله لشؤون الحياة، وفي هذا ما قد يؤشّر إلى أنّ هذه السورة حيث تكلمت بلسان المفروغية عن وجود يوم الدين يمكن أن تكون قد نزلت عقيب الأخبار عن وجود هذا اليوم كما جاء في سورة العلق قبلها: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾([12])، وجاء أيضاً في سورة القلم والمزمل والمدثر، وهناك سور عديدة قصار من الجزء الثلاثين (جزء عم) والجزء التاسع والعشرين (جزء تبارك) خُصصت لإثبات يوم الدين، مثل سورة التكوير (السابعة في النزول، والتكاثر (السادسة عشر بحسب النزول) والقارعة (الثلاثين في النزول) والقيامة (الواحد والثلاثين في النزول).
لقد لفتت هذه الآية الإنسان إلى أنّ أبعاد حياته وحاجته إلى رحمة الله سبحانه، وأنّ أبعاد ربوبية الله سبحانه للإنسان لا تنحصر بهذه النشأة الدنيا، فللإنسان موعد مع يوم الدين والجزاء مما يعني أنّه يُجازى بأعماله في هذه الحياة في نشأة لاحقة، وتلك نشأة لم يترك الله سبحانه فيها الأمور لطبيعتها ولم يُخفِ دوره فيها، بل يتجلى ملكه فيها دون خفاء وحجاب، فهذه النشأة الدنيا قد يكون استحضار الإنسان فيها مُلكَ الله تعالى بحاجة إلى الاستنطاق والتنبّه خصوصاً أنّ الله سبحانه حليم عفوّ، أجرى الأمور على سنن وإن كان هو المدبر لها آناً فآناً، فهذا المشهد قد يُفضي بالإنسان إلى الغفلة، لكن في اليوم الآخر يتجلى ملك الله تعالى بوضوح: ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾([13])، والإنسان أحوج ما يكون إلى رحمة الله تعالى ولطفه في تلك الحياة بحسن الاستجابة له في هذه الحياة، وبذلك أشارت هذه الآية إلى أنّ الإنسان سائر إلى الله تعالى بخطواته في هذه الحياة، فهو لن يعيش هذه الحياة ليفنى من دون غاية قد أُعدّ لها وعليه أن يسعى إليها.
تفسير سورة الحمد([1]).. إنّ ألفاظ هذه السورة ومعانيها سهلة وواضحة، فهي لا تتضمّن مفردات غريبة أو معاني تركيبية معقدة ولو على وجه التعقيد العارض كما قد يتفق في بعض السور والآيات القرآنية، ولكننا نريد أن نتأملها مزيد تأمل ونستنطقها عن المعاني العامة المنظورة بها.
موضع السورة نزولاً: وهي على المشهور السورة الخامسة في النزول بعد العلق والقلم والمزمل والمدثر، وقيل إنها الثانية وقيل إنها الأولى، وهي على كل حال من السور القصار الأوائل، ولذا ينبغي النظر في مقام تفسيرها إلى موقعها.
لكننا مع ذلك تحدثنا عن البسملة فيها حتى كأنها أوّل السور المشتملة عليها وإن كان الذي رجحناه كون البسملة جزء من سورة العلق وسائر السور التي قد تكون قد نزلت قبلها [أو بعدها]، على أنّ سورة العلق على كل حال هي أوّل سورة تتضمن أدب التسمية إذ جاء فيها بعد البسملة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾([2]) إلا أنّ حديث المفسرين عن التسمية في سورة الحمد اقتضى حديثنا أيضاً عنها في هذا الموضع.
البيان الإجمالي لسورة الحمد
ونتطرق أوّلاً لتوضيح إجمالي لمفاد هذه السورة، ثم نعود إلى الحديث عن كل فقرة فيها لتأمّل مداليلها أو بعض ما شابها في كلمات بعض الباحثين تفصيلاً.
تتميّز هذه السورة بين السور القصار أنّها تركز على إثبات كل الأمور الراجعة إلى الإله لله سبحانه حصراً ونفيها عمّا يعبد مع الله سبحانه أو من دونه، فالله سبحانه هو المستوجب للحمد في ما يشهده الإنسان في الكون من الإبداع وينتفع به من نِعَمٍ، وهو رب الإنسان ـــ المعني به ـــ كسائر العالمين، وهو الذي يرحم الإنسان في مواضع الحاجة، وهو صاحب يوم القيامة الحاكم فيه، ولذلك فإنّ الإنسان الراشد الواعي يعبد الله سبحانه وحده ويستعين به ويستهديه في مسيرته في هذه الحياة التي تنتهي إلى الله سبحانه، فهذه السورة هي رسالة إلهية قصيرة ومعبّرة إلى الخلق.
الآية الأولى
وقد بدأت بالأدب الذي أُسس له منذ السورة الأولى وهي سورة العلق، حيث بُدئ فيها ـــ أي سورة العلق ـــ بالبسملة لتكون جملة منسقة مشتركة بين بدايات السور، وأُوضحَت هذه البسملة بقوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾([3])، فكانت البسملة بياناً للأدب اللائق لبداية الرسالة الإلهية كما كانت أدباً متعارفاً قبل الإسلام في الرسائل، وقد جاء أنهم كانوا يكتبون: (بسمك اللهم)([4])، وجاء قبل ذلك بمئات السنين عن سليمان (على نبينا وآله وعليه السلام) ـــ الذي ذكر أنه تُوفي سنة (914) قبل الميلاد ـــ أنه كتب في رسالته إلى ملكة سبأ: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ﴾([5])، فكانت بداية الرسالة تسمية لله سبحانه.
فهذا فيما يبدو أدب كان سائداً، وربما كان هذا الأدب مما أرساه الله سبحانه من خلال رسله (عليهم السلام)، ثم وقعت تسريته إلى سائر الآلهة وغيرها.
وقد اختير في هذا الأدب توصيف الله سبحانه بالرحمن كلقبٍ له، وهو لقب كان معهوداً في القسم [الجنوبي الغربي] من الجزيرة العربية ـــ أي اليمن ـــ، وربما كان من آثار الرسل السابقة في تلك البقعة أو غيرها، وكأن هذا الاختيار كان لأمرين:
1-رفع توهم تعدّد الآلهة في الجزيرة العربية وإزالة العصبية بين أهل الجزيرة وبين أهل اليمن في الإله المعبود، حيث كان التعبير السائد عند أهل الجزيرة عن الله سبحانه هو لفظ الجلالة (الله)، والتعبير السائد عند اليمنيين هو (الرحمن)، وربما يكون مثل هذا التعدد مبعثاً للمِراء والمجادلة بأنّ الإله الأعظم لأهل الجزيرة غير الإله الأعظم لأهل اليمن وما إلى ذلك، فاستُخدم لفظ (الرحمن) لدفع توهم تعدد الآلهة([6]).
2-التعبير عن الصفة المميزة التي يُحب الله سبحانه أن يُعرف بها كلقب له، فإنّ الألقاب تعبّر عن الصفات المميزة للأسماء، مثل لقب الأمين للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الجاهلية، ولقب الرسول له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الإسلام، ولقب أمير المؤمنين للإمام علي (عليه السلام)، ولقب زين العابدين لحفيده علي بن الحسين (عليهم السلام) وهكذا، فالرحمان المعبِّر عن سعة الرحمة بصيغة المبالغة فيها هو الوجه الذي أراد الله سبحانه أن يكون لقبه الخاص بين عباده كما قال سبحانه: ﴿رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾([7])، فجعلت صفة الذات الإلهية العامة هي الرحمة تعبيراً عما يليق بها وليكون ذلك باعثَ اهتداءٍ إليه، إذ كانت حاجة الفرد إلى الإله إنّما هي رغبةً في رحمته وعنايته.
وقد أكّد ذلك بصفة (الرحيم) لأنّ البُعد الوصفي في اللقب يضعف بصيرورته لقباً، بل قد تبقى دلالته على معناه الوصفي كتلميح فقط من غير تركيز عليه، وربما يُغفل عنه، فعقّب سبحانه كلمة الرحمن عنايةً بتمثيل صفة الرحمة عن نفسه بلفظ (الرحيم) ليؤكد على صفة الرحمة قبل كل شيء في بداية الكلام ليكون مخرج الكلام منذ بدايته مخرج الاسترحام والاستعانة بالله سبحانه وليبطل الالتجاء لطلب الرحمة من الأصنام في مستوى الشرك كما كانت عليه البيئة التي نزلت الآية فيها.
فهذا المعنى الذي تمثله البسملة على الإجمال، وذلك أمر مشترك بين سورة الحمد وسائر السور بعد ما تقدّم من أنّ البسملة جزء من السور جميعاً، وأنّ سورة الحمد ليست هي أوّل السور نزولاً، وإنّما سلمت سورة الحمد عن توهم أنّ البسملة ليست جزءاً منها إلى حدٍ كبير بالمقارنة مع باقي السور باعتبار الإشارة إلى عدد آياتها في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾([8])، ووقوع التركيز عليها في بداية الصلاة والمواظبة المروية على البسملة فيها من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإلّا فالبسملة جزء مشترك بين السور على ما رجحناه ولا تمتاز بها هذه السورة عن غيرها.
وأما امتياز هذه السورة عن باقي السور القصار فهي بما بعد البسملة من مضامين السورة.
الآية الثانية
لقد كانت هذه السورة مميزة بين السور بالثناء الجميل على الله تعالى وشد الإنسان إليه تعالى رغم قصرها، فبدأت بحمد الله سبحانه معبِّرةً بذلك أنّ كل حمد يُستوجَب بموجب الألوهية في هذا الكون والوجود فهو كله لله سبحانه مشيرةً بهذا إلى أنّه تعالى الإله الوحيد للخلق والمخلوقات كلّها والمدبّر لأمورها، فكل حمد وثناء يحفّز عليه هذا الوجود بما فيه من أنواع الخلق والمخلوقات وبدائع صنعها وسنّ سننها والملاءمة بينها سواء في البعد الكوني العام في السماء والأرض أو في البعد المتعلّق بالإنسان نفسه من حيث خلق الإنسان في أحسن تقويم وجعله في ضمن مجتمع يتناسل ويكون له أولاد وأقرباء وحفدة وأصحاب ويكون الناس شعوباً وأقواماً يتضامنون في المصالح، أو كان في سائر أنواع الكائنات من الحيوانات والنباتات وتسخيرها للإنسان، فللّه سبحانه الحمد في صناعة كل ذلك وتدبيره كما تواتر ذكر هذا المعنى في السور القرآنية المتوسطة والمفصلة.
وهذا الكون بما فيه من دقائق وإبداع ينطق كله بالحمد والثناء لله سبحانه، ولكننا قد نحتاج إلى نفض غبار الاعتياد عنه، ولولا الاعتياد على هذا الكون لشعرنا بمدى مستوى الإتقان والإبداع والقدرة والدقة في تفاصيل هذا الكون وفي أنواع الكائنات والملاءمة بينها وسننها وخصوصياتها حقاً كما يعرض القرآن الكريم في كثير من آياته، فهذا الكون معرض الصنائع الإلهية والقدرة الإلهية والفن والإبداع الإلهي، وكل هذه المقدرة والفن والإبداع من يُثنَى عليه بها هو الله سبحانه حقاً، فإذا أثنينا على شيء بأن قلنا ـــ مثلاً ـــ كم هذه الزهرة جميلة، كم هذا الشيء عجيب، كم هذا الشيء مذهل، كم هذه السماوات واسعة، فذلك ثناء على الله سبحانه، وإذا نطقنا بحمد وثناء وإعجاب وإكبار لشيءٍ ما في الكون من الإنسان، وقدراته، وقابليته على الاكتشاف والاختراع والاهتداء والتحليل والتفكير، وكل ما أثنينا به في شيء ومدحنا شيئاً وأُعجبنا بشيء وراقنا شيء فهذا الحمد في الحقيقة يعود إلى الله سبحانه، فالإنسان يبدي الإعجاب بالمعرض الكوني والمعروضات فيه ولكنه لغفلته لا يعرف صاحب هذا المعرض ولا ينتقل إلى صاحب هذا المعرض، فالحمد حقاً كله لله سبحانه.
ثم نَبَّه الله سبحانه على ربوبيته للعالمين كلهم بقوله بعد الحمد لله: (ربّ العالمين)، وذلك أنّ للّه سبحانه دَوْران:
دور الخلق: الذي كانت تعترف به الأقوام عموماً، وكان محل إذعان العرب في الجزيرة رغم شركهم، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ﴾([9]).
ودور الربوبية: وهو دور التعهد بتدبير الخلق وقضاء حوائجهم وأمورهم، وهو المعبَّر عنه بدور الربوبية، فرَبُّ الشيء هو الذي يكون صاحبه المعني به، مثلاً: ربُّ الغنم يطلق على مالك الغنم باعتبار عنايته، وقد يطلق على الراعي الذي يدبرها ويذهب بها للرعي.
فالربوبية تعني أنّ الرب صاحب هذا الشيء والمعني به.
هذا، وكأنّ الناس بطبيعتهم يميلون إلى اتخاذ إله أدنى مشهودٍ لهم، قريب إلى أحاسيسهم، يتكفل حوائجهم ويُعنى بهم، ولذا كانت الأديان التوحيدية دائماً تُحرَّف إلى أديان شركية، وربما تتمحّض في الشرك أصلاً أو يُترك فيها الله سبحانه تدريجاً؛ لأنّ هذا الكائن الأدنى يتبدل إلى الأيقونة التي يتمثل فيها الإله، ولا يعتقدون بشيء وراءه، فهذا من الميول البشرية الملحوظة، والتي أفسدت كثيراً من الأديان كدين المسيح (عليه السلام).
وربما كانوا يعتقدون بأنّ هذا إله أدنى وفي السماء إله أعلى، وكأنّ الإله الأعظم ــــ وهو الله سبحانه ــــ غير معني بالأرض وبالإنسان، إذ ليس قريباً منهم، فهو ـــ مثلاً ـــ معني بالملائكة الذين هم في السماء، فيحتاج الإنسان إلى ربٍّ يتعهده ويتكفل حوائجه، ومثل هذه الأوهام هي سبب بحث الناس عن آلهة أخرى.
فالمراد بقوله ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ التأكيد للناس في سياقٍ مرتبطٍ بالرحمة الإلهية العامة أنّه سبحانه معني بالإنسان وهو ربه وصاحبه كما قال عز من قائل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾([10])، فلماذا يذهبون يميناً وشمالاً؟ ولماذا يبحثون عن أرباب مصطنعة؟ ولماذا يتيهون؟ فهو سبحانه ربّ العالمين كلهم، وليس خصوص الملائكة التي كان بعض العرب يفترض أنّ الله سبحانه معني بها وهي بنات الرحمن باعتبارها في السماء مثلاً حسب طرق تفكيرهم، ولذلك قال عز من قائل في رد هذا الوهم: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَـهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَـهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾([11])، إذن هؤلاء يعتبرون الله تعالى إلهاً معنياً بالسماء وأنّه لا يعتني بالبشر، ولذلك قال الله سبحانه: إنّه رب العالمين جميعاً.
الآية الثالثة
وعقّب ذلك سبحانه مرة أخرى بالرحمن الرحيم تأكيداً على ما يحتاجه الإنسان من جهة ضعفه البالغ في نفسه وفي خضم تحديات هذه الحياة من الرحمة في شؤونه كلها، فهو سبحانه فاتحٌ أبواب عطائه بالرحمة للخلق، فربوبيته للخلق هي ربوبية رحمة ورفق وتيسير، وهذا المعنى من شأنه أن يشدَّ الإنسان إلى الله تعالى ويوجه أمله إليه، لأنّ الإنسان يبحث عن اللفتة الحانية والرحيمة والودودة والرؤوفة.
فلم يكتفِ سبحانه بذكر الرحمن الرحيم في البسملة، وكأنه من جهة أنّ البسملة بعد أن أصبحت أدباً عاماً لبداية الكلام قلّ التركيز فيها بالنسبة إلى ما يَرِد فيها من توصيف، فلذلك اعتنى بتكرار هذا المعنى تأكيداً على أنّ ربوبيته ربوبية رحيمة ومقرونة بالرحمة مؤكداً، كما يقتضيه لقبه: الكريم (الرحمن).
الآية الرابعة
ثمّ عقّب ذلك سبحانه بـ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، بلسان فارغ عن ثبوت يوم الدين الذي كانت كثير من الأقوام لا تؤمن به، مثل عامة العرب في مكة والجزيرة العربية، وهم يرون فناء الإنسان بالممات، ويرجون الإله لشؤون الحياة، وفي هذا ما قد يؤشّر إلى أنّ هذه السورة حيث تكلمت بلسان المفروغية عن وجود يوم الدين يمكن أن تكون قد نزلت عقيب الأخبار عن وجود هذا اليوم كما جاء في سورة العلق قبلها: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾([12])، وجاء أيضاً في سورة القلم والمزمل والمدثر، وهناك سور عديدة قصار من الجزء الثلاثين (جزء عم) والجزء التاسع والعشرين (جزء تبارك) خُصصت لإثبات يوم الدين، مثل سورة التكوير (السابعة في النزول، والتكاثر (السادسة عشر بحسب النزول) والقارعة (الثلاثين في النزول) والقيامة (الواحد والثلاثين في النزول).
لقد لفتت هذه الآية الإنسان إلى أنّ أبعاد حياته وحاجته إلى رحمة الله سبحانه، وأنّ أبعاد ربوبية الله سبحانه للإنسان لا تنحصر بهذه النشأة الدنيا، فللإنسان موعد مع يوم الدين والجزاء مما يعني أنّه يُجازى بأعماله في هذه الحياة في نشأة لاحقة، وتلك نشأة لم يترك الله سبحانه فيها الأمور لطبيعتها ولم يُخفِ دوره فيها، بل يتجلى ملكه فيها دون خفاء وحجاب، فهذه النشأة الدنيا قد يكون استحضار الإنسان فيها مُلكَ الله تعالى بحاجة إلى الاستنطاق والتنبّه خصوصاً أنّ الله سبحانه حليم عفوّ، أجرى الأمور على سنن وإن كان هو المدبر لها آناً فآناً، فهذا المشهد قد يُفضي بالإنسان إلى الغفلة، لكن في اليوم الآخر يتجلى ملك الله تعالى بوضوح: ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾([13])، والإنسان أحوج ما يكون إلى رحمة الله تعالى ولطفه في تلك الحياة بحسن الاستجابة له في هذه الحياة، وبذلك أشارت هذه الآية إلى أنّ الإنسان سائر إلى الله تعالى بخطواته في هذه الحياة، فهو لن يعيش هذه الحياة ليفنى من دون غاية قد أُعدّ لها وعليه أن يسعى إليها.
تعليق