عظة التاريخ، وموعظة الدين
وفي الرقعة المحدودة والمتصلة من الأرض التي شهدت ولادة وانبعاث الرسالات الدينية السماوية ومعها انبعاث الحضارات الأولى للإنسان – تمثل المشهد الروحي الإنساني وتضحياته، ومعها ولادة الضمير الروحي الذي استقر شاخصاً في مشاهد حية وعلى امتداد الأرض من بلدان الشام، وما جاورها من أرض الرافدين وحاذاها من أرض مصر، وما امتد إليها إلى أرض الجزيرة العربية، روافد متصلة للمجد الحضاري والروحي ارتسمت فيها صورة الخلود للمواقف الروحية والإنسانية المثلى، وقد انتصبت فوق مرتقياتها وسهولها مقامات المجد الروحي، فعلى المرتقى من أرض سوريا يشمخ مقام "قابيل" ولد آدم الذي سجل مأثرة الوداعة والحلم مقابل بغي وعدوان أخيه هابيل، فكان له نصيب من الذكر في مزار معتبر يؤمه الناس على مدى السنين الطويلة من حادثة النزاع بينهما، نزاع بين الخير والشر، وعلى مدى آخر من تفاوت الزمن انتصب مشهد الرحلة الطويلة لأبي الأنبياء الموحدين إبراهيم الخليل في أكثر من موقع من بلاد الشام، وبلاد الرافدين، وأرض مصر، وارتقت في أرض الجزيرة العربية مأثرته الروحية في مشهد بيت الله الحرام وكعبته المشرفة في مكة المكرمة، وارتقت مشاهد النبوة وأولياء النبوة شواخص للذكر، وعلى مرتقيات الأرض وسهولها فانتصبت المساجد والكنائس والمعابد إلى جانب مقامات الأنبياء والأولياء تتعانق بها ألوية الإيمان بين الرسالات الدينية، ويكون الوفود على مقامات الشهادة منها وفوداً أكثر حرارة يحمل فيه المؤمنون – كما هو الحال في المقامين المتقابلين في الجامع الأموي بدمشق لمرقد النبي يحيى بن زكريا ومقام رأس الإمام الحسين (عليهما السلام) مشاعر مشتركة من المهابة والتقديس هي علامة دالة لمشتركات الإمان الذي يجمع ما بين الأديان ورموزها من الشهداء والمجاهدين من أجل شرائعها، وحيث ظلت الشريعة ومعها الشهادة هي الأكثر إضاءة في تاريخ الإيمان الديني، وفي ذلك صح قول "أشعيا":
"اسألوا الشريعة والشهادة، من لم ينطق بهذا الكلام فلا يضيء له الصبح" (أشعيا 8: 21).
ويجد القاصد لدمشق ما بين شمالها وجنوبها شواخص تلك الشهادة التي امتدت ذكراها على طوال الأزمان، لتقام تلك المنائر والقباب المهيبة، كمثل ما يكون في ريف دمشق من المقام المهيب لمرقد السيدة زينب عليها السلام أخت الإمام الحسين عليه السلام، والتي حضرت مسرح الشهادة في واقعة الطف بكربلاء وتجرعت محنها وآلامها، وسارت في موكب الشهادة مع الرؤوس المنتصبة على الرماح في رحلة طويلة وشاقة ما بين كربلاء في العراق إلى دمشق في بلاد الشام، وتجرعت محنة الإقامة في الخربة إلى جوار قصر الحاكم الجائر، والتي تحولت بعدئذ إلى مقام مهيب لطفلة الإمام الحسين عليه السلام "رقية" والتي فارقت الحياة فيها وهي تعانق رأس والدها، وقد كان للسيدة زينب عليها السلام ذلك الموقف الجريء أمام الحاكم الجائر وخطبتها المثيرة في مجلسه.. وقد اندرست قصور أولئك الحكام الطغاة ولم يبق لهم من الذكر ما يستحق بإزاء ذلك الذكر والمقام المشهود لآل بيت النبوة ولأولياء النبوة في معاقل أولئك الحكام، وفيما انتصبت وعلى مسافة من الأرض ما بين جنبات دمشق منارات وقباب شامخة تزدان على مدار الأيام والسنين بعدد لا يحصى من الزائرين، والمتبركين بهم، والمستذكرين للمواقف الجهادية لسليلتي النبوة، وكمثل ذلك ما يكون من المشهد المعتبر لمقام النبي الشهيد يحيى بن زكريا والذي يقابل مقام الرأس للشهيد الإمام الحسين، والناس على مدار الأيام والسنين تقصدهم للزيارة والتبرك بهم، مقامات مهيبة لها في نفوس الملايين من الناس على مدى الأحقاب كل هذا الاعتبار والتقديس، هو ذلك الاعتبار والتقديس لشهادة الأنبياء والأولياء، والتي كانت العلامة التي رسمت على وجه الأرض، وفي نفوس البشر دلالة الثبات على المنهج الرسالي القويم، والتضحية من أجل أن تظل كلمة الله هي العليا، وإرادته هي الغالبة، وذكره الذي أبلغه برسالاته هو المحفوظ:
"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر 9).
ويوثق شاعر العربية محمد مهدي الجواهري في قصيدته عن الإمام الحسين عليه السلام لما آمن به أحرار النفوس المدركون بعقولهم مآثر الشهادة وصروحها سر الخلود الرسالي للشهادة، خلود الحقيقة في خلود الشهادة في مأثراتها وصروحها الخالدة:
وجَازَ بِيَ الشَّكُّ فيما مَعَ " ال جدودِ " إلى الشَّكِّ فيما معي
إلى أن أَقَمْتُ عَلَيْهِ الدَّلِيلَ مِنْ " مبدأٍ " بِدَمٍ مُشْبَعِ
فَنَوَّرْتَ ما اظْلَمَّ مِنْ فِكْرَتِي وقَوَّمْتَ ما اعْوَجَّ من أضْلُعِي
وآمَنْتُ إيمانَ مَنْ لا يَرَى سِوَى العَقْل في الشَّكِّ مِنْ مَرْجَعِ
بأنَّ (الإباءَ) ووحيَ السَّمَاءِ وفَيْضَ النُّبُوَّةِ ، مِنْ مَنْبَعِ
النبي أيوب والإمام الحسين عليهما السلام بين الخبر المفجع وواقعة الفجيعة
وبينما يشهد التاريخ الإنساني عامةً، والتاريخ الرسالي منه خاصةً حالات من العزم والعزيمة، والصبر على المكاره والأعباء، ما كان للأنبياء والأولياء منه الحصة وعلى القدر المتفاوت ما جئنا على ذكر شواهد منه في مبحثنا عن رموز الشهادة والفداء في الأديان - فإن في مشهد الصبر على الفجيعة ما كان للنبي أيوب والإمام الحسين - عليهما السلام- يشكل جانباً مما يصح التمثل والاعتداد به، مع الفارق بين عوامل وآثار الفجيعة لكليهما.
وان المقابلة الموضوعية بين مشهد المعاناة والمكابدة للنبي أيوب، والإمام الحسين - عليهما السلام - في أبعادها وتبعاتها ترسم صورة للمقارنة الموضوعية بين حالتين متقابلتين في مجال الصبر، ومتفاوتتين في الطبيعة والنتائج المترتبة عليهما، كمثل تفاوتهما في مشهد الذكر والاحتفاء بهما على مر الأحقاب.
فبالنسبة للنبي أيوب - عليه السلام- يروي (سفر أيوب) من العهد القديم في الكتاب المقدس عنه: انه كان رجلاً مستقيماً يتقي الله ويجانب الشر، وولد له سبعة بنين وثلاث بنات، وكانت قنيته سبعة آلاف من الغنم وثلاثة آلاف من الإبل وخمس مئة فدان بقر وخمس مئة أتان، وله عبيد كثيرون جدا، وكان بنوه يذهبون فيصنعون مأدبة في بيت كل منهم ويبعثون فيدعون أخواتهم الثلاث ليأكلن ويشربن معهم، فإذا ما تم مدار أيام المأدبة كان أيوب يبعث فيقدسهم ثم يبكر في الغداة فيصعد محرقات(1) على عدد جميعهم لان أيوب كان يقول لعل بنيَّ خطئوا وجدفوا على الله في قلوبهم، وهكذا كان يصنع كل الأيام (أيوب1:1-6).
وأراد الرب ان يختبر تقوى أيوب بعد أن أملى الشيطان باله لأيوب فكانت له من فتنته في البلاء: انه اتفق يوما ان بنيه وبناته كانوا يأكلون ويشربون خمراً في بيت أخيهم الأكبر فأقبل رسول إلى أيوب وقال له: كانت البقر والأتن ترعى في جانبها فوقع عليها أهل سبأ وأخذوها وقتلوا الغلمان بحد السيف وأفلّتُّ أنا لأخبرك، وفيما هو يتكلم أقبل آخر وقال قد سقطت نار الله في السماء وأحرقت الغنم والغلمان وأكلتهم..، وفيما هو يتكلم أقبل آخر وقال قد افترق الكلدانيون ثلاث فرق وهجموا على الإبل فأخذوها وقتلوا الغلمان بحد السيف..، وفيما هو يتكلم أقبل آخر وقال: كان بنوك وبناتك يأكلون ويشربون خمراً في بيت أخيهم الأكبر، فإذا بريح شديدة قد طلعت من عرض الصحراء وصدمت زوايا البيت الأربع فسقط على الغلمان فماتوا وأقبلت أنا وحدي لأخبرك، فقام أيوب وشق رداءه وحز شعر رأسه وخر على الأرض وسجد وقال: عرياناً خرجت من جوف أمي وعريانا إلى هناك، الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الله مباركاً..، وفي هذا كله لم يخطأ أيوب ولم يقل في الله جهلاً" (أيوب 1: 1-23).
ومرة أخرى أقبل الشيطان لأيوب وقد أصبح جلداً بجلد..، وليصبهُ بقرح خبيث من باطن قدمه إلى قمته، فأخذ له خرقة ليحتك بها وهو جالس على الرماد، فقالت له امرأته: "أإلى الآن أنت معتصم بسلامتك جدّف على الله ومت"، فقال لها: إنما كلامك كلام إحدى السفيهات، أنقبل الخير من الله ولا نقبل منه الشر" وفي هذا كله لم يخطأ أيوب بشفتيه (2:1 -12).
.. وتستبد بعدئذ بأيوب الظلمات وظلال الموت وليقر عليه غمام، ولتروعه كواسف النهار، وليشمله في الليل الديجور (4: 3-4)، وذات يوم سمع ثلاثة من أخلاّئه ما أصابه من البلوى فأقبل كلاً من مكانه ليرقوا له ويعزوه، فرفعوا أبصارهم من بعيد فلم يعرفوه، فرفعوا أصواتهم وبكوا وشق كل واحد منهم رداءه وذروا تراباً في ارؤوسهم نحو السماء، وجلسوا معه إلى الأرض سبعة أيام وسبع ليالٍ ولم يكلمه أحد بكلمة؛ لأنهم رأوا ان كآبته كانت شديدة جداً" (2: 12-13).
وكانت العاقبة بالحسنى لأيوب بعدئذ فقد رد من جلائه حين صلى لأجل أخلاّئه وزاده الله ضعف ما كان له قبلاً، وزاره جميع أخوته وأخواته وكلُ من كان يعرفه من قبل وأكلوا معه خبزاً في بيته، ورثوا له وعزوه عن كل البلوى.. وأهدى له كل واحد منهم نعجة وخرصاً من ذهب، وبارك الرب آخرة أيوب، فأكثر من أولاده، وكان له من الغنم أربعة عشر ألفاً، ومن الإبل ستة آلاف وألف فدان من البقر وألف من الأتان.. وعاش بعد هذا مئة وأربعين سنة، ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال، ثم مات شيخا قد شبع من الأيام" (أيوب 42: 11-16).
وهكذا كانت معاناة أيوب اختباراً لصبره على البلوى بما وردته من أخبارها وقد تقبلها بالرضا والاطمئنان، والثقة بالله لتسجل له مأثرة الصبر اعتبارا وعبرة للناس في كل زمان، وفيما كانت له حصة وافرة من الجزاء المعجل في دنياه، فيما ان الإمام الحسين - عليه السلام- لم ينبأ بواقعات البلاء بل استقبلها مفردات مريرة وشاقة في وقائع مأساوية تمثلت في واقع الطف فصولاً متتابعة من العناء والمكابدة المصحوبة بنزيف الدم، وقد قصد ساحة المواجهة بكل مخاطرها لتكون له ولأسرته ولخاصة صحابته منها تلك الحصة البالغة من التنكيل والبطش والذي تلاحقت فصوله الدموية في واقعة الطف وما بعدها، وفيما لم يشهد التاريخ مثل تلك الحالة النادرة في وفود الحسين - عليه السلام- على ساحة الهلاك المحقق مع أهله، وقد واتته فرصة الخلاص ليستكين الى دعة الحياة ونعيمها لو راودته نفسه الرضوخ لمطالب الحياة الدنيا، ولو كان الحسين - عليه السلام- قد فعل ذلك لحكم على نفسه بغير هذا الحكم الذي ارتضاه له التاريخ ان يسجل اسمه وذكريات الواقعة التي انتصب بشموخ فيها، ولا ان يكون له مثل هذا المشهد الأثير من الذكر والاحتفاء بدوره البطولي في الطف، وفيما لم يكن له من حياته التالية على الأرض جزاؤه المعجل كما كان للنبي أيوب - عليه السلام- في خاتمة حياته مما ورد ذكره، ولم يصح ذلك في أهل بيت النبوة من سلالة الإمام الحسين – عليهم السلام- والذين لقوا من بعده حصة مؤجلة من الكيد والتنكيل حتى انه لم يسلم أحد من ذريته من الكيد والملاحقة، ثم القتل أو دسّ السم له، وعوضاً عن تلك المحنة الجارية في حياتهم فإنهم كوفئوا بالقدر الكبير من شخوص الذكرى، والاحتفاء المتجدد بسيرتهم ومواقفهم، وحيث تقام احتفالية الشهادة لواقعة الطف في موقعها، كمثل ما يقام ذلك لكل الشهداء من آل بيت النبوة، حصة مؤجلة ودائمة من التكريم لمشهد الشهادة، ولمأثرة الصبر في ساحتها، وبكل مظاهر الاحتفاء ومعالمه، حالة ارتقى فيها مشهد الذكر للإمام الحسين عليه السلام وسلالته في معالم وصور لم يبلغها مشهد من الذكر الا في الاستشهاد، عظة واعتباراً بالشهادة وبالصبر معاً، وفيما لم تقم لمشهد الصبر لأيوب ومحنته فيها مثل هذه الاحتفالية المتكررة في كل عام لشهادة الإمام الحسين - عليه السلام - ومثل هذا التكريم والاحتفاء بمقامه هي من بعض مشاهد الذكر لتضحيات الأنبياء، وموارد الذكر لشهادة الأولياء.. وهي في كلها العنوان لما في الشهادة من مكانة لا تدانيها مكانة في الوجود، شهادة من تعمد بالدم، أو تعمد بالولاء لله تعالى، والتضحية من اجل الله الذي ارتبط بمجده وخلوده مجد وخلود من آثر الصلة والتواصل بالله(2).
____________________________________________
الهوامش:
(1) المحرقة: جمع محرقات، وهي الذبيحة التي تحرق وتفنى تعبداً لله واعترافا بمطلق سلطته. (المورد: ص128).
(2) المصدر: الإمام الحسين بن علي عليها السلام أنموذج الصبر وشارة الفداء، للدكتور مهدي التميمي، طبعة شعبة الدراسات والبحوث الاسلامية في قسم الشؤون افكرية في االعتبة الحسينية المقدسة، 2012.
: د. مهدي حسين التميمي
شعبة الدراسات والبحوث في قسم الشؤون الفكرية والثقافية