يهود خيبر كانوا يمثِّلون الخطر الثاني بعد قريش وحلفاء قريش، فهم ممَّن كان قد أمدَّ الأحزاب يوم الخندق بالسلاح والعتاد والمال والمُؤن، وكانوا قد تحالفوا مع يهود بني قريظة ويهود بني قينقاع ويهود بني النضير الذين استطاع الرسول (ص) إجلاء بعضِهم وهزيمة آخرين، فاستراح من شرِّ يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة الذين كانوا أقرب إلى المدينة من يهود خيبر، لكنَّ خيبراً كانت أكثر تحصُّنًا.
وكان عدد اليهود فيها أكثر، وكلُّ مَن هرب أو أنَّ الكثير ممَّن هرب من فرسان ورجال اليهود قد لجأ إلى تلك الحصون، فيهودُ خيبر كانوا يمثِّلون الخطرَ الأكبر بعد قريش على دولة الإسلام، وكانوا قد أعدُّوا العُدَّة، لأنَّهم شعروا بأنَّ المواجهة مع الرسول (ص) قدرٌ محتوم، لابدَّ وأنَّه سوف يتحقَّق يومًا ما، لذلك فقد أعدُّوا العُدَّة، فتزوَّدوا بالكثير من المُؤن من الشعير، والتمر والماشية وغيرها من المُؤن داخل حصونهم، واستوردوا الكثير من السلاح من الشام وغير الشام، واجتمعت عندهم الكثيرُ من الأسلحة بعد هزيمة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وكانوا من أهل رؤوس الأموال كما تعلمون، وكما هو شأنُ اليهود في على امتداد تاريخهم، فكانوا يستثمرون هذه الأموال في استجلاب السلاح والعتاد استعدادًا لمواجهة الرسول (ص)، وكانوا قد تحالفوا مع بقايا القبائل العربيَّة التي لم تدخل في الإسلام-وهي عديدة وكثيرة- وعلى رأسهم قبيلة غطفان التي كان يربو تعداد فرسانها على عشرة آلاف، فخطرُ يهود خيبر والقبائل العربيَّة المتحالفة معهم بعد تحييد قريش كان خطرًا كبيرًا.
لذلك لم يجد الرسول (ص) بدًا من مواجهة يهود خيبر، وكان يهود خيبر يفضِّلون أن تكون المعركة عند حصونهم، ذلك لأنَّ حصونهم كانت منيعة، وكانت بها شُرفٌ وسطوح يتمكنون بها من مواجهة المسلمين من العلو ومن تلك الشُرف، والمسلمون من الخارج فيرمونهم بالجزل والحجارة والسهام والنبل والنار، ولا يستطيع المسلمون مقاومة كلِّ ذلك.
تخطيط يهود خيبر واستعدادهم للمواجهة:
على أنَّ حصارهم الذي كانوا يتوقعونه لن يُضيرهم -بحسب تقديراتهم- بل سيُضير المحاصرين، فالمحاصِرون هم المحاصَرون بحسب تقييمهم، لأنَّ المحاصرين سوف يكونون في العراء تحت أشعةِ الشمس، وستكونُ مؤنُهم محدودةً لأنَّهم سيكون بعيدين عن ديارهم فسيشقُّ عليهم نقل ما يكفي لمدَّةٍ طويلة، وسيكون التزوُّد معسورًا لبُعد المسافة، وذلك بحسب تقديرهم سوف يُدخل الوهن عليهم ويُضعفهم عن القدرة على الاستمرار في حصارهم لمدةٍ طويلة، وفي المقابل كان اليهود مستعدين للحصار لمدة طويلة جدًا لا يقوى جيشٌ على الصبر عليها، وهو خارج الحصون في صحراء قاحلة يؤتى بالماء من مكانٍ بعيد ولا يستطيع أن يتزود إلا بعد مشقة وعناء. كل هذه الحسابات كانت تقتضي بنظر اليهود استدراج المسلمين لتكون المواجهة قريبة من حصونهم، ثم أنهم قد خندَّقوا الحصون من خارجها وخندَّقوا الحصون من داخلها، فعلى المسلمين أن يتجاوزوا الخنادق التي هي على أطراف حصون خيبر، ثم إذا تجاوزوها واستطاعوا فتح أبواب الحصون فعليهم أنْ يتجاوزوا الخنادق التي بين أبواب الحصون وبين مواقع سكنى ومواقع صفوف جيش اليهود.
فالمعركة كانت في غاية الصعوبة والخطورة ولكنَّ الرسولَ (ص) إنَّما أقدم عليها لأنَّها كانت ملحَّة، ولم يكن بدٌ منها، فكان ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ وقد وعده -ووعده صادقٌ لا يتخلَّف- أن يُغنمه خيبر، وهذا الذي وقع.
انطلاق الرسول (ص) إلى خيبر والمسار الذي اختاره:
فبعد أنْ استراح الرسول (ص) في المدينة مقدار عشرين يومًا أو أكثر أو أقل، أُمر بأنْ يُعبَّأ جيشه، ولم يكن جيشه حينذاك يتجاوز الألف والخمسمائة، كان بينهم مئتي فارس، والبقية كانوا على الجمال. رحل الرسول (ص) بجيشه المحدود الذي لم يكن يتجاوز هذا العدد لكنَّه سلك طريقًا لم تكن اليهود تتوقعُه، فهو قد سار من جهة الشام وتوسَّط ما بين الشام وبين خيبر ليحولَ بينهم وبين ما يُمكن أن يصلَهم من قِبَل أحلافهم من طرف الشام وكذلك فإنَّ سلوك هذا الطريق يمنع اليهود من الهرب إلى الشام، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ سلوك هذا الطريق يمنع عنهم المدَد من طرف قبيلة غطفان التي كانت تشكِّل الخطر الأكبر على الرسول (ص) والمسلمين آنداك، لذلك تفاجؤوا حيث جاءهم المسلمون من حيثُ لم يحتسبوا.
المسلمون على أطراف حصون خيبر:
سار النبيُّ (ص) بجيشه حتى بلغ أطراف خيبر، فمكثوا حتى حان وقتُ صلاة الصبح فصلى بالناس وانتظر حتى بدأ ضوء النهار ينبسط في الأجواء، وفي الأثناء خرج المزارعون من أهل خيبر بمساحيهم وأدوات الحراثة كما هي عادتهم في كلِّ يوم، وكانت معهم دوابُّهم ومواشيهم، فرمق بعض المزارعين جيش المسلمين فقالوا: محمدٌ والخميس، محمد والجيش يعني، محمدٌ وجيشه، فقال الرسول (ص): اللهُ أكبر، خربتْ خيبر، إنَّا إذا نزلنا ساحةَ قوم فساءَ صباحُ المنذَرين([1]). فأخبر بذلك عن الوعدٍ إلإلهي المحتوم بالنصر. أسرع المزارعون فدخلوا حصونهم، وأغلقوا الحصون، وأحكموا الإغلاق، ووقعت حالة استنفار عند اليهود.
تعداد حصون خيبر:
كانت حصونُ خيبر موزَّعةً على ثلاث مناطق من أرض خيبر، وهي على أقلِّ التقادير سبعة حصون، أو أنَّ السبعة منها كانت الأكثر تحصينًا ومنعةً وكانت بعض الحصون بمثابة القلعة المشتملة على عددٍ من الحصون. وكان أول الحصون من الجهة التي بلغها النبيُّ (ص) حصنًا يُسمى الناعم، وكان فيه أربعة آلاف فارس من قبيلة غطفان، وكانوا على الشرك جاؤوا لمؤازرة اليهود وحمايتهم مقابل تموينهم بتمر خيبر مدَّة سنة كاملة.
حصنُ الناعم ومفاوضة المسلمين لغطفان:
فصار على المسلمين أن يواجهوا يهود خيبر وحلفاءهم من قبيلة غطفان والذين يبلغ تعدادُهم أربعة آلاف مقاتل، وقد تحصَّنوا معهم في حصن الناعم، وجيش المسلمين لا يبلغ الألفين، عندها بعث الرسولُ (ص) سعد بن عبادة زعيم الأنصار، وقال له: اذهب إلى غطفان وقل لهم: أن يتركونا ويهود خيبر، ولهم تمرُ يهود خيبر سنةً كاملة، إذا انتصرنا عليهم، وصلَ سعدُ بن عبادة (رحمه الله) إلى الحُصن وطلب الحديث إلى زعيم قبيلة غطفان، وكان اسمُه عيينه بن الحصن، كان رأيه أنْ يدخلَ سعدُ بن عبادة إلى الحصن ليتمَّ التفاوضُ معه داخلَ الحصن ولكن مرحبًا -وهو أحد زعماء اليهود- رفض ذلك وقال: إذا أدخلتَ سعدًا إلى الحُصن تعرَّف على مواضع الخلل والفجوات ومواضع العورات التي في الحصن، فقال عيينة: كنتُ أريد أنْ أُدخل الرعب في قلبه، إذ أنَّه إذا دخل الحُصن فوجد مِنعته ارتاع قلبُه وداخله الوهن، فقال مرحب: لا، اخرج وتفاوض معه خارجَ الحصن.
خرج زعيم غطفان فتفاوضَ مع سعد فقال له سعد: خلُّوا بيننا وبين اليهود نُناجزهم فإذا انتصرنا عليهم فلكم علينا أنْ نُعطيكم تمرَ يهود خيبر مدَّة سنةٍ كاملة، فأبى، فقال عيينة: نحن معهم في حلف وبيننا وبينهم معاهدة، ولا يمكن أن ننقض عهدنا معهم، قال له سعد: إنَّ الذي نطلبه منك ستتطلبُه منَّا ثم لن تجده، فأُحذِّرك، إنَّ رسول الله (ص) قد وعده ربُّه خيبر، ولا يخلفُ اللهُ وعده، فأنصحُك أن تنسحب ومَن معك من قبيلة غطفان واتركونا مع اليهود، رفض عيينة ما عرض عليه سعد ودخل الحصن وأغلقوه([2]).
وعاد سعدُ بن عبادة إلى رسول الله (ص) وأخبره عمَّا دار بينه وبين زعيم قبيلة غطفان وأنَّه أبى عليه الاستجابة إلى عرضه، عندها عبَّأ النبيُّ (ص) جيشه وأعطى لواءه كما هي العادة إلى عليِّ بن أبي طالب (ع)([3]) فتقدَّم بها إلى حصن الناعم فلم يلبث طويلًا حتى اقتحم بمَن معه هذا الحصن وعندها هرب اليهود ومن معهم من رجال قبيلة غطفان ولم تقع بينهم وبين المسلمين مواجهة، وهكذا سقط الحُصن الأول في أيدي المسلمين.
كيف اقتحمَ عليٌّ (ع) بالمسلمين حصن الناعم:
كيف وقع ذلك وكيف دبَّ الرعبُ في قلوب رجال قبيلة غطفان فنكلوا عن المواجهة؟ إنَّ ذلك من مصاديق قول النبيِّ (ص): نصرت بالرعب، ولعلَّ اسم عليٍ (ع) كان هو السبب في دخول الرعب في قلوبهم.
يذكر المؤرخون أنَّ عليًا (ع) تقدم حتى بلغ الحصن، يعني أنَّه تجاوز خندقه فوصل إلى باب الحصن، وكان هذا الحصن من أكثر الحصون منعةً ولكنَّه ظاهرًا كان دون حصن القموص تحصينا، أمسك عليٌّ بباب الحصن فاقتلعه، فدبَّ الهلع والرعب في قلوب اليهود وحلفائهم من غطفان، لم يتوقعوا ظاهرا- أنْ يتمَّ اقتلاع باب الحصن بهذه السرعة بل لعلَّهم لم يتوقعوا أنْ يتمكَّن المسلمون من تجاوز الخندق الذي يفصلهم عن باب الحصن لكن الذي وقع أصابهم بالذهول حيث وجدوا أنفسهم -دون توقع- وجها لوجه مع المسليمن بعد أن اقتلع عليٌّ (ع) باب الحصن اقتلاعًا وكان أقصى خطر في خلَدهم أن يتمكن المسلمون بعد جهدٍ جهيد من فتح الباب وليس اقتلاعه من أصوله لذلك ركبوا كلَّ صعبٍ وذلول وهربوا وبذلك استراح المسلمون من مواجهة قبيلة غطفان والذين لم يكونوا سوى مرتزقة ولذلك حين جدَّ الجد لم يصمدوا.
عليٍّ يقتلع باب حصن الناعم ويرمي به بعيدًا:
يقول أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خرجنا مع عليٍّ حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برايته فلمَّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجلٌ من يهود فطرح ترسه من يده فتناول عليٌّ باب الحصن فترَّس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح اللهُ عليه ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفرٍ من سبعة أنا ثامنهم نجهد على أنْ نقلب ذلك الباب فما استطعنا أنْ نقلبه"([4])، كيف تمكَّن عليٌّ (ع) من اقتلاعه من أصوله لا ندري، وكان عليٌّ قد رمى به بعد اقتلاعه -كما في بعض الروايات- أربعين ذراعًا، الحصن الذي نتحدَّث عنه ليس حصن القَموص الذي أفادت الروايات أنَّ بابه الذي اقتلعه أميرُ المؤمنين (ع) يعجز عن حمله أربعون رجلًا أو يزيد وهو الذي عناه ابن أبي الحديد في قصيدته الشهيرة والتي جاء فيها:
يا قالعَ الباب الذي عن هزِّها ** عجزتْ أكفٌّ أربعونَ وأربع
يا هازم الأحزاب لا يُثنيه عن ** خوض الحمام مدجَّجٌ ومدرَّعُ
أأقولُ فيك سميدعٌ كلا ولا ** حاشا لمثلِكَ أنْ يُقال سميدعُ
بل أنت في يوم القيامة حاكمٌ ** في العالَمين وشافِعٌ ومشفَّعُ([5])
كلَّما اقتحم المسلمون حصنًا هرب اليهود إلى حصن آخر:
بقيت الإشارة إلى أنَّ المسلمين لمَّا أنْ دخلوا حصن الناعم وهربت قبيلة غطفان ومن كان معهم من اليهود حيث كان في الحصن منافذ ومخارج طوارئ فتسللت منها قبيلة غطفان وانسحبت من المعركة، ودخل اليهود إلى حصنٍ آخر، فثمة حصونٌ عديدة كما أشارنا لذلك منها حصنٌ يُسمَّى الشقَّة، وآخر يُسمَّى القلة، وثمة حصنٌ باسم ابن أبي الحقيق، وآخر يسمَّى البراء، وكذلك ثمة حصن الكتيبة وسلالم وحصون أخرى وكان كلَّما اقتحم المسلمون حصنًا ونجى من اليهود جماعة هربوا إلى الحصن الآخر.
ونظرًا لضيق الوقت نُرجئُ الحديث عن كيفيَّة فتح حصن القَموص والذي هو أمنع الحصون وأوسعها إلى جلسةٍ أخرى، فهذا الحصن الذي امتدَّ الحصار حوله قرابة الأربعة والعشرين يومًا هو الذي تسمعون أنَّ المسلمين قد عجزوا عن اقتحامه وكلَّما قصدته كتيبة من جيش المسلمين عادت أدراجها خائبة إلى أنْ كلَّف رسول الله (ص) عليًّا (ع) باقتحامه فذهب واقتلع بابه وفتح اللهُ خيبر على يديه.
الهوامش:
[1]- المغازي -الواقدي- ج2 / ص643، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص106، دلائل النبوة -البيهقي- ج4 / ص203.
[2]- لاحظ: المغازي -الواقدي- ج2 / ص650، امتاع الأسماع -المقريزي- ج13 / ص331.
[3]- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص106، ج3 / ص23، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- 42 / 74، الإرشاد -المفيد- ج1 / ص79، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص137، المناقب -الموفق الخوارزمي- ص359.
[4]- دلائل النبوة -البيهقي- ج4 / ص212، المغازي -الواقدي- ج2 / ص655، السيرة النبوية -ابن هشام- ج3 / ص798.
[5]- (الروضة المختارة في شرح العلويات السبع) -ابن أبي الحديد- ص140.
وكان عدد اليهود فيها أكثر، وكلُّ مَن هرب أو أنَّ الكثير ممَّن هرب من فرسان ورجال اليهود قد لجأ إلى تلك الحصون، فيهودُ خيبر كانوا يمثِّلون الخطرَ الأكبر بعد قريش على دولة الإسلام، وكانوا قد أعدُّوا العُدَّة، لأنَّهم شعروا بأنَّ المواجهة مع الرسول (ص) قدرٌ محتوم، لابدَّ وأنَّه سوف يتحقَّق يومًا ما، لذلك فقد أعدُّوا العُدَّة، فتزوَّدوا بالكثير من المُؤن من الشعير، والتمر والماشية وغيرها من المُؤن داخل حصونهم، واستوردوا الكثير من السلاح من الشام وغير الشام، واجتمعت عندهم الكثيرُ من الأسلحة بعد هزيمة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وكانوا من أهل رؤوس الأموال كما تعلمون، وكما هو شأنُ اليهود في على امتداد تاريخهم، فكانوا يستثمرون هذه الأموال في استجلاب السلاح والعتاد استعدادًا لمواجهة الرسول (ص)، وكانوا قد تحالفوا مع بقايا القبائل العربيَّة التي لم تدخل في الإسلام-وهي عديدة وكثيرة- وعلى رأسهم قبيلة غطفان التي كان يربو تعداد فرسانها على عشرة آلاف، فخطرُ يهود خيبر والقبائل العربيَّة المتحالفة معهم بعد تحييد قريش كان خطرًا كبيرًا.
لذلك لم يجد الرسول (ص) بدًا من مواجهة يهود خيبر، وكان يهود خيبر يفضِّلون أن تكون المعركة عند حصونهم، ذلك لأنَّ حصونهم كانت منيعة، وكانت بها شُرفٌ وسطوح يتمكنون بها من مواجهة المسلمين من العلو ومن تلك الشُرف، والمسلمون من الخارج فيرمونهم بالجزل والحجارة والسهام والنبل والنار، ولا يستطيع المسلمون مقاومة كلِّ ذلك.
تخطيط يهود خيبر واستعدادهم للمواجهة:
على أنَّ حصارهم الذي كانوا يتوقعونه لن يُضيرهم -بحسب تقديراتهم- بل سيُضير المحاصرين، فالمحاصِرون هم المحاصَرون بحسب تقييمهم، لأنَّ المحاصرين سوف يكونون في العراء تحت أشعةِ الشمس، وستكونُ مؤنُهم محدودةً لأنَّهم سيكون بعيدين عن ديارهم فسيشقُّ عليهم نقل ما يكفي لمدَّةٍ طويلة، وسيكون التزوُّد معسورًا لبُعد المسافة، وذلك بحسب تقديرهم سوف يُدخل الوهن عليهم ويُضعفهم عن القدرة على الاستمرار في حصارهم لمدةٍ طويلة، وفي المقابل كان اليهود مستعدين للحصار لمدة طويلة جدًا لا يقوى جيشٌ على الصبر عليها، وهو خارج الحصون في صحراء قاحلة يؤتى بالماء من مكانٍ بعيد ولا يستطيع أن يتزود إلا بعد مشقة وعناء. كل هذه الحسابات كانت تقتضي بنظر اليهود استدراج المسلمين لتكون المواجهة قريبة من حصونهم، ثم أنهم قد خندَّقوا الحصون من خارجها وخندَّقوا الحصون من داخلها، فعلى المسلمين أن يتجاوزوا الخنادق التي هي على أطراف حصون خيبر، ثم إذا تجاوزوها واستطاعوا فتح أبواب الحصون فعليهم أنْ يتجاوزوا الخنادق التي بين أبواب الحصون وبين مواقع سكنى ومواقع صفوف جيش اليهود.
فالمعركة كانت في غاية الصعوبة والخطورة ولكنَّ الرسولَ (ص) إنَّما أقدم عليها لأنَّها كانت ملحَّة، ولم يكن بدٌ منها، فكان ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ وقد وعده -ووعده صادقٌ لا يتخلَّف- أن يُغنمه خيبر، وهذا الذي وقع.
انطلاق الرسول (ص) إلى خيبر والمسار الذي اختاره:
فبعد أنْ استراح الرسول (ص) في المدينة مقدار عشرين يومًا أو أكثر أو أقل، أُمر بأنْ يُعبَّأ جيشه، ولم يكن جيشه حينذاك يتجاوز الألف والخمسمائة، كان بينهم مئتي فارس، والبقية كانوا على الجمال. رحل الرسول (ص) بجيشه المحدود الذي لم يكن يتجاوز هذا العدد لكنَّه سلك طريقًا لم تكن اليهود تتوقعُه، فهو قد سار من جهة الشام وتوسَّط ما بين الشام وبين خيبر ليحولَ بينهم وبين ما يُمكن أن يصلَهم من قِبَل أحلافهم من طرف الشام وكذلك فإنَّ سلوك هذا الطريق يمنع اليهود من الهرب إلى الشام، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ سلوك هذا الطريق يمنع عنهم المدَد من طرف قبيلة غطفان التي كانت تشكِّل الخطر الأكبر على الرسول (ص) والمسلمين آنداك، لذلك تفاجؤوا حيث جاءهم المسلمون من حيثُ لم يحتسبوا.
المسلمون على أطراف حصون خيبر:
سار النبيُّ (ص) بجيشه حتى بلغ أطراف خيبر، فمكثوا حتى حان وقتُ صلاة الصبح فصلى بالناس وانتظر حتى بدأ ضوء النهار ينبسط في الأجواء، وفي الأثناء خرج المزارعون من أهل خيبر بمساحيهم وأدوات الحراثة كما هي عادتهم في كلِّ يوم، وكانت معهم دوابُّهم ومواشيهم، فرمق بعض المزارعين جيش المسلمين فقالوا: محمدٌ والخميس، محمد والجيش يعني، محمدٌ وجيشه، فقال الرسول (ص): اللهُ أكبر، خربتْ خيبر، إنَّا إذا نزلنا ساحةَ قوم فساءَ صباحُ المنذَرين([1]). فأخبر بذلك عن الوعدٍ إلإلهي المحتوم بالنصر. أسرع المزارعون فدخلوا حصونهم، وأغلقوا الحصون، وأحكموا الإغلاق، ووقعت حالة استنفار عند اليهود.
تعداد حصون خيبر:
كانت حصونُ خيبر موزَّعةً على ثلاث مناطق من أرض خيبر، وهي على أقلِّ التقادير سبعة حصون، أو أنَّ السبعة منها كانت الأكثر تحصينًا ومنعةً وكانت بعض الحصون بمثابة القلعة المشتملة على عددٍ من الحصون. وكان أول الحصون من الجهة التي بلغها النبيُّ (ص) حصنًا يُسمى الناعم، وكان فيه أربعة آلاف فارس من قبيلة غطفان، وكانوا على الشرك جاؤوا لمؤازرة اليهود وحمايتهم مقابل تموينهم بتمر خيبر مدَّة سنة كاملة.
حصنُ الناعم ومفاوضة المسلمين لغطفان:
فصار على المسلمين أن يواجهوا يهود خيبر وحلفاءهم من قبيلة غطفان والذين يبلغ تعدادُهم أربعة آلاف مقاتل، وقد تحصَّنوا معهم في حصن الناعم، وجيش المسلمين لا يبلغ الألفين، عندها بعث الرسولُ (ص) سعد بن عبادة زعيم الأنصار، وقال له: اذهب إلى غطفان وقل لهم: أن يتركونا ويهود خيبر، ولهم تمرُ يهود خيبر سنةً كاملة، إذا انتصرنا عليهم، وصلَ سعدُ بن عبادة (رحمه الله) إلى الحُصن وطلب الحديث إلى زعيم قبيلة غطفان، وكان اسمُه عيينه بن الحصن، كان رأيه أنْ يدخلَ سعدُ بن عبادة إلى الحصن ليتمَّ التفاوضُ معه داخلَ الحصن ولكن مرحبًا -وهو أحد زعماء اليهود- رفض ذلك وقال: إذا أدخلتَ سعدًا إلى الحُصن تعرَّف على مواضع الخلل والفجوات ومواضع العورات التي في الحصن، فقال عيينة: كنتُ أريد أنْ أُدخل الرعب في قلبه، إذ أنَّه إذا دخل الحُصن فوجد مِنعته ارتاع قلبُه وداخله الوهن، فقال مرحب: لا، اخرج وتفاوض معه خارجَ الحصن.
خرج زعيم غطفان فتفاوضَ مع سعد فقال له سعد: خلُّوا بيننا وبين اليهود نُناجزهم فإذا انتصرنا عليهم فلكم علينا أنْ نُعطيكم تمرَ يهود خيبر مدَّة سنةٍ كاملة، فأبى، فقال عيينة: نحن معهم في حلف وبيننا وبينهم معاهدة، ولا يمكن أن ننقض عهدنا معهم، قال له سعد: إنَّ الذي نطلبه منك ستتطلبُه منَّا ثم لن تجده، فأُحذِّرك، إنَّ رسول الله (ص) قد وعده ربُّه خيبر، ولا يخلفُ اللهُ وعده، فأنصحُك أن تنسحب ومَن معك من قبيلة غطفان واتركونا مع اليهود، رفض عيينة ما عرض عليه سعد ودخل الحصن وأغلقوه([2]).
وعاد سعدُ بن عبادة إلى رسول الله (ص) وأخبره عمَّا دار بينه وبين زعيم قبيلة غطفان وأنَّه أبى عليه الاستجابة إلى عرضه، عندها عبَّأ النبيُّ (ص) جيشه وأعطى لواءه كما هي العادة إلى عليِّ بن أبي طالب (ع)([3]) فتقدَّم بها إلى حصن الناعم فلم يلبث طويلًا حتى اقتحم بمَن معه هذا الحصن وعندها هرب اليهود ومن معهم من رجال قبيلة غطفان ولم تقع بينهم وبين المسلمين مواجهة، وهكذا سقط الحُصن الأول في أيدي المسلمين.
كيف اقتحمَ عليٌّ (ع) بالمسلمين حصن الناعم:
كيف وقع ذلك وكيف دبَّ الرعبُ في قلوب رجال قبيلة غطفان فنكلوا عن المواجهة؟ إنَّ ذلك من مصاديق قول النبيِّ (ص): نصرت بالرعب، ولعلَّ اسم عليٍ (ع) كان هو السبب في دخول الرعب في قلوبهم.
يذكر المؤرخون أنَّ عليًا (ع) تقدم حتى بلغ الحصن، يعني أنَّه تجاوز خندقه فوصل إلى باب الحصن، وكان هذا الحصن من أكثر الحصون منعةً ولكنَّه ظاهرًا كان دون حصن القموص تحصينا، أمسك عليٌّ بباب الحصن فاقتلعه، فدبَّ الهلع والرعب في قلوب اليهود وحلفائهم من غطفان، لم يتوقعوا ظاهرا- أنْ يتمَّ اقتلاع باب الحصن بهذه السرعة بل لعلَّهم لم يتوقعوا أنْ يتمكَّن المسلمون من تجاوز الخندق الذي يفصلهم عن باب الحصن لكن الذي وقع أصابهم بالذهول حيث وجدوا أنفسهم -دون توقع- وجها لوجه مع المسليمن بعد أن اقتلع عليٌّ (ع) باب الحصن اقتلاعًا وكان أقصى خطر في خلَدهم أن يتمكن المسلمون بعد جهدٍ جهيد من فتح الباب وليس اقتلاعه من أصوله لذلك ركبوا كلَّ صعبٍ وذلول وهربوا وبذلك استراح المسلمون من مواجهة قبيلة غطفان والذين لم يكونوا سوى مرتزقة ولذلك حين جدَّ الجد لم يصمدوا.
عليٍّ يقتلع باب حصن الناعم ويرمي به بعيدًا:
يقول أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خرجنا مع عليٍّ حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برايته فلمَّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجلٌ من يهود فطرح ترسه من يده فتناول عليٌّ باب الحصن فترَّس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح اللهُ عليه ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفرٍ من سبعة أنا ثامنهم نجهد على أنْ نقلب ذلك الباب فما استطعنا أنْ نقلبه"([4])، كيف تمكَّن عليٌّ (ع) من اقتلاعه من أصوله لا ندري، وكان عليٌّ قد رمى به بعد اقتلاعه -كما في بعض الروايات- أربعين ذراعًا، الحصن الذي نتحدَّث عنه ليس حصن القَموص الذي أفادت الروايات أنَّ بابه الذي اقتلعه أميرُ المؤمنين (ع) يعجز عن حمله أربعون رجلًا أو يزيد وهو الذي عناه ابن أبي الحديد في قصيدته الشهيرة والتي جاء فيها:
يا قالعَ الباب الذي عن هزِّها ** عجزتْ أكفٌّ أربعونَ وأربع
يا هازم الأحزاب لا يُثنيه عن ** خوض الحمام مدجَّجٌ ومدرَّعُ
أأقولُ فيك سميدعٌ كلا ولا ** حاشا لمثلِكَ أنْ يُقال سميدعُ
بل أنت في يوم القيامة حاكمٌ ** في العالَمين وشافِعٌ ومشفَّعُ([5])
كلَّما اقتحم المسلمون حصنًا هرب اليهود إلى حصن آخر:
بقيت الإشارة إلى أنَّ المسلمين لمَّا أنْ دخلوا حصن الناعم وهربت قبيلة غطفان ومن كان معهم من اليهود حيث كان في الحصن منافذ ومخارج طوارئ فتسللت منها قبيلة غطفان وانسحبت من المعركة، ودخل اليهود إلى حصنٍ آخر، فثمة حصونٌ عديدة كما أشارنا لذلك منها حصنٌ يُسمَّى الشقَّة، وآخر يُسمَّى القلة، وثمة حصنٌ باسم ابن أبي الحقيق، وآخر يسمَّى البراء، وكذلك ثمة حصن الكتيبة وسلالم وحصون أخرى وكان كلَّما اقتحم المسلمون حصنًا ونجى من اليهود جماعة هربوا إلى الحصن الآخر.
ونظرًا لضيق الوقت نُرجئُ الحديث عن كيفيَّة فتح حصن القَموص والذي هو أمنع الحصون وأوسعها إلى جلسةٍ أخرى، فهذا الحصن الذي امتدَّ الحصار حوله قرابة الأربعة والعشرين يومًا هو الذي تسمعون أنَّ المسلمين قد عجزوا عن اقتحامه وكلَّما قصدته كتيبة من جيش المسلمين عادت أدراجها خائبة إلى أنْ كلَّف رسول الله (ص) عليًّا (ع) باقتحامه فذهب واقتلع بابه وفتح اللهُ خيبر على يديه.
الهوامش:
[1]- المغازي -الواقدي- ج2 / ص643، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص106، دلائل النبوة -البيهقي- ج4 / ص203.
[2]- لاحظ: المغازي -الواقدي- ج2 / ص650، امتاع الأسماع -المقريزي- ج13 / ص331.
[3]- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص106، ج3 / ص23، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- 42 / 74، الإرشاد -المفيد- ج1 / ص79، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص137، المناقب -الموفق الخوارزمي- ص359.
[4]- دلائل النبوة -البيهقي- ج4 / ص212، المغازي -الواقدي- ج2 / ص655، السيرة النبوية -ابن هشام- ج3 / ص798.
[5]- (الروضة المختارة في شرح العلويات السبع) -ابن أبي الحديد- ص140.