اللهم صل على محمد وآل محمد
رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "صَلاحُ الرَّعِيَّةِ الْعَدْلُ"
لا تقوم الحياة الإنسانية ولا تستقر، ولا يكون فيها طمأنينة وسكينة، ولا يرغد العيش ويتسع، ولا تُنال الحقوق، ولا يتقدم المجتمع ويتطور إلا إذا قامت الحياة على العدل، بل لولا العدل لما قام الكون كله، فالعدل هو الأصل فيه وعليه قام، قال رسول الله (ص): "بالعَدْلِ قامَت السَّماواتُ والأَرْضُ" وجاء عن الإمام عَلِيٍّ (ع): "العَدلُ أساسٌ بِه قِوامُ العالَمِ". فلولا العدل ما استقام أم الكون، ولا استقر على ما هو عليه من انتظام وحركة حيث أخذ كل موجود فيه مكانه وحجمه ودوره الملائم، فاتسق في مساره مع بقية الموجودات، لذلك لا نجد فيه خللاً يُذكر، وما قد نحسبه خللاً فهو في الواقع طور آخر من أطواره.
والعدل: وضع الشيء في موضعه، وإعطاء كل ذي حقٍ ما يستحق. وضده الظلم وهو: وضع الشيء في غير مواضعه، وإعطاء ذي الحق أقل من حقه الذي يستحقه، فمن بذَر قمحاً على صخرة ملساء قاصداً زراعته عليها فقد ظلمه، لأنه وضعه في موضع لا ينبت فيه، ومن فسق من الدين وارتكب المعاصي وانحرف عن صراط الله فقد ظلم نفسه، ومن لم يؤدِّ حقَّ بدنه بأن جوَّعه أو لم يعالجه من مرضه فقد ظلمه، ومن لم يؤدِّ حق نفسه بأن أهملها ولم يُزَكِّها فقد ظلمها، ومن أكل حق امرئ أو أعطاه أقل مما يستحق فقد ظلمه، ومن لم يؤدِّ حقوق رعيته ومنعهم من حقوقهم الواجبة من الاختيار، وحرية التعبير، ولم يحفظ كرامتهم، وكلفهم ما لا يطيقون فقد ظلمهم. ومن لم يساوِ بينهم أمام القانون وما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات فقد ظلمهم، ومن الظلم أن يساوي بينهم في الأجر فلكل عامل منهم أجره الذي يتناسب مع علمه وعمله ومسؤولياته، أو يساوي بينهم فيما يجب أن يمتازوا فيه عن بعضهم.
والعقل والشرع يأمران بالعدل وينهيان عن الظلم، فالعدل حَسَنُ ويجب أن يكون، والظلم قبيح ولا يجوز أن يكون. ولا يستوي من يعدل مع من يظلم، ومن يأمر بالعدل مع من يأمر بالظلم، قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..." ﴿النحل/ 90﴾. وقال تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا"﴿النساء/ 58﴾.
وإذا فالحياة كلها تقوم على العدل ولا يمكن أن تقوم على الظلم بحال من الأحوال، وبالخصوص الحياة الإنسانية فالإنسان أكثر الكائنات حاجة للعدل باعتباره كائنا مختاراً متوثبا طامحا جموحا في شهواته وأهوائه تصدر من تعديات وتجاوزات كثيرة، والإنسان أكثر الموجودات إدراكا لأهمية العدل، وهو الأوحد من بينها الذي ينادي بالعدل، وكل الثورات والنهضات الاجتماعية كانت ولم تزل تسعى إلى العدالة في مختلف الميادين سيما الميدان الاجتماعي، وكل التجارب الاجتماعية والسياسية والنُظُم الاقتصادية تهدف إلى العدل وتدعيه. بل إن كل الأنبياء والرسالة كان هدفهم الأسمى إقامة العدل والقسط في أممهم أو في الأرض كما هو الحال في دعوة النبي محمد (ص) قال تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..."﴿الحديد/ 25﴾. فقيام الحياة الإنسانية على العدل والقسط هو وحده الذي يوفر لها الأمان والطمأنينة العيش الرغيد، وهو وحده الذي يبلغ بها أعلى مراقي الكمال الإنساني.
وأولى وأقدر من يُجري العدل في المجتمع الحاكم لأن العدل في الرعية يحتاج إلى قوة تجريه تتمثل في القوانين العادلة، والحاكم العادل، والقضاء العادل، والقوة الإجرائية العادلة، والحاكم الذي يريد أن يدوم حكمه يجب أن يكون أحرص الناس على العدل لأنه يحمي سلطانه ويحمي المجتمع، إذ العدل أفضل وسيلة لسياسته، وفي هذا يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): "العَدلُ جُنَّةُ الدُّوَلِ" والجُنَّة هي الحمى الذي يحمي سلطة الحاكم، وجاء عن رسول الله (ص): "العَدلُ جُنَّةٌ واقِيَةٌ، وجَنَّةٌ باقِيَةٌ".
وإذا كان على الحاكم أن يعدل في رعيته، فعلى كل من له سلطة على الغير أن يعدل فيهم، فالمدير يجب أن يعدل بين موظفيه، والقائد الجند يجب أن يعدل بين جنوده، والأستاذ يجب أن يعدل بين طلابه، والأب يجب أن يعدل بين أبنائه، والزوج يجب أن يعدل مع زوجه، حتى راعي الماشية يجب أن يعدل مع ماشيته.
----------------------
منقول