اهل البيت الشباب العلم العلماء الامامة الامام الجواد
هذا الحشد الهائل من العلماء والفقهاء المتحلقين حول شاب صغير آمنوا من أعماق قلوبهم بإمامته وجدارته العلمية ومنزلته الدينية، يمثل درساً بليغاً للأجيال بأن الكفاءة العلمية لا تُقاس بالعمر او السابقة في الدراسة والتعليم، بقدر ما هي موهبة وجدارة تفرض نفسها على ارض الواقع، والامام الجواد يعطينا رسالة شفافة الى الشباب الطامح...
"من أصغى الى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس".
الإمام الجواد، عليه السلام
نعرف عن الإمامين الباقر والصادق، عليهما السلام، الفضل في إنشاء جيل من العلماء العباقرة نظراً لطول فترة الإمامة، الى جانب الظروف السياسية المساعدة، بينما الإمام محمد بن علي الجواد، الذي نعيش هذه الايام ذكرى استشهاده، لم تستغرق فترة إمامته فترة طويلة قياساً بسائر الأئمة المعصومين، وهو الذي مضى شهيداً في ريعان الشباب، في ربيعه الخامس والعشرين، رغم هذه الظروف غير المساعدة فانه نهض بدور محوري وأساس في تنشئة القيادة الوسطية بين الأئمة المعصومين، وقاعدتهم الجماهيرية، وهم؛ العلماء.
الامام الجواد كان حلقة الوصل بين أبيه؛ عالم آل محمد، الإمام الرضا، وبين ابنه الإمام القادم؛ الامام علي الهادي، ثم الامام العسكري، وختاماً بالإمام الحجة المنتظر، عليهم السلام، وبينا هو يطوي مراحل حياته القصيرة كان يتطلع بدقّة متناهية على آخر لحظة في وجود الامام المنتظر بين افراد الأمة، ويفكر بالمسؤولية الرسالية والحضارية بإعداد جيل جديد من العلماء والمحدثين ليكونوا علماء و وكلاء الأئمة من بعده في قادم الأيام، ورأسماله الثر من "مدونات آبائه الغُر الميامين، وقد رووها مسندة عن جدهم أمير المؤمنين، عليه السلام، مع ما تعلمه و رواه مباشرة عن أبيه الإمام علي بن موسى الرضا". (الامام محمد الجواد- الشيخ محمد حسن آل ياسين).
إنها مهمة شاقّة للغاية في ظروف ملؤها النفاق والازدواجية والدجل الديني، وهي المرحلة الخاصة بالمأمون العباسي تحديداً، حيث كان الاخير يسعى لابتداع مذهب وعقيدة، غير مذهب أهل البيت، يتخذها غطاءً شرعياً لوجوده كـ "خليفة" وحاكم على المسلمين، الى جانب مساعيه لإغراق الساحة الثقافية والفكرية بالمؤلفات اليونانية والهندية بدعوى الانفتاح على علوم الآخرين وما عندهم من فنون وآداب، وفي معظمها تتقاطع مع الاسلام فكراً وعقيدة، فكان الإمام الشاب اليافع بقامة جبل أشمّ أمام هذه الرياح، وحتى يثبت جدارته العلمية وأحقيته في قيادة الامة، أجاب عن حوالي ثلاثين ألف مسألة فقهية وهو ابن عشر سنين، ولما سأله المأمون ذات يوم: ما علمك؟! أجاب بشكل قاطع: "سَلني عن اخبار السماوات"، وهي رسالة واضحة للمأمون ولكل متطاول على علوم الأئمة المعصومين، بأنهم أسمى وأرفع من العلوم المادية التي تأتي بالتجربة، والتحليل الذهني، والاحتمالات، لأن مصدرها {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
الى جانب مسعاه لمواجهة الافكار الوافدة، والتديّن المزيف، فانه، عليه السلام، انشغل بإعداد القيادة العلمائية من خلال تفعيل تراث أهل بيت رسول الله، لتكون لهم قاعدة معرفية وفكرية رصينة، ورصيد يرفدون به أفراد الأمة، وكان منها؛ التوحيد، والسنّة النبوية، والفقه والاحكام الشرعية، وتهذيب النفس.
1- التوحيد
انها من المباحث المحورية في تلك البرهة الزمنية حيث تشابكت الافكار والعقائد، والتبس على الكثير وجه الحقيقة بسبب تراجع الإيمان بالغيب بعد قرنين من بزوغ فجر الاسلام على يد رسول الله، مما جعل استدلالات الإمام عقلية لتقريب الصورة الى الاذهان.
سأله رجلٌ: كيف سمينا ربنا سميعاً؟
قال، عليه السلام: "لأنه لايخفى عليه ما يُدرك بالأسماع، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس، وكذلك سميناه بصيراً لأنه لايخفى عليه ما يُدرك بالابصار من لون او شخص او غير ذلك، ولم نصفه ببصر لَحْظ العين، وكذلك سمينا ربنا قوياً لا بقوة البطش المعروف من المخلوق، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه، ولاحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصاً كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزاً".
2- السنة النبوية
وأهميته تنبع من مسألتين طالما أرقت الأمة آنذاك –وماتزال-؛ الكذب على رسول الله في احاديث مزورة، والمسألة الاخرى؛ الاستغناء عن الاحاديث الواردة عنه، صلى الله عليه وآله، والاكتفاء بالاجتهادات الشخصية والاستنتاجات العقلية الخاصة، وايضاً؛ الاعتماد على تفاسير القرآن الكريم، بذريعة التخلص من مشكلة الاحاديث غير الصحيحة.
وقد أعطى الإمام الجواد لنا درساً واضحاً في كيفية التعامل مع الاحاديث، وهو التطابق مع القرآن الكريم، فقد أجاب على سؤال يحيى بن أكثم، أحد أبرز علماء البلاط العباسي في عهد المأمون، بأن ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي أنه نزل جبرائيل على رسول الله، وقال: يا محمد، إن الله –عزوجل- يقرؤك السلام ويقول لك: سَل أبابكر هل هو راضٍ عنّي فاني راض عنه! فاستشهد الامام في جوابه بحديث رسول الله بأن "كثرت عليّ الكذابة وستكثر بعدي، فاذا اتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله –عزوجل- وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به"، ثم قال لذلك "العالم": يقول الله –تعالى- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، فالله –عزوجل- خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سرّه؟! هذا مستحيل في القول".
3- الفقه والاحكام الشرعية
تسوّر حول الإمام الجواد ثلّة من خيرة العلماء والمحدثين ممن انتهلوا من ينبوع علمه النبوي في مختلف المجالات، فتخرج على يديه عشرات الرواة والمحدثين الذين حولوا رواياتهم عن لسان الإمام الجواد الى مؤلفات قيّمة في العقائد، والفقه، والأخلاق، والتفسير، وقد أحصى الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه المشار اليه؛ 107 من رواة الحديث عنه، عليه السلام، أحدهم، وهو أحمد بن محمد بن خالد البرقي الكوفي المتوفي سنة 274أو 280هـ على اختلاف الروايات، خلف 114كتاباً بحث فيها الأخلاق، والآداب، والاحكام الشرعية، والجغرافيا، والتفسير، وصحة البدن، واللغة العربية.
هذا الحشد الهائل من العلماء والفقهاء المتحلقين حول شاب صغير آمنوا من أعماق قلوبهم بإمامته وجدارته العلمية ومنزلته الدينية، يمثل درساً بليغاً للأجيال بأن الكفاءة العلمية لا تُقاس بالعمر او السابقة في الدراسة والتعليم، بقدر ما هي موهبة وجدارة تفرض نفسها على ارض الواقع، والامام الجواد يعطينا رسالة شفافة الى الشباب الطامح نحو مراقي العلم والمعرفة لأن يثق بنفسه وبقدراته، وفي نفس الوقت يحافظ على صلة الوصل بينه بين جذوره الاجتماعية والدينية ليستقي منها التجارب والعلوم.
شبكة النبا المعلوماتية
تعليق